الأكاديمي السوري بين التعالي والذّمّيّة (ثورة أم حرب أهلية؟)
تفجرت قبل أسابيع مساجلات حادة بين سوريين على وسائل التواصل الاجتماعي بصدد محاضرة مزمعة لباحث سوري، سامر بكور، يحيل عنوانها «التغريبة السورية» إلى «تداعيات سكانية» لـ«الحرب الأهلية» في سنوات ما بعد الثورة السورية، تعرض خلاصات كتاب له في هذا الشأن. ما أثار الغضب هو عبارة الحرب الأهلية، وما يبدو أن المحاضرة تتضمنه من إحالة التحولات السكانية في سوريا في سنوات ما بعد 2011 إلى صراع أهلي، ربما يأخذ المرء مسافة متساوية من أطرافه، وليس إلى ثورة تعرضت للسحق بالسلاح المتفوق، وسقط فيها مئات ألوف الضحايا وتهجر الملايين. ولنحو أسبوعين شب السجال ملتهباً، استخدمت فيه لغة اتهامية من طرف رافضي التعبير، ومتعالية وتوبيخية من طرف المدافعين عن الباحث، لكن كذلك كتبت مقالات هادئة النبرة تناولت الموضوع من أوجه مختلفة.
يشعر كثير من السوريين بقلة احترام لصراعهم، ولهم هم أنفسهم، حين تُنفى صفة الثورة عنه ويوصف بأنه حرب أهلية، وبخاصة حين يأتي ذلك من محسوبين بصورة ما على هذا الصراع الهائل المديد، لا من أعدائه. سيبدو أن المآسي الشخصية والعامة التي لا تحصى ترتبت على نزاع أهلي مبهم يجردها من القيمة والمعنى، وما يعني أن من هُجّروا وخسروا بيوتهم وأفراداً من عائلاتهم وتقطعت بهم السبل هم بلا قضية مُحقّة، أو حتى بقضية باطلة. يتعلق الأمر بحساسية ربما تبدو مبالغاً فيها، لكن وراءها خسائر آلام رهيبة لا مجال للمبالغة فيها. ما لا تصيب فيه حساسيتنا المفرطة هو إقامة علاقة نفي بين الثورة والحرب الأهلية. في واقع الأمر كل الثورات حروب أهلية، وإن كان يغلب أن توصف كذلك حين تفشل، بينما تسود كلمة ثورة حين تنجح. والثورة السورية فشلت، وهو ما لا يريد أن يقر به بعض من أدانوا عبارة الحرب الأهلية. لكن ربما نسيء فهم هذا الانفعال الحاد بشرح من هذا النوع. المسألة من جديد متعلقة بالاحترام والكرامة، بالحرص على الحق في تسمية الصراع الذي صارت مقوماً لذات ملايين الناس، من بين حقوق أخرى مهدورة أخرى لهؤلاء الملايين.
