واشنطن وتسليح الاحتلال: بند راسخ على لائحة إبادية
تقول الأرقام إنّ شهر آب (أغسطس) المنصرم كان الشهر الثاني، منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، من حيث ضخامة شحنات الأسلحة الأمريكية إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكثافة رحلات النقل الجوي والبحري لأصناف التسليح: يوم 26 من ذلك الشهر سجّل الرحلة رقم 500 للناقلات عبر الجو، والرحلة رقم 107 للناقلات عبر البحار؛ بما يعادل 50 ألف طن من المعدات العسكرية المختلفة. وهذه الأرقام من تقرير نشرته صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية مؤخراً، وبما يتناقض مع (وعملياً: يكذّب الكثير من) مزاعم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بصدد تأخير بعض شحنات الأسلحة؛ ويصادق على تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أواخر حزيران (يونيو) الماضي بأن «المسألة» سوف تُعالج إيجابياً خلال أجل قريب.
إضافة إلى شحنات الأسلحة، ومنذ اغتيال فؤاد شكر في بيروت وإسماعيل هنية في طهران، وسّعت واشنطن نطاق تواجدها العسكري في المنطقة، تحسباً لما توعدت به طهران و«حزب الله» من ردود ثأرية ضدّ دولة الاحتلال: اثنتان من حاملات الطائرات، أبراهام لنكولن وثيودور روزفلت، غواصة USS Georgia مسلحة بصواريخ موجهة، قاذفات F-22 ستيلث وطائرات وحوامات الإنذار المبكر على ظهر الحاملتين وفي قواعد أمريكية مختلفة، فضلاً عن صواريخ توماهوك يصل مداها إلى 2,500 كم… وحتى بعد إعلان «حزب الله» أنه استكمل الضربة الثأرية المزعومة، حرص وزير الدفاع الأمريكي على إبلاغ نظيره الإسرائيلي بأنّ حاملة الطائرات روزفلت ستبقى في المنطقة، وذلك رغم أنّ احتمالات ردّ إيراني على اغتيال هنية قد تراجعت كثيراً، أو انحسرت عملياً.
جانب آخر من «مسألة» انخراط إدارة بايدن في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، بأشكال شتى على رأسها شحنات التسليح الهائلة والحضور العسكري المباشر وتوفير الخدمات اللوجستية والتجسسية المختلفة؛ انعكس في ما تردد من معلومات بأنّ البيت الأبيض «عاتب» كثيراً وليس قليلاً أغلب الظنّ، على حكومة كير ستارمر بسبب قرار لندن تعليق 30 (من أصل 350!) ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال. كذلك كان المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي قد تجاهل ملفّ تسليح دولة الاحتلال، وضرب عرض الحائط بحساسيته لدى شرائح غير ضئيلة من ناخبيه، خاصة في أوساط الشباب والأفرو-آسيويين، فضلاً عن تيار «غير ملتزم» والمجموعات المختلفة التي علّقت الآمال على تغيير ملموس يمكن أن تحمله مرشحة الحزب كامالا هاريس.
وقد يقول قائل، محقاً تماماً بالطبع: ما الجديد، أو الطارئ، على «المسألة» إياها؛ سواء في شطرها الفرعي الذي يخصّ تسليح دولة الاحتلال، أو في جذرها الأمّ والأكبر الذي رسم ويرسم عناصر العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية منذ إنشاء الكيان الصهيوني؟ لا جديد تماماً، غنيّ عن القول، إلا أنّ الطارئ قد يتمثل عملياً في المأزق الذي تسير إليها الولايات المتحدة بتوريط مباشر، منهجي ودؤوب وصريح، من جانب نتنياهو؛ على أصعدة شتى، هنا أيضاً: مخاطر تصعيد المواجهات العسكرية والجيو – سياسية الشاملة، أو حتى الجزئية، في المنطقة؛ واختلال موازين المصالح الأمريكية، بصدد ضمان أمن دولة الاحتلال في المقام الأوّل، حتى لدى الدول والأنظمة التي طبّعت لتوّها، وفي قلب مجتمعاتها؛ وأشباح انقضاض موسكو وبكين لملء الفراغات، كبيرها وصغيرها، الناجمة عن اختلال المعادلات الأمريكية في المنطقة…
منذ اغتيال فؤاد شكر في بيروت وإسماعيل هنية في طهران، وسّعت واشنطن نطاق تواجدها العسكري في المنطقة، تحسباً لما توعدت به طهران و«حزب الله» من ردود ثأرية ضدّ دولة الاحتلال
وللمرء أن يحيل القائل المحقّ ذاته إلى نقاش، غير رسمي بالطبع، ينخرط فيه بعض كبار جنرالات الجيش الأمريكي، المتقاعدين بالطبع أيضاً ولأسباب جلية؛ لا يتناول ملفّ التسليح الأمريكي لدولة الاحتلال من زاوية المطالبة بخفضها أو تقييدها، بالطبع أيضاً وأيضاً، بل من زاوية عسكرية تكتيكية، لا تخلو كذلك من مكوّنات جيو ـ سياسية ذات مآلات/ عواقب وجيهة. هذه هي حال الجنرال المتقاعد دافيد بترايوس، القائد السابق للقوّات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، والقائد السابق للقيادة الوسطى، والذي ألهب المخيّلة الشعبية الأمريكية بنظريته حول موجبات «الطفرة» العسكرية في العراق سنة 2007 وما أنجزته من نجاحات؛ ويطالب اليوم بأن يلجأ جيش الاحتلال إلى الخيار ذاته، لإنهاء وضع عسكري عالق على الجانب الإسرائيلي وقد يطيل الحرب سنوات وسنوات.
