سطوات وشهوات في بروتوكولات صهيونية

وجدتْ الصهيونية في الدين هوىً نرجسيًا استطاعت من خلاله مغازلة النزعات المنغلقة على نفسها بشتى الطرق، ومنها المال نقدًا وقرضًا وذهبًا. وكان لاعتياش الصهيونية على الدين أن جعلت منه غطاءً، تؤجِج من خلاله الفتن والشرور وبأشكال شتى عسكرية وغير عسكرية بدءًا من احتلال أرض فلسطين وطرد أهلها منها ومرورًا بالمؤامرات والاغتيالات واحتكار الشركات والاستثمارات وانتهاءً ببث البرامج الموجهة بأساليب مخططة تشيع الرذيلة وتنتهك القيم وتقوض دعائم الدين.

وما من شك في أن المصدر الذي يمدُّ الصهيونية بالحياة هو الذهب الذي – تحت بريق لمعانه – اجتمع ثلاثمئة من أشنع ملاكه (سموا حكماء صهيون) ليقيموا مؤتمرهم الصهيوني الأول عام 1897 وتزعمهم حامل لواء (الأصفر اللامع) ومبتدع الشرور ثيودور هرتزل وقرروا أن يستعبدوا العالم ويقيموا نظامهم العالمي، ومن خلاله يبيحون فعل كل ما هو فاسد ومنكر. ومنذ ذاك المؤتمر المشؤوم ووهج المعدن الأصفر، يُشعل في الصهاينة دوافع الجشع والتملك والهيمنة. وما زالوا إلى اليوم مستمرين في دوافعهم وتنفيذ مخططاتهم، متخذين من مفردات (يهود ويهودية والأممية – هي تسمية يطلقها اليهود على غير اليهود -) وسائل يمررون عبرها مآربهم. فما الذي أقرَّه ذلك المؤتمر؟

هذا ما يجيب عنه كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» وقد شاءت الأقدار أن تتسرب صفحاته سرًا وتترجم إلى لغات مختلفة. وعلى الرغم من أن بعض فقرات هذا الكتاب تُرجمت إلى اللغة العربية، ونُشرت في عدد من صحف ومجلات الثلث الأول من القرن العشرين، فإن الكتاب ظل مجهولًا حتى قام الشاعر والكاتب محمد خليفة التونسي بترجمته ترجمة كاملة، صدَّرها بدراسة تحليلية مسهبة، ونشرها لأول مرة عام 1951 بتقديم عباس محمود العقاد الذي نعت الكتاب بالعجيب والجهنمي. واستغرب من تأخر ترجمته إلى العربية (مع أن البلاد العربية أحق البلاد بأن تعرف عنه الشيء الكثير).

إن العجب في كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» لا يأتي مما فيه من تلفيق تاريخي وتزوير ديني وعلمي، بل أيضا من أنه بُني على تعاليم يهوه القديمة. وكان الفارسي ماني مؤسس الديانة المانوية قد أنكر في القرن الثالث الميلادي هذه التعاليم واعتبر يهوه شيطانًا، وتعاليمه وسوسة شيطانية. وما يمتاز به الكتاب أن موضوعاته لا تتعدى الحرب والغزو والسياسة والصيرفة والفتنة وتكثر فيه الاستباقات والاستشرافات المستقبلية. وما بين رحلة الكتاب العجيبة والمؤامرة الخطيرة التي تضمنتها بنوده، يبزغ الذهب فاعلا مركزيا. الذهب الذي دفعه روتشيلد – كما يذكر محمد خليفة التونسي – إلى رئيس وزراء بريطانيا اليهودي دزرائيلي فاشترى لبلده نصيب مصر في أسهم قناة السويس من الخديوي إسماعيل عام 1875 في مقابل أن تكون بريطانيا إلى صف الصهاينة في احتلال فلسطين وأن تساعدهم في إنشاء وطن قومي وتفتح لهم أبواب الهجرة التي تولى أمرها روتشيلد نفسه وهو الذي كان متخصصا في علم الحيوان، فأسس أولى المستعمرات الاستيطانية في القدس. وبالذهب نَفَذَ الصهاينة إلى أمريكا ونجحوا في جعل الدولار الأمريكي أساس النقد العالمي.

وإذا كان الغرب قد اتخذ من ميكافيللي دستورا فيه الغاية تبرر الوسيلة، فإن الصهاينة اتخذوا من بروتوكولات حكماء صهيون دستورًا فيه المادة (الذهب) الغاية والوسيلة أيضا. والإيمان بالمادة يعني فعل كل الفظائع وممارسة الجشع بأنواعه والمغالبة اللاأخلاقية إلى أقصى حدودها.

يتضمن كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» أربعة وعشرين بروتوكولًا، ولا يكاد أي واحد منها يخلو من ذكر الذهب وبأسلوب خطابي، يكون حينا جمعيا بضمير نا المتكلمين ويكون حينا آخر مفردا بضمير المتكلم. فأما البرتوكول الأول فمكتوب بنزعة إرهابية خالصة ويفتتح بالقول (خير النتائج ما ينتزع بالعنف والإرهاب لا بالمناقشات الأكاديمية) ويصف اليهود بذوي الطبائع النبيلة وواجبهم كبح (الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس) وما دامت القوة الوحشية قديما هي القانون، فالقانون حديثا – حسب هذا البروتوكول- هو هذه القوة ذاتها!