الباحث نفسه سوغ فكرة «الحرب الأهلية» كالتالي: «حسب كلّ التعريفات الأكاديمية العربية والغربية المعتمدة، والأدبيات السياسية المتبعة، فإن ما يحدث في سوريا اليوم بات يُسمّى «حربًا أهلية» وكذلك توصيفات الأمم المتحدة». لكن لماذا هذا صحيح؟ لماذا يبدو وكأنه لا مجال للمجادلة فيه، وأن سورياً صاحب تجربة ينضبط به ولا يسائله؟ لماذا يشغل هذا الطرح في تراتب المعرفة موقعاً أعلى من موقع ما يعتقده المعنيون بالصراع وأكثرهم انخرطوا فيه مباشرة بصور مختلفة؟ هذه الإهابة بالعلم والمنهج العلمي والنظرية المعرفية تبدو أقرب إلى ترهيب فكري منها إلى حرص على النقاش وتوضيح القضايا مثار الجدل. المساعي الفكرية الأكثر تفهماً اليوم لا تنفي إلى خارج المعرفة الكيفية التي يسمي بها الناس صراعاتهم وتمثيلهم لها، ولا تقصي من المعرفة الذات وأفكارها وسردياتها والمعاني التي تربطها بمعاناتها المهولة. ويفترض المرء أن هذا من بين ما يتعين أن يصر عليه الباحثون السوريون في الجامعات الغربية، أعني أن يضمنوا أبحاثهم من أين أتوا، وأي مسارات وتجارب خبروا، وكيف يجري التفكير بين مواطنيهم المفترضين في شؤونهم العامة، وما هي التسميات والتأويلات والتمثيلات المتنازعة التي يصدرون عنها. لقد سمى ما لا يحصى من السوريين صراعهم الثورة السورية، وهم ليسوا عامة منفعلة، ولا حشود مبهمة بلا ملامح وثقافة وتجارب ومواريث، ولا يبدو أنه يمكن إخراسهم باسم سلطة الأكاديميا التي تميل إلى أن تسلبهم الصوت، فتشكل بذلك استمراراً للنظام الذي تمردوا عليه. تميل الأكاديميا الألمانية إلى نفي أن إسرائيل استعمار استيطاني، فهل يمكن التذرع بسلطتها الأكاديمية في هذا الشأن؟
إن التدخل الأمريكي في أيلول 2014، والروسي بعد بعام، والتركي بعد الروسي بعام، ودوماً الرعاية الإيرانية لإدخال وتنظيم وتسليح ميليشيات شيعية من العراق وأفغانستان وباكستان إلى سوريا، لا جدال فيها. هل يبقى هذا كله «حرباً أهلية» سورية؟
المعرفة المتكاملة لا تقتصر على هذا الجانب الذاتي دون شك، لكنها تحكم على نفسها بالنقصان سلفاً حين تستبعده بذريعة الموضوعية أو المنهج العلمي. والباحثون السوريون والعرب هم الذين يشغلون الموقع الأنسب لتطوير مقاربة تكاملية، لا تعيد إنتاج التراتب المعرفي الذي يضع الأكاديمي الغربي على رأس هرم المعرفة، يتبعه ويحتمي بظله الأكاديمي العربي، الذي ينظر بتعال إلى أولئك الشعبويين المنفعلين من مواطنيه الذين لا يعرفون شيئاً عن «التعريفات الأكاديمية» و«المنهج العلمي الواضح» و«النظرية المعرفية المحددة». من يوبخون أهل التجربة المباشرة هم أنفسهم من يمتثلون للسلطة الأكاديمي دون نقد، فيعرضون ذمية بحثية غير منقوصة.
ثم إنه من زاوية موضوعية، لماذا يجب التسليم بما تقوله «كلّ التعريفات الأكاديمية العربية والغربية المعتمدة، والأدبيات السياسية المتبعة» فضلاً عن «توصيفات الأمم المتحدة» بأن «ما يحدث في سوريا اليوم هو حرب أهلية»؟ لقد شهدنا بالفعل حرباً أهلية سورية بين خريف 2011 ومنتصف صيف 2012، حين كان الصراع في سورية صراعاً سورياً سورياً. بتسارع بعد ذلك، انهار الإطار الوطني للصراع، ولم يعد أهلياً بحال، وتكرس الانهيار في ربيع 2013، بالتدخل العلني لحزب الله في القصير وظهور داعش وسيل الجهادية السنية العالمية إلى الداخل السوري، وكذلك مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي سلمهم النظام أسلحة ومناطق من البلد منذ تموز 2012، ثم بخاصة مع القفزة الحاسمة في تدويل الصراع السورية إثر الصفقة الأمريكية الروسية لنزع السلاح الكيماوي للنظام في أيلول 2013. إذا كان أي من هذه الواقع مجادلاً فيه، فإن التدخل الأمريكي في أيلول 2014، والروسي بعد بعام، والتركي بعد الروسي بعام، ودوماً الرعاية الإيرانية لإدخال وتنظيم وتسليح ميليشات شيعية من العراق وأفغانستان وباكستان إلى سوريا، لا جدال فيها. هل يبقى هذا كله «حرباً أهلية» سورية؟ وهل يحتاج سوري إلى وساطة الأكاديميا الغربية كي يقول الكلام الصحيح على… سوريا؟ ومن أين تأتي القيمة المعرفية المضافة إن لم يكن عبر مراجعة المفاهيم وأدوات التحليل المستقرة على ضوء التجارب الأحدث النازعة للاستقرار؟ الأكاديميا، مع الاحترام، هي المدعوة لأن تراجع تعريفاتها وتصنيفاتها عبر التفاعل مع ما يجري في هذا المختبر الهائل، وليس بمطالبة هذا الفيض من الفاعلين والأفعال والحوادث والتمثيلات بأن يَضُبَّ نفسه وينضبُّ في مقولاتها هي؟ والأكاديمي السوري، مع الاحترام كذلك، مدعو لأن لا يتصرف كأنه بلا ذاكرة ولا تجربة ولا معرفة ولا مخيلة ولا حساسية، بلا مجتمع له أشواق وتطلعات وأحلام، بلا تاريخ من الصراع لتسمية وتأويل ذاته وتجاربه. الأكاديميا الغربية ساحة صراع، ليست مفتوحة ولا مغلقة، لعل غريزتها أقرب إلى الانغلاق من العكس، لكنها تستجيب لجهود ونباهة ونضال المتعلمين من جهتنا. يتواتر في الواقع أن تكون المشكلة من جهة هؤلاء المتعلمين، لا من جهتها.
محاضرة المزمعة أُجِّلت إلى موعد يتقرر لاحقاً، والباحث قدم توضيحاً أكد فيه أنه وكتابه إلى جانب الثورة السورية، وليس هناك ما يبرر التشكك في إخلاصه. لكن ليس هذا هو الموضوع. الموضوع هو علاقة القوة ذات الوجهين التي تهدر المعرفة كإضاءة للواقع وإنتاج الأفكار والنظريات التي تساعد العموم في إحاطة أفضل بشروط حياتهم بالاستناد إلى معرفة أفضل بشروط الحياة هذه، لصالح المعرفة كامتياز وسلطة توبيخ، منفصلة عن العموم الذي يعامل كموضوع سلبي. وهي علاقة قوة تأخذ شكل تعال على أهل التجربة، وفي الوقت ذاته شكل امتثال وذمية حيال سلطة أكاديمية تعرف القليل عن التجربة، وتحس بها أقل. هذا بينما كان يتوقع المرء أن الثورة السورية حررتنا من عقد النقص ونزعات الامتثال بقدر ما إنها قصة صراع تراجيدي هائل، انخرط فيه الملايين، ومختبر هائل بدوره للمعرفة الاجتماعية وتطوير المفاهيم والمناهج والأفكار.
وبعد ذلك، أليس ثمة بنية مشتركة بين إنكار أو إضعاف اعتبار الوقائع والتجارب الحية في تفكيرنا وبين إنكار أو إضعاف اعتبار عموم الناس في سياستنا؟ وبالعكس، بين الجدارة المعرفية للوقائع، والجدارة الواقعية لمعارفنا، أعني تأثيرها الاجتماعي؟ أنت لا تؤسس للديمقراطية حين تمتثل لمفاهيم ناجزة لا تستشير خبرتك بالذات، فضلاً عن خبرة من حولك، فتقسم نفسك إلى طابقين معزولين عن بعضهما: أفكار بلا تجارب في الطابق العلوي، وتجارب بلا أفكار في الطابق الأرضي. هذا تأسيس للفصام والعقم، وليس للمعرفة والحرية.
وسوم: العدد 1093