وإذْ يُهاجَم الرجل، بشراسة مفاجئة أحياناً، من جانب أنصار دولة الاحتلال في وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، وكأنه يقود الجيش الإسرائيلي إلى مصيدة؛ من المشروع العودة بالذاكرة إلى زمن غير بعيد، أواخر العام 2009، حين كلّف بترايوس فريقاً من الباحثين العسكريين بزيارة الشرق الأوسط، والاستماع إلى رأي عدد من الزعماء والمسؤولين العرب، حول الأسباب التي تجعل أمريكا مكروهة إلى هذه الدرجة في أنظار أبناء المنطقة؛ وكأنّ الجنرال وأفراد الفريق كانوا يجهلون حقيقة تلك الأسباب! ثمّ أرسل بترايوس تقريره إلى وزارة الدفاع الأمريكية، وعرض نتائج الأبحاث على الأدميرال مايكل مولن، رئيس الأركان المشتركة؛ وقيل إنّ الأخير أُصيب بالذهول وهو يتابع عرض التقرير، الذي استغرق 45 دقيقة، مدعماً بالصور والشرائح والتسجيلات الصوتية والبيانات الإحصائية. والخلاصة، ببساطة، كانت هذه: إنّ فشل أمريكا في كبح جماح دولة الاحتلال يعرّض المصالح الأمريكية للخطر، ليس في بلدان الشرق الأوسط وحدها، ولكن في جنوب شرق آسيا أيضاً.
بعد أسابيع، وضمن متابعة خلاصات بترايوس، قام الأدميرال مولن بزيارة دولة الاحتلال، فاجتمع مع غابي أشكنازي، رئيس الأركان الإسرائيلي في حينه؛ وتردد أنّ الأوّل أبلغ الثاني ضرورة أن تضع تل أبيب النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في «سياق إقليمي أعرض» له تأثير مباشر على وضع أمريكا في المنطقة. بعد أيام قليلة، مَثُل بترايوس أمام لجنة القوّات المسلحة في الكونغرس، وقدّم شهادة مكتوبة في 56 صفحة، قال في إحدى فقراتها: «المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تطرح تحديات ملموسة على قدراتنا في رعاية مصالحنا. ويحدث غالباً أن تنقلب التوترات الفلسطينية ـ الإسرائيلية إلى عنف ومواجهات مسلحة واسعة النطاق. والنزاع يثير شعور العداء لأمريكا، بسبب إدراك تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. والغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحدّ من قوّة وعمق الشراكات الأمريكية مع الحكومات والشعوب في المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي. وفي غضون هذا، تلجأ «القاعدة» ومنظمات أخرى متحزبة إلى استغلال هذا الغضب لحشد الدعم».
وبعد هجوم كاسح احتضنته الصحافة المناصرة للاحتلال، وتضمّن أيضاً التلويح بأنّ مستقبل بترايوس على المحك، ليس كجنرال فقط بل كذلك كطامح إلى الترشّح لرئاسة الولايات المتحدة؛ طوى الجنرال خلاصاته وتذرّع بأنها لم تكن آراءه الشخصية بل مجرد شهادة توثيقية عسكرية؛ كما ذكّر بأنه ليس من أصدقاء دولة الاحتلال المخلصين فقط، بل سبق له أن استضاف إيلي فيزل وزوجته في مقرّ رئاسة الأركان، وتشرّف بإلقاء الخطبة الافتتاحية في الذكرى الـ65 لتحرير معسكرات الاعتقال النازية! لم يكن الأوّل، غنيّ عن القول، وهو أبعد من أن يكون الأخير، على لائحة طويلة وتطول ولسوف تطول؛ مضامينها متماثلة، في المقابل، لأنّها تتقاطع مع ركائز راسخة وثابتة وشبه مقدسة في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية.
والتسليح الأمريكي لدولة الاحتلال بند واحد في تلك اللائحة، مقيم وقديم، لا يُنتقَص ولا يُختزل، وفي الوسع الافتراض بأنه لا يُمسّ أيضاً؛ حتى قي سياقات مثل هذه الراهنة، حين تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة وحشية، وتواصل الولايات المتحدة مدّ جرائمها بحقّ الإنسانية بأسباب استشراس أكثر دموية وعنفاً وهمجية.
وسوم: العدد 1093