ويحدد البروتوكول فحوى الذهب بأنه سلطة، ومعها (يذهب ذاك الزمن الذي كانت فيه الديانة هي الحاكمة) وإذا كان لسلطة الذهب أن تكون فاعلة، فلا بد أن يحكم الشعب نفسه حكما ذاتيا، ليصير (بعد فترة وجيزة رعايا بلا تمييز ومنذ تلك اللحظة تبدأ المنازعات والاختلافات التي سرعان ما تتفاقم فتصير معارك اجتماعية وتندلع النيران في الدول ويزول أثرها كل الزوال. وسواء أنهكت الدولَ الهزاهزُ الداخلية أم أسلمتها الحروب الأهلية إلى عدو خارجي فإنها في كلتا الحالتين تكون قد خُرِّبت نهائيا كل الخراب وستقع في قبضتنا) ص113.

إن هذه التدابير يحوكها عقل لا يرى أمامه سوى الذهب فلا يشعر بطبيعته البشرية، ليكون وريث إبليس الذي أغراه توهج خلقهِ من نار ورأى نفسه أفضل من آدم فلم يسجد له، ولذلك رجمه الله تعالى وجعل من نسله الشياطين والأبالسة. وليس غريبا اشتراط البروتوكول الثاني (أن يكون العنف هو الأساس.. يجب أن يكون شعارنا كل وسائل العنف والخديعة) ص118. وأن تكون الصحافة طريقا إلى تكديس الذهب حتى وإن كلفهم ذلك أنهارا من الدم. أما الشر – ويا للمصيبة – فوسيلة وحيدة للوصول إلى هدف الخير. ليس ذلك حسب، بل من المهم تعلّم (كيف نصادر الأملاك بلا أدنى تردد إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة) ص 119.

ويرمز البروتوكول الثالث إلى الشيطنة الصهيونية بالأفعى التي بقي – كما يرى مُلاّك الذهب الصهاينة – أمامها مسافة قصيرة وتتم دورتها (وحينما تغلق هذه الدائرة ستكون كل دول أوروبا محصورة فيها بأغلال لا تُكسر) والذهب يجلب المال الذي به يحكمون الطوائف ويستغلون ما يؤججه الفقر من مشاعر الحسد والبغضاء (وهذه المشاعر هي وسائلنا التي نكتسح بها كل من يصدوننا عن سبيلنا) ص127. ومن ثم يقودون الأمم من خيبة إلى أخرى حتى يتمكنوا من (جعل ملكهم الطاغية من دم صهيون هو المالك الذي يحكم العالم).

ولا تختلف البروتوكولات الأخرى في لهجتها الهمجية وتعجرفها الوحشي عما سبقها، بل هي تزداد إيغالا في ما توجبه من موجبات لعل أشنعها هذا التشبيه المقرف (يجب ان نركِّز في عقولنا أن هذه الحيوانات تستغرق في النوم حينما تشبع من الدم وفي تلك اللحظة يكون يسيرا علينا أن نسخرها وأن نستعبدها وهذه الحيوانات إذا لم تُعط الدم فلن تنام بل سيقاتل بعضها بعضا) ص 130. والذهب يجلب رؤوس الأموال وبها تعمى الأبصار وتتعملق الجسوم وتتحجر النفوس وتصبح كالحجارة أو أشد قسوة. وما من مصدر للذهب سوى البطش والاستبداد وأن (الصراع من أجل التفوق والمضاربة في عالم الأعمال سيخلقان مجتمعا أنانيا غليظ القلب منحل الأخلاق.. وستكون شهوة الذهب رائده الوحيد وسيكافح هذا المجتمع من أجل الذهب متخذا اللذات المادية التي يستطيع أن يمده بها الذهب مذهبا أصيلا وحينئذ ستنضم إلينا الطبقات الوضيعة ضد منافسينا الذين هم الممتازون من الأمميين دون احتجاج بدافع نبيل) ص 132.

وتؤكد بعض بنود البروتوكول الحادي عشر أن حكماء صهيون كارهون لغيرهم، يتخذون من اضطهاد طائفة اليهود وسيلة تمكنهم من تحقيق مآربهم (من رحمة الله أن شعبنا المختار مشتت وهذا التشتت الذي يبدو ضعفا فينا أمام العالم قد أثبت أنه كل قوتنا التي وصلت بنا إلى عتبة السلطة العالمية) ص159.

وإذا كان للذهب وسيلة، فإن الغايات لن تكون في المجمل إلا حطًا للأخلاق. ومن مؤشرات هذا الحط أن (الأدب والصحافة أعظم قوتين خطيرتين ولهذا السبب ستشتري حكومتنا العدد الأكبر من الدوريات) ص162 (أي إنسان يرغب في الاحتفاظ بمنصبه سيكون عليه كي يضمنه أن يطيعنا طاعة عمياء) ص179 و(أن الثورة ليست أكثر من نباح كلب على فيل) ص193.

إنّ بروتوكولات حكماء صهيون هي محاضر خطب تريد الشر بالعالم، وقد استجاب إليها من استجاب، فصار عبدًا من عبدة الذهب. وبذلك اختفت الحكمة من قاموس حياتنا المعاصرة. وما احتلال فلسطين سوى تطبيق عملي لبروتوكولات بني صهيون، ولعل ثمة تطبيقات قادمة.. فالجشع والسطوة والشهوة لا حدود لها.

وسوم: العدد 1092