حين زرع الغرب بذور العداء للسامية

غير مستبعَد، بل لعله أكثر ترجيحاً من وجهة تعليل منطقية، أنّ أنساق التوحش الهمجي القصوى التي اكتنفت وتكتنف حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ قد وفّرت ميادين إضافية لقراءة وإعادة قراءة المسائل المرتبطة بمفهوم العداء للسامية. الجديد فيها، والنوعيّ على نحو خاصّ، بات يتصف بجسارة بحثية وعلمية طارئة، أو غير مسبوقة على الأقلّ؛ في جانب أوّل مركزي وحاسم هو الذهاب أبعد من التنميطات التقليدية، والخلاصات الافتراضية، خاصة ما كان منها أقرب إلى تضليل العقول ومصادرتها بدل تنويرها وتنشيطها.

وفي نطاق ما له من محاسن ومزايا كثيرة، وما عليه من مظانّ ومساوئ أقلّ، قد يصحّ القول بأنّ كتاب إيفان ج. ماركوس المعنون «كيف أصبح الغرب معادياً للسامية: اليهود وتشكّل أوروبا، 800 ــ 1500»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة برنستون الأمريكية؛ هو المثال الأحدث في هذا المضمار. وللمرء أن يبدأ من مستهلّ مشروع، منصف أيضاً وعادل، هو أنّ الرجل حجّة في تاريخ العلاقات اليهودية مع أطراف العالم عموماً، والديانتين المسيحية والإسلامية خصوصاً؛ وهو يدرّس في برنستون تاريخ تلك العلاقات خلال العصور الوسطى وأوروبا الحديثة. وله، بين مؤلفات كثيرة مهمة، «طقوس الطفولة: الثقافة والتثاقف اليهوديان في أوروبا العصور الوسطى»، و»دورة الحياة اليهودية: شعائر النشأة من التوراة وحتى الأزمنة الحديثة».
وماركوس انطلق من واقع أوّل، اجتماعي أو مجتمعي قبل أن يكون دينياً، مفاده أنّ اليهود في أوروبا، وعكس التصوّر الشائع، لم يكونوا ضحايا مستكينين أمام المسيحيين، بل كوّنوا مجموعة مصرّة على فرض ذاتها، وشكّلوا حضارة موازية في قلب الأكثرية المسيحية اللاتينية، وحاولوا الاستئثار بلقب «شعب الله المختار»، وأسفرت هذه المبارزة عن صعود ثقافتَين متنافستين، وعن زرع البذور الأولى للأشكال الحديثة من العداء للسامية. بذلك، يتابع ماركوس، تقبّل اليهودُ المسيحيين في صيغة «ممارسين مضللَّين» لعادات يهودية عتيقة، لكنهم اعتبروا الديانة المسيحية وثنية المحتوى. المسيحيون، من جانبهم، نظروا إلى اليهود أنفسهم، وليس إلى الديانة اليهودية، نظرة احتقار؛ موضوعها يهودي فعليّ أو متخيَّل، تابع أدنى نظرياً، لكنه طامع إلى تأكيد ذاته، في شخصية العدوّ من الداخل.
لذا فإنّ النسخة الحديثة من العداء للسامية، المستندة إلى يهودي متخيَّل جبّار القوة وعالميّ الهيمنة، ليست أقلّ من تحويل لذلك الحقد الذي ساد خلال القرون الوسطى. وفصول الكتاب التسعة تناقش مسارات هذا التحوّل على أصعدة شتى، تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية، يمكن أن تبدأ من هجرة اليهود إلى أوروبا ودور الخلافة العباسية في تزويد الملك شارلمان بأوّل حاخام يهودي، ولا تنتهي عند طرد يهود أوروبا إلى مواطن إسلامية مشرقية.
«ورغم أنّ اليهود والمسيحيين ابتكر بعضهم بعضاً خلال عصور سحيقة عن طريق تخيّل آخَر معكوس استكمل صورتهم هم عن أنفسهم»، يكتب ماركوس، «فإنّ تغيّب اليهود عن معظم أرجاء أوروبا خلال العصور الوسطى عنى أنّ أوروبا المسيحية سوف تتعامل الآن مع يهود متخيَّلين فقط». فقبل طرد اليهود كان تخيّل اليهودي في صفة آخَر «يخدم هدف الحفاظ على التضامن ضمن الهوية المسيحية. وكذلك صيانة المجتمع المسيحي». منطقي، والحال هذه، أنّ التخيّل لم ينطوِ مع رحيل اليهود، وتحوّل بالتالي إلى «جملة تقاليد تواصلت حتى العصور الحديثة ولعبت دوراً في تخيّل اليهود على امتداد الغرب».
والحال أنّ مستويات الانحطاط التي بلغتها مجتمعات الغرب المعاصرة، في أوروبا والولايات المتحدة، بصدد قهر الرأي وحريات التعبير وأشكال الحراك المناهضة لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، على مستوى الحكومات وشرائح واسعة من ممثلي المجتمع المدني ومؤسساته؛ إنما تعيد التذكير بمقدار تبدّل الأحوال رأساً على عقب: من تمكّن اليهود، إلى تأثيمهم وطردهم وزرع البذور الأبكر للعداء للسامية، إلى إعادة احتضانهم وتسهيل إقامة «دولة يهودية» في فلسطين، إلى تكريس «الحلّ النهائي» ومعسكرات الهولوكوست، وصولاً أخيراً إلى خلق ضحية انقلبت إلى جلاد استعماري واستيطاني وعنصري ومجرم حرب…
ولقد شاء ماركوس التوقف عند نماذج شهيرة من الآداب الأوروبية التي بشّرت بالعداء للسامية، مباشرة وبوضوح أو مواربة والتفافاً، في نماذج مسرحية كريستوفر مارلو «يهودي مالطا» ومسرحية وليام شكسبير «تاجر البندقية». لكنّ الكثير من النصوص لأدباء كبار ترعرعت على أعمالهم أجيال وأجيال من ناشئة أوروبا تطفح بأنساق شتى من الحكايات والأقاصيص والقصائد التي تواصل زرع بذور العداء للسامية. وحوادث رئيسة الراهبات، في «حكايات كانتربري» الشهيرة، 1387، تستعيد أهوال فطير صهيون حيث يُمزج عجين الفصح اليهودي بدم طفل مسيحي؛ فيصبح المرابي اليهودي، عند مارلو أو شكسبير، أقرب إلى مصاص دماء عند الشاعر والقاضي والدبلوماسي جيفري شوسر.
وفي الفصل السابع من كتابه، وجاء بعنوان «جماليات ثقافية»، يستعرض ماركوس سلسلة تنميطات غربية اقترنت بشخصية اليهودي، تشمل الثياب (وكان شائعاً قول سائر: «أتصنع الثيابُ اليهوديَ، أم اليهودي يصنع الثياب»)، والعادات الجنسية، وإشكالية الاهتداء الديني، وأمثولة الجميل عند المسيحي مقابل اليهودي… سواها كثير، أين منه ما يُتهم به العرب والمسلمون في عدائهم (المزعوم والكاذب والمزوّر) للسامية.

وسوم: العدد 1091