أما آن الأوان ؟!
نشعر اليوم بالخيبة والحسرة على مافرَّطت الأمة في حق دينها الإسلامي العظيم ، ولِما آلت إليه أمورها من هوان وذل وتبعية مقيتة ، ومن تسلط السفهاء من حكام يجهلون حقائق الإسلام ويعادونه ، فقدَّموا أنفسهم على مصلحة الأمة ، واختلقوا الأباطيل التي سوَّغوا بها ظلمَهم للناس ، وجاؤوا بملل ومذاهب كافرة جعلوها مناهج لتقدمية كاذبة ، واستعانوا بأعداء الأمة من دول الصليبيين ، ومن منظمات ماسونية عالمية ، يعملون معها في الخفاء لتثبيت حكمهم ، فكانت السيطرة الفعلية للأجنبي على مقدرات الأمة المادية والمعنوية ، رغم أن هذا العدو الغاشم خرج من البلاد بعد استعمار بغيض لأقطار المسلمين ، ولا ننسى بأن ذيول المستعمرين مازالت تتراقص في بلاد المسلمين بالكيد والمكر والترغيب والترهيب ، يعملون عمل أولئك الكفار ، وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم ) ، وفي حديث آخر : ( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقد آن الأوان أن تتحرر الأمة من هذه التبعية البغيضة . الصورة محزنة مؤسفة حيث انتشر الفساد في الحياة الاجتماعية والسياسية ، وانقلبت الحريات المزعومة إلى تفلُّت أعمى يحارب القيم السامية للإسلام ، واستُغلت المواهب والقدرات الأدبية والثقافية إلى إعلانات للميوعة والانحلال ومحاربة الفضائل ، فكانت المناسبة مؤهلة للحكام الذين أفرحهم الحكم بغير ما أنزل الله ، فامتدت أيادي استبدادهم وظلمهم إلى تطويع الناس بشتى الوسائل اللاأخلاقية ، فكان الحكم شؤما على الأمة ، فتهاوت أعمدة النهضة المرجوة ، وخارت القوى الإصلاحية أمام طغيان وجبروت هؤلاء الطواغيت التي بات دأبُها الحرب على الإسلام وأهله ، وعلى قرآنه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ورأى الطغاة فرصتهم السانحة قد آن أوانها ، فامتلأت السجون بالناس ، وسالت دماء الأبرياء أنهارا بلا وجل ولا ضمير ، فالضمائر عند الطغاة ميتة ، والقلوب متحجرة ، والأعين أصابها العمى ، فأنَّى للطاغية أن يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) ، فكيف بمَن قتلوا الآلاف من المسلمين ، بل وحرقوهم ومثَّلوا بأجسادهم ، ومعظم القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ ، ولكن ستكون هذه الصورة المحزنة المؤسفة أشدَّ حزنا وأكثر أسفا عند هؤلاء المجرمين يوم القيامة ، حيث يقود المقتول قاتلَه أمام رب العزة والجلال ليقتص منه ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يجيء المقتول يوم القيامة آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة جل شأنه، فيقول: يا رب، سل هذا، فيم قتلني؟ فيقول المولى عز وجل : فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان... قيل: هي لله) . إنها الصورة التي تحترق لها القلوب عند مالك الملك ، في يوم لاجاه ولا مكانة لطاغ اشمخر كِبرا على الناس ، ففعل بهم الأفاعيل ، وقد أمر جلاَّديه أيضا بتعذيب الناس والتنكيل بهم ، والله عزَّ وجلَّ لهم بالمرصاد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جلد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان). فهل يعي الطغاة المغرورون معنى غضب الله عليهم .
وهنا آن الأوان ، آن الأوان للأمة وشبابها أن يسقوا بساتين مجد أمتهم وقد ذبلت لطول الأمد ، بوعي بصير ، وبقوة تمنح إرادتهم القدرة على التغيير ، فالطغاة أعداء الإسلام ما استأسدوا إلا عندما لم يجدوا بين الناس مَن يقول للظالم : ياظالم ؟ وللمجرم : يامجرم ؟ وللمنحرف : يامنحرف ؟ آن للشباب أن يعمروا بيوت الله بالصلاة والذكر ، وأن يمتثلوا لهَدْيِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم في أداء سائر العبادات ، فالعبادات تأمر بالمعروف وتحث عليه ، وتنهى عن المنكر ، وتنفِّر منه ، آن للشباب أن لايعيش قطيع غنم يُقاد ويُذل ويُمتهن ، ويُغرَى بالشهوات الزائلة ، وتفتر همته بالملذات العابرة ، آن للشباب أن ينظر خلف الحجب الكثيفة في زمن الشرِّ الغشوم هذا ، ليرى مكانته عند الله وهو عبد طائع لله ، فينطلق حرًّا أبيا تحت راية الإسلام فبها وحدها تُستعاد العزة والكرامة والمكانة التاريخية الحقيقية ، وبها وحدها يزول حكم الطغاة والعملاء والمأجورين ، آن للشباب أن يأخذ بهذا النفيس الذي بين جنبيه ألا وهو الإيمان بالله ، هذا الإيمان إذا تمكَّن من الإنسان فإنه يفعل الأعاجيب بإذن الله تعالى ، وعند ذلك يكون التغيير الذي بشَّرنا الله به ، ونجد أبناء الأمة على قلب رجل واحد ، لاتلين قناتهم لبغي ظالم ، ولا لجبروت طاغوت ، ولا يميلون إلى زخرف دنيا يلمع في الطريق مثل السراب . آن للشباب أن يحاوروا أنفسهم ، من منطلق حقيقة هذه الحياة الفانية : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) 1/الملك ، وليعيش هذا الشباب أعلى وأسمى مافي هذا الحوار من صدق ووفاء ، وينطلق إلى غايته الغالية النفيسة في هذا الوجود ، حيث السَّفرُ بزاد تلك المحاورة الإيمانية إلى فضاء الخلود الرحيب ، في ظلال رضوان الله تبارك وتعالى . ليكون محبا بل عاشقا لتلك الرحاب كما كان أصحاب نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، أولئك الذين وقفوا على المعنى الحقيقي لكلمة التوحيد أشهد أن :( لا إله إلا الله ) ، وعلموا علمها المكنون ، فهم على يقين لايعتريه الشك ، فانقادوا في دروب أنوارها صادقين مخلصين : ( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) ، ومَن فاز بهذه المكانة نال نعيم السؤدد الأبدي ، تصديقا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأشهد أن : ( محمدا رسول الله ) ، لأن تلك المحاورة طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن أطاعني دخل الجنَّة ) ، ولْيُهْجَرْ أولئك الأعداء للإسلام الذين أبوا أن يدخلوا الجنة : ( ومَن عصاني فقد أبى ) ، وصدق الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) ، فالبشرى لهذه الأمة التي تطيع الله جلَّ وعلا ، وتطيع رسولَه صلى الله عليه وسلم ، والبشرى لهذا الشباب الذي أحبَّ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحبَّ الله ) . وهيهات لقلب أحبَّ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم أن يركن أو يستكين لطاغية مجرم أو مذهب ضال فاسد أو هوىً مغرٍ ، إن قلب المؤمن بالله قلب حصين منيع تفيض فيه الأشواق للