«حزب الله» بعد نصر الله: بازار طهران؟

نجاح إرهاب الدولة الإسرائيلي في اغتيال حسن نصر الله ضربة موجعة، لعلها الأقسى في تاريخ «حزب الله»، على الأقلّ منذ 1992 حين تولى الأخير الأمانة العامة؛ لكنها، حتى يثبت العكس ربما، ليست قاصمة للظهر على نحو يُقعد الكثير من، أو غالبية، قدرات الحزب الهائلة في ميادين عسكرية وسياسية وعقائدية ومجتمعية. ولعلّ المبدأ الشهير القائل بأنّ الأمور بخواتيمها، لا يسري على حال الهيكلية القيادية العليا للحزب في هذه المرحلة الانتقالية الشائكة والغائمة، مقابل مبدأ آخر أبسط في الواقع، يقول بقراءة المكتوب من عنوانه الأوّل.

فإذا استقرّت طهران، قبل مجلس شورى الحزب ذاته وكوادره، على شخص هاشم صفيّ الدين في موقع الأمين العام فهذا يعني أنّ المرشد الأعلى علي خامنئي سوف يستمرئ اللعبة مع بنيامين نتنياهو تحت عناوين دنيا، مثل المناوشات المحدودة والاستنزاف غير اللائق بالمسمّى، والكاتيوشا بدل الصاروخ بعيد المدى، والإسناد بدل الحرب المفتوحة؛ فضلاً عن اجترار تعبير «وحدة الساحات» الذي اتضح مراراً أنه لغو لفظي واهي الدلالة وفاضح المعنى. غير مستبعَد، وإنْ كان أضعف احتمالاً، أن تستقرّ طهران على شخص نعيم قاسم، نائب نصر الله الرسمي، الأكثر اقتراباً من صفة الواعظ في حوزة شيعية منه إلى آمرٍ عسكري شاكي السلاح والبلاغة والعنفوان مثل نصر الله؛ وعندها سوف يكون خامنئي قد تجرّع كأس السمّ على غرار الخميني ساعة قبول السلام مع صدام حسين، وانحنى أمام كابوس عودة الحزب إلى أدوار «السيطرة الناعمة» في لبنان خلال أطوار التأسيس المبكرة أواسط ثمانينيات القرن المنصرم وقيادة صبحي الطفيلي وعباس الموسوي.

غير مرجّح، في المقابل، أن تشهد ثقافة الحزب العقائدية (وهي منهاج سياسي وعسكري واجتماعي، في البدء كما في نهاية المطاف) تحوّلات على منوال المراجعة أو التراجع أو التعديل، بصدد الخطّ المركزي الناظم الذي أوضحه نصر الله بجلاء ما بعده جلاء: «نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ وأيضاً: «نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري»؛ وفي الجوهر الأعمق والأبعد، مشروع الحزب هو «أن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه»، الإمام الخميني ساعتئذ، ثمّ خامنئي لاحقاً وحتى اغتيال نصر الله.

وما لم تتبدّل علاقة طهران مع رأس النظام السوري بشار الأسد، على نحو يُداني الخصام والفراق أو حتى الطلاق غير المعلَن، فإنّ احتلال «حزب الله» لأجزاء من الأراضي السورية سوف يبقى على حاله، لأنّ القرار الإيراني هو الفيصل الذي يُماثل أو يميّز بين نصر الله وصفي الدين وقاسم؛ لأنهم سواء في الخضوع لإرادة الولي الفقيه. والسوريون الذين ابتهجوا لاغتيال نصر الله لم يمتلكوا، أغلب الظنّ، رفاه مثقف ممانع في بيروت أو عمّان أو تونس أو رام الله يساجل بأنّ جرائم الحرب التي ارتكبها «حزب الله» في سوريا يجوز غفرانها، جزئياً أو تماماً، لأنّ من اغتال نصر الله إرهابي إسرائيلي وعدوّ مشترك أوّل.

السوري، كما كاتب هذه السطور، لا يملك، ولا يصحّ أصلاً، أن ينسى مواقف نصر الله العتيقة والمزمنة في مساندة النظام السوري، قبل انتفاضة 2011 وبعدها؛ وبعض الذروة في استعداء الشعب السوري على «حزب الله» وأمينه العام كان ذلك الخطاب الشهير حين أعلن نصر الله أنه مستعدّ للنزول شخصياً إلى سوريا والقتال فيها. وقبل سنوات سبقت الانتفاضة، واجتياح مقاتلي «حزب الله» أرجاء سوريا طولاً وعرضاً، وارتكاب جرائم حرب شتى؛ هذه سطور حمّلت نصر الله شخصياً إثم مَسْخ بلد عريق إلى مجرّد «سوريا الأسد»، نظام الاستبداد والفساد والتوريث وحصار تل الزعتر واليرموك… ومنذ 2005 ساجلت هذه السطور بأنّ «غلطة السيد بألف مما نَعدّ لسواه»، حين شاء في خطاب علني «توجيه الشكر لسوريا الأسد، لسوريا حافظ الأسد، لسوريا بشار الأسد».

وقد يُنصح لائمو المبتهجين باغتيال نصر الله أن يشفقوا على حزبه، صاحب تاريخ لا يُنكر في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من تكرار غزوة بيروت 7 أيار (مايو) 2008؛ حين انتشرت عناصر الحزب المسلحة في شوارع العاصمة، وقطعت طريق المطار، بمشاركة عناصر مسلحة من حركة «أمل» والسوري القومي الاجتماعي وبعث النظام السوري. صعب ربما، في المقابل، أن تُنتظر منهم مراجعة عادلة لذرائع «حزب الله» في المساندة العسكرية لنظام الأسد، من طراز أكذوبة «الدفاع عن «المراقد الشيعية» في سوريا، وإشعال جذوة الحمية المذهبية عن طريق انتحال صفة الضحية، وعلى النحو الأشدّ استدراراً للشعور العصبوي الجَمْعي، كما في هتاف نصر الله الشهير: «قولوا رافضة. قولوا إرهابيون. قولوا مجرمون. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب»!

والأرجح أن الوقت لن يطول قبل أن يقرر الولي الفقيه مصير «حزب الله» ما بعد نصر الله، ليس بهدي من فرائض الإمامة الإثني عشرية أوّلاً، بل انطلاقاً من معدلات أرباح أو خسائر البازار الإيراني الشهير!

وسوم: العدد 1096