ماذا لو لم تكن «الجزيرة» هنا؟

كلما اشتدت الحرب وتفاقمت حلكتها، مثلما يحدث منذ حوالى العام في غزة والضفة الغربية، عرفنا أكثر معنى أن يَستهدف المجرمُ الشهود، وعلى رأسهم الإعلام.

تماماً مثلما يحدث أخيراً، وكما يحدث كل يوم، إذ استُهدف الإعلاميون بوحشية في قطاع غزة، ولم يأخذ الإسرائيليون بالاعتبار سترة المراسل الصحفي، بل ربما باتت هذه خصوصاً علامة لضربه والتخلص منه.

اخترعتْ “الجزيرة” لنفسها مهمة استثنائية حين جمعت بين الدور التقليدي للإعلام، وخصائص الميديا الاجتماعية، وصحافة المواطن

منعت إسرائيل الصحافيين الأجانب من دخول غزة، واشترطت أن يكونوا برفقة قواتها، وبعضهم قَبِلَ ذلك بالفعل، أولئك الذين لم تفرق معهم رؤية الأحداث من منظار الدبابة الإسرائيلية التي يقبعون فيها. لكن كان هناك الأكثر عناداً في تقديم حقيقة المشهد كما هو على الأرض، فجاءت حصيلة الضحايا من الجسم الإعلامي الفلسطيني هي الأعلى، في تاريخ الحروب، من أي بقعة في الأرض، إذ دفع 111 عاملاً في الإعلام وصحافياً فلسطينياً حياتهم ثمناً للحقيقة.

ولنعترف: إن قُلْت تغطية إعلامية للحرب على غزة، وفي فلسطين عموماً، ستكون «الجزيرة» في صدارة المشهد، لقد اخترعتْ لنفسها مهمة استثنائية حين جمعت بين الدور التقليدي للإعلام، وخصائص الميديا الاجتماعية، وصحافة المواطن.

خسرت «الجزيرة» من مراسليها وطواقمها شهداء، في غزة، كما في الضفة، كما تعرّضَ صحافيوها للمضايقات، وسحب بطاقاتهم، وأخيراً إلى إغلاق مكاتب المحطة، في القدس، وأراضي الـ48 في البداية، حتى وصل الإغلاق، منذ يومين، لمكتبها في رام الله.

على الهواء مباشرة، بعد منتصف الليل، شاهدنا كيف دخل الجيش المدجج «الذي لا يقهر» مكتباً مسالماً لا يلوي إلا على شاشات وكاميرات ومايكروفونات وكلام! جيش، وأسلحة، وخوذ، وأمر بإغلاق مكتب «الجزيرة» لـ45، من دون ذكر أي سبب، وهل من سبب أقوى من تغطية القناة لحظة بلحظة، كل ما يجري على الأرض؟ الوقائع التي تدين حكومة وجيش الاحتلال والمستوطنين؟

وإذا كانت إسرائيل تحاول، بإغلاق «الجزيرة»، كتم صوت شاهد، فإنها تضيف جريمة جديدة، بانتهاك جديد لحرية الصحافة، وأسباباً أخرى لملفها في المحاكم الدولية. بدا لعدد من المحللين أن الإغلاق الأخير مقدمة تستكمل الإغلاقات السابقة لتعتيم الشاشة الأوسع انتشاراً في نقل الحدث الشرق أوسطي.

مع تصاعد القصف وكثافته، أمس، على الجبهة اللبنانية، راح مذيع «الجزيرة» يكرر بين خبر وآخر، بين قصفٍ وقصف، أن القناة ممنوعة من التغطية، ولذلك لم تتمكن من نقل الصورة على الجانب الإسرائيلي. بدا أن إغلاق القناة جزءٌ من خطة شاملة متعددة الجبهات، جبهة غزة، جبهة الضفة، جبهة لبنان، وجبهة «الجزيرة».

منذ اللحظة التي يقتحم فيها الجيش مكتب القناة، فجر السبت/الأحد، ستقول أي قناة هذه التي تستنفر جيشاً بحاله، كان يحاول في أزمنة الاسترخاء أن يصور نفسه جيشاً لبلد ديمقراطي تحكمه قوانين، ليظهر عند الخطر كأي جيش همجي، يغتصب، ويمارس أبشع أشكال التعذيب في السجون، إلى حد بتر الأطراف والقتل، وينكّل، ويلقي بالناس أحياء (أو حتى أمواتاً ما الفرق!) من أساطيح البيوت، ويسرق قوت الغزيين، ويقوم بتجويعهم حد المجاعة.. وكل ذلك أخذته «الجزيرة» وراحت تعيده بلا هوادة على شاشاتها، وعلى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد بات واضحاً لدى قيادة الاحتلال أن هذا كله أدلة تنضاف إلى ملفات دعوى «الإبادة الجماعية»، وقد يكون له دوره في تثوير جامعات العالم مجدداً.

جيش كان يحاول، في أزمنة الاسترخاء، أن يصور نفسه جيشاً لبلد ديمقراطي تحكمه قوانين، ليظهر عند الخطر كأي جيش همجي

جيش الاحتلال بتغييبه للقناة، ولو مؤقتاً، يتيح افتراضاً قد يخطر ببال الكثيرين؛ ماذا لو لم تكن «الجزيرة» هنا، في المشهد الإعلامي العربي، منذ ولدت العام 1996؟

كلنا نعرف أن القناة جاءت في مشهد خامل وتحت السيطرة الحكومية في مختلف البلدان العربية، كانت ثورة حقيقية مدوية في مشهد إعلامي مغلق (وعلى سبيل المثال؛ كانت دمشق محكومة بثلاث صحف، تبدو جميعها، وربما حتى اليوم، نسخة واحدة من وكالة الأنباء الرسمية، وشاشتين تلفزيونيتين رسميتين مضجرتين، إلى حد أن السكان كانوا يوّلفون هوائياتهم على الشاشة الأردنية، تصوّر! أحدٌ ما كان يترقّب شاشة الأردن!).

وجود «الجزيرة» حفّز «جزراً» أخرى منافسة، حاولت على الأقل أن تكون «جزراً»، ولم يعد في الإمكان العودة إلى الوراء، ملفات وراء ملفات، وباتت «الجزيرة» حقاً صوتاً للذين لا صوت لهم. خاضت معارك بمنتهى العناد مع دول بحالها، وياما تعرّضتْ للإغلاق ولاستدعاء سفراء، واعتقال صحفييها، أو ملاحقتهم والتضييق عليهم، غطّت حروباً، وكان لها الفضل الأكبر في تغطية ثورات الربيع العربي، ساعة بساعة، وفَرَدَتْ شاشات بعدد ساحات التظاهر في سوريا وليبيا وتونس واليمن ومصر والجزائر.. ومن مختلف المدن العربية الثائرة. وهنا بالذات يصحّ السؤال مرة أخرى: ماذا لو لم يكن هناك «جزيرة»؟

وبالطبع سيكون لكل منا، وعلى مرّ كل هذه السنين، مآخذ وانتقادات ليست قليلة على هنات القناة، وقد سجّلنا هنا، في صحيفتنا هذه، عدداً لا بأس به منها، لكن مشهد اقتحام الجيش الإسرائيلي يذكرنا حقاً بأن هناك، في المقابل، ما لا يمكن إنكاره: لقد كانت بحق «جزيرة حرية، في بحر القمع العربي»، ولو شاء كلٌّ منا أن يفتش ذاكرته وما فيها من أصوات ِثلاثةِ عقودٍ من الزمان لوجد أن أصداءً من أجمل، وأروع العبارات، والمشاهد والصور التي قيلت ونشرت وصلتْه عبر هذه القناة، مشاهد ربما تحتاج لقاموس، لا إلى مقال.

وسوم: العدد 1096