تأنيب الضمير لدى أبقراط ولدى الأدمغة المهاجرة!

إذا كان التعارف والتساكن هو الأصل في العلاقات الإنسانية دولا وشعوبا، مصداقا لقوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ فالمنطق يقتضي أن تكون الحرب استثناء، غير أن هذا لا ينفي خلو العلاقات بين الدول والأمم والرسمية منها على الخصوص بصراعات تختلف حدتها باختلاف طبيعة الصراع، ودوافعه التي يُمكن أن تكون شخصية بين القادة، كما يمكن أن تكون هوياتية أو عقدية دون إغفال الدوافع الاقتصادية والسياسية، وغيرها من الدوافع التي يصعب تحديدها بسبب التمويه الذي يعتمده المعنيون بالصراع في شأنها. ومن بين الأساليب المعتمدة من قبل بعض الأنظمة إن لم أقل أغلبها، هو توريط الشعوب من خلال اختلاق حزازات في ما بينها من جهة، واللجوء إلى مختلف أساليب الاستمالة والاسترضاء لشعوب الدول المستهدفة بالصراع، واستعدائهم ضد حكامهم من جهة ثانية، إما بطُرق مباشرة أو غير مباشرة، وذلك بهدف التأثير في موازين القوى لصالح هذا الطرف أو ذاك، ولعل التاريخ يزخر بشواهد في هذا الصدد، من قبيل الصراع بين الفرس والرومان، والشد والجذب بين الإمبراطورية الإسلامية والإمبراطوريات الغربية... مع العلم أن الحاضر لا يُعدم أمثلة حية لاستمالة الشعوب، إن لم أقل شحنها في اتجاه معين، خاصة مع الإمكانيات الهائلة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وفي المقابل يبقى وعي الشعوب بأهداف هذا النوع من الممارسات من بين أهم الآليات التي تصرِفهم عن التورط في الاستجابة لدعاوى هذا الصنف من الأنظمة، وعدم السقوط في فخاخها، وهو نفسُ الوعي الذي يحثهم على الانخراط في كل ما من شأنه المحافظة على الاستقلال المادي والمعنوي لبلدانهم، بما يتناسب مع تقديرهم ووعيهم بأهمية المخاطر التي تنطوي عليها استجابتهم لإغراءات تلك الأنظمة، ولعل قراءة الواقع على ضوء العلاقات التاريخية مع بلدان هذه الأنظمة - التي كانت ولا تزال علاقة هيمنة واستعمار- من شأنها أن تُسهم في التقدير الصحيح لهذه المخاطر واتخاذ المواقف السليمة لمواجهتها، وفي هذا يُحكى أن ملك الفرس أراد أن يستميل أبقراط -الذي أشاع الطب بين الناس الغرباء عن العائلة الأسكليبادية، التي كان يُنظر إليها على أنها من نسل الآلهة، بحيث الخبرات تُنقل بين أفرادها بالمخاطبة فيما بينهم، وإذا ما جرى تدوينها، يكون ذلك بشكل مقتضب، وبطريقة مُلغَّزة لا يفهمها إلا الأب وابنه. ولعل تعميمه تعليم الطب على عموم الناس هو الذي أكسبه لقب أبو الطب، مع العلم أنه اشترط التزام الطبيب بمجموعة من الشروط الأخلاقية التي تمت صياغتها فيما يسمى بقسم أبقراط الذي يُلزَم كل طبيب بأدائه عند تخرجه-قلت بأن ملك الفرس أراد أن يستميله بالهدايا والعروض، لكنه رفض وأجابه قائلا "إن ضميره ليؤنبه إذا انشغل بعلاج الأجانب الذين يريدون أن يقتلوا اليونانيين، أو خدم بفَنِّه الملك الذي يسعى إلى إخضاع بلادهم". ويبدو أن صلاحية هذه المقولة "القاعدة" في تعامل الدول والأنظمة فيما بينها، خاصة مع تلك التي تُصنف في خانة المنافسين أو الأعداء المحتملين لا تزال سارية المفعول، بل تم تجاوزها إلى المستوى الذي أصبحنا نرى فيه مجموعة من الدول تستأثر بريادتها في مجموعة من المجالات التكنولوجية، ولا تسمح لغيرها باكتسابها إلا بشروط تعجيزية، كما هو حاصل في مجال السلاح التقليدي قبل النووي، وفي مجال التكنولوجيا المتطورة... مع شرط احتفاظها بالسبق، بل أكثر من ذلك هناك مجموعة من الدول مُنعت حتى من تحقيق اكتفائها الذاتي من المواد الأساسية كالغذاء والدواء على سبيل المثال لا الحصر.

وبغض النظر عن الجانب القيمي والأخلاقي بخصوص هذا النوع من التعامل الذي أصبح يميز العلاقات الدولية، فإن السؤال المُلح هو ما مدى عمل قادة الأمة العربية والإسلامية وأدمغتها بهذه "القاعدة" بصفة خاصة، وشعوبها بصفة عامة، وذلك ليس بالمستوى الذي تطبقه بها الدول المتقدمة -لأنها لا تستطيع إلى ذلك سبيلا-وإنما على الأقل بالمستوى "الأبوقراطي" بحيث تتكون لدى علمائها وأدمغتها من أطباء ومهندسين وباحثين وغيرهم من العباقرة، قناعة العزوف عن الهجرة إلى الدول التي تستعملهم في تقوية قدراتها لمحاربة بلدانهم الأصلية، واستغلال ثرواتها التي يعتبرون من أهمها، والتي يتم العمل على استقطابها باستعمال كل المحفزات الممكنة، بالشكل الذي يُزهِدهم في الإمكانات المتواضعة التي يفترض الاستفادة منها في بلدانهم إن توفرت. ومما لا شك فيه أن هذه القناعة رهينة بعاملين أساسين: الأول شخصي يتمثل في امتلاك رؤيا واضحة لكيفية التغيير من الداخل من جهة، وعزيمة قوية لمقاومة ومواجهة كل العراقيل التي تقف حجرة عثرة في تجسيد هذه الرؤيا على أرض الواقع من جهة ثانية، أما العامل الثاني فيكمن في قناعة القادة والمسؤولين بضرورة احتضان هاته الأدمغة، والاجتهاد في تمكينها بكل الظروف المادية والمعنوية التي تحفزهم على الاستقرار في بلدانهم، واستثمار معارفهم وخبراتهم في النهوض بقدرات بلدانهم لتتمكن من تحقيق اكتفائها الذاتي في مختلف المجالات، والعمل من خلال ذلك على إخراجها من دائرة التبعية التي لا تزيدها هجرتهم إلا استفحالا وتفاقما.

لا أريد أن يُفهم من كلامي أنني ضد التلاقح الثقافي والتبادل العلمي بين البلدان والشعوب، لكن الذي أقصده هو مدى إدراك قادة ومسؤولي العرب والمسلمين، وعلماءهم بصفة عامة، وأطباءهم بصفة خاصة، لعمق مقولة أبقراط، ومن ثم العمل على تجسيدها لتغليب مصلحة بلدانهم على مصلحتهم الشخصية، في حالة تعارضهما بالشكل الذي يخدم مصالح الدول التي تستغل خبراتهم لتقتيل شعوبهم والتي يعمل ملوكها ورؤساؤها على إخضاع واستعمار أو بالأحرى "استخراب" بلدانهم حسب تعبير الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله. ومع الأسف فإن واقع العرب والمسلمين يعج بالأمثلة الدالة على هذا التعارض، وسوف لن أحتاج إلى إجراء دراسة لجردها لأنها أصبحت أو تكاد تصبح ظاهرة يعرفها العام دون الخاص، ولعل استفادة الغرب بخدمات أطبائنا في مختلف التخصصات في الوقت الذي تعاني فيه مستشفياتنا بخصاص مهول، يضاف إلى ذلك مجموعة من المخترعين الذين احتضنهم الغرب في الوقت الذي توجد بلدانهم الأصلية في أشد الحاجة إليهم. ومن الأمثلة الصارخة في هذا الصدد أولئك الذين انخرطوا في العمل السياسي في الغرب، بحيث نسمع ونقرأ كل مرة بأن فلان أو فلانة من أصل عربي ومغاربي على الخصوص تقلد(ت) مناصب عليا في حكومات غربية كفرنسا على سبيل المثال، وهذا شيء يدغدغ العواطف، لكن الأهم هو أن أغلبهم ينخرطون بكل ما أوتوا من قوة في خدمة بلدان المهجر كما هو حال المغربي الذي تقلد منصب الوزير المكلف بالمواطنة ومكافحة التمييز في الحكومة الفرنسية المشكلة مؤخرا، بحيث كان من بين ما صرح به منذ البداية، هو ضرورة إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى بلدانهم الأصلية، متناسيا أنه كان من الممكن أن يكون هو نفسه مهاجرا غير شرعي، لو لم ينجح في دراسته التي تزوَّد بوقودها الأساس من المغرب الذي صرف عليه إلى أن تمكن من ولوج الأقسام التحضيرية، والأدهى من هذا هو أنه أصبح من المدافعين عن الشذوذ الجنسي، وهذا كاف للدلالة على كونه نموذجا سيئا لأولئك الشباب الذين يرون فيه القدوة التي يتعين الاقتداء بها من خلال ترغيبهم في بتبني القيم الغربية وهجر القيم الإسلامية والثوابت الوطنية.

في الأخير أريد أن أنبه إلى أمر مهم، ألا وهو الدور الخطير الذي تلعبه هذه الفئة من المهاجرين الذين ينخرطون في خدمة مصالح دول المهجر، حتى وإن كانت تتعارض مع مصلحة بلدانهم الأصلية، مع العلم أن الأمر في عدد من الحالات يكون محسوما منذ البداية ما لم تتخذ الإجراءات القمينة لاسترجاع هذه الطاقات التي صُرفت عليها ملايين الدراهم من أموال الشعب ليحصد الغرب في النهاية غلتها. وفي هذا الصدد أكتفي بالتساؤل عن مصير الطلبة المغاربة الأربعين الذي حطموا الرقم القياسي في ولوج "المدرسة المتعددة التقنيات" بالعاصمة الفرنسية باريس خلال موسم 2023، هل سيكون لبلدهم الأصلي نصيب في الاستفادة مما سيحصِّلونه من علم وتقنية بعد تخرجهم؟ أم يكفيه الافتخار بكونهم حصَّلوا المراتب الأولى، بينما جني المحصول سيؤول إلى فرنسا، خاصة وأن نظام التعليم بالمغرب لا يمكنهم من الحصانة الكافية لجعل مصلحة بلدهم -التي تدخل مقولة أبقراط المشار إليها أعلاه ضمنها-فوق كل اعتبار، مما يستتبع مجموعة من السلبيات، أقلها الاستلاب الثقافي الذي أصبح ينخر مخيلة جل الفئات المجتمعية، والذي من مؤشراته هذه الهجرة الجماعية التي أصبحت حديث العام والخاص، والتي أصبحت ورقة مهمة في تشويه صورة المغرب من قبل أعدائه.

وسوم: العدد 1096