عن بلاغة صمت النظام السوري

ظهرت في الأسابيع الأخيرة للمرة الأولى تساؤلات حول امتناع النظام السوري عن أيّة مشاركة جدّية، تنتظم في إطار عمليات ما يُسمّى «محور المقاومة»، مع كلّ التوتّرات الهائلة الراهنة.. وسبقت ذلك في الأعوام الأخيرة مظاهر الحيرة والاستغراب والسخرية من امتناع النظام عن الردّ، أو التفاعل مع الغارات الإسرائيلية المستمرّة على الأراضي السورية، ضدّ حزب الله وداعمه الإيراني، وكلّ قوافل التسليح والتذخير، التي تمرّ عبر البادية السورية، أو مطارات دمشق وحلب وبيروت، ومن اكتفائه بالاحتفاظ بحق الردّ «في المكان والزمان المناسبين».

وأفرجت إسرائيل ـ بالصدفة – عن بعض وثائق حرب أكتوبر، وأيضاً أوراق وبروتوكولات اتفاق فصل القوات، الموقّع بحضور ممثّلي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في 31 أيار/مايو، منذ خمسين عاماً – وبضعة أسابيع الآن- من قبل الجنرال حكمت الشهابي رئيس الأركان السورية آنذاك، ونظيره الإسرائيلي. ذكر أن هنالك تعهّدات بالامتناع عن تيسير أية عمليات «إرهابية» خلف خطّ الفصل من قبل الجانب السوري، أمام الجانب الأمريكي أولاً، وبمباركة روسيّة رسمية عند التوقيع.. وعلى الهامش هنا، لا يتردّد السوريون كثيراً عند التفكير بعلاقة ذلك باستمرار نظام الأسدين الوالد والابن طوال المدّة نفسها، ويستحضرون الأطراف الأربعة معاً أمامهم.

يقولون في إسرائيل إن نتنياهو وحلفاءه في الحكومة ما زالوا على عهدهم في تفضيل بقاء الأسد ونظامه، على عكس الدولة العميقة، وربّما بعض المعارضة هناك

هذه مقدّمة للبحث في أسباب هذا الصمت الصارخ حالياً، في ظلّ الضجّة الكبرى ما بين إسرائيل وإيران، بعد عمليات الاغتيال التي تصاعدت في مطلع نيسان/أبريل الماضي على القنصلية الإيرانية في دمشق، وخسارة مجموعة من كبار ضباط الحرس الثوري، واكتملت وبلغت ذروتها مع اغتيال محمد الضيف وفؤاد شكر وإسماعيل هنية. فكان الردّ بالتهديد بردود متواقتة تعكس وحدة الساحات، استثنت الساحة التي يمثّلها النظام السوري، واكتملت في غزّة، بعد أن ذكر- بالخطأ كما يبدو وبمبادرة من البعض – في الساعات الأولى لتلك الصدمة. لمعالجة الموضوع، لا بدّ من السير مع إحدى الثلاثيات، التي لا تُتابع كثيراً، وهي التي تضمّ روسيا وإيران والنظام السوري، وآليات تفاعل تلك الأطراف وتلاقيها أو تعارضها، تجاذبها وتنافرها.

دخلت روسيا في حرب على أوكرانيا، وهي مغامرة جديدة ونوعية في حياة رئيسها المستدام فلاديمير بوتين، تستهلك معظم الانتباه والطاقات والموارد، اضطُرّت موسكو إثرها لسحب منظومة صواريخ الدفاع الجوي إس- 300 وبعض قواها العاملة في إطار مغامرتها السابقة في سوريا، التي تصاعدت بقوة، وبروح هجومية مباشرة، في أيلول/سبتمبر 2015. في أثناء ذلك، كان مشروع «فاغنر» قد انتهى أيضاً مع فوضى القتال التي مرّت بتجربة قاسية مع الطيران الأمريكي، وفوضى الاستثمار في النفط والفوسفات السوريين، حتى فضيحة انتفاضة بريغوجين ومصرعه. كما وصل مشروع «آستانا» الذي جمع تركيا إلى إيران مع روسيا وبقيادتها، إلى نقطة ركودٍ وتوافق شفوي على توزّع القوى وتنظيم علاقاتها على الأرض، مع استبعاد تطوّره نحو حلّ نهائي للمسألة السورية يختلف عن حالة «اللاحلّ» السياسية الراهنة، بسبب استنكاف واعتزال الولايات المتحدة النسبي، ولكن العنيد. لقد تمدّدت إيران في سوريا حين لاح أمامها فراغ تركته روسيا هناك، وأحكمت قبضتها أكثر على المحور شرق – غرب الذي يصل مباشرة من الحدود العراقية إلى اللبنانية، لتمتين إمكانياتها وإمكانيات حزب الله الاستراتيجية، لكنها تمدّدت أيضاً إلى الشمال لتحمي استثماراتها وفتوحاتها الأيديولوجية أيضاً، وكذلك لم تهمل تكريس وجودها بتهديد «الستاتوكو» السوري- الإسرائيلي القديم في الجنوب الغربي عند الجولان المحتل. لم يستمرّ تعارض المصالح والرؤى الروسية الإيرانية بذلك وحسب، بل أصبح في مساحة مختلفة سياسياً، تخلص فيه روسيا لإرث اتفاق فصل القوات، وتخدم توافقها مع الإسرائيليين على حرّيتهم في الأجواء السورية، ضدّ إيران وحزب الله والقوات السورية نفسها، حين تتقاطع عملياتياً، لكنّ ذلك التعارض لم يصل إلى مستوى تعطيل التنسيق الروسي – الإيراني لضبط الخطى على الأرض السورية ومنع تفاقمها، ومن أجل التعاون التسليحي المهمّ في الحرب الأوكرانية، ولخدمة المحور الذي يضمّ الصين معهما في مواجهة الغرب وعقوباته من ناحية ثالثة.

على الرغم من أن روسيا «لا تخطط لمغادرة سوريا، لكنّها أصبحت غير راغبة بشكل متزايد في التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، سواء عسكريا أو ماليا». تحت وطأة ما فعلته وتفعله في أوكرانيا؛ كما وَرَد في مقالة في «كارنيجي بوليتيكا» إلّا أنها تقف مباشرة – مع عوامل أخرى – وراء برود النظام أمام الانتهاكات الإسرائيلية. ولم تكتف بذلك، بل إن الروس دفعوا بقناعة إيران، رغم التنافس وتعارض المصالح، حتى تأييد ذلك الموقف السلبي، أو حتى تفهّمه على الأقل.

من ثمّ تستند إسرائيل بقوة إلى ذلك الحياد الروسي، وإلى صمت النظام في عملياتّها السورية، يساعدها الروس جيّداً إذ يشدّدون على الامتناع عن مشاركة الإيرانيين وحزب الله في استراتيجيتهما المتصاعدة باستمرار، وكذلك على منع الطرفين من التمدّد، حيث لا ينبغي لهما ذلك على خطوط التماس مع التزامات الروس والنظام مع إسرائيل، كلٍّ لمصلحته الخاصة، وكذلك لمصلحتهما المشتركة.

تراقب الأطراف كلّها ما يجري في غزّة والضفة الغربية وإسرائيل، حيث يتوتّر المشهد ويحتدم، فهنالك من جهة غزة شعب يُذبح وتُدمّر بناه التحتية بعنف هائل يذكّر بعنف النظام السوري منذ عام 2011؛ وفي الضفة الغربية تصعيد لهجمات المستوطنين والاستيطان والقوى القومية الدينية الإسرائيلية وعنفها وعنصريّتها المفتوحة – والوضع في الموقعين يجعل من احتمال استمرار مشروع حلّ الدولتين أثراً بعد عين؛ لكنّ المهمّ أيضاً الالتفات إلى الوضع الداخلي الإسرائيلي وعلاقته مع أطراف المعضلة السورية ومجرياتها، وخصوصاً مع النظام السوري واستراتيجية الأسد بركونه إلى الرصيف صامتاً.

في عام 2018، جاء في تحليل لزفي بارعيل في صحيفة «هآرتس» بعنوان «أسد سوريا أصبح حليفاً لإسرائيل»، أن إسرائيل» تريد بقاء الأسد في الحكم، وأن كلاً من إسرائيل والرئيس السوري يعتمدان على روسيا، وعندما تقوم إسرائيل بتهديد سوريا بسبب إيران، فهي تهدّد بوتين». وفي أواخر نيسان/أبريل الماضي، ورد في تقرير مشترك بين وكالة الصحافة الفرنسية و»تايمز أوف إسرائيل»، أن إسرائيل هدّدت بإسقاط الأسد وتدميره إذا تورّط في حرب غزّة، كما قال دبلوماسي فرنسي، رغم تقديرها للوضع الصعب للأسد في الموازنة بين الموقفين الروسي والإيراني. وفي مقالة أخرى للكاتب نفسه في أول الشهر الماضي، جاء إن ما يُسمّى بـ»محور المقاومة» ينبغي أن يقوم بعمله من دون النظام السوري؛ ونقل عن خبير عربي تساؤله ساخراً حتى «إن كان الأسد بالفعل عضواً في ذلك المحور»، مستشهداً بردّ فعل النظام على قصف القنصلية الإيرانية واغتيال الجنرال زاهدي وأصحابه. يقولون في إسرائيل إن نتنياهو وحلفاءه في الحكومة ما زالوا على عهدهم في تفضيل بقاء الأسد ونظامه، على عكس الدولة العميقة، وربّما بعض المعارضة هناك. وربّما كان ذلك طبيعياً، ليس استناداً إلى هدوء الجبهة المذكورة لنصف قرن وحسب، بل أيضاً لأن هنالك «هارموني» بين سياسات نتنياهو وأطراف حكومته المتطرّفة من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى، في إعادة إنتاجها واستثمارها في التوتّر وفي العنف والحرب الدائمة، لاستدامة الحكم وتأجيل المحاسبة من يومٍ إلى يوم، في الطرفين.

يعتمد كلاهما أيضاً على الإيحاء بأن خطر الإسلاميين المتطرفين المحدق بهما، خطر على العالم، الذي يحميانه، إذ يقومان بما يقومان به، حين يمارس أحدهما العنف العاري والشامل ضد شعبه ويُدخل المنطقة في نفق معتم لا مجال حتى للرؤية فيه، ويتفرّج الآخر عليه باحترام.. ثمّ يأتي دور الثاني بالمبادرة والحرب، ليتفرّج الأول بدوره.. وبصمت بليغ!

وسوم: العدد 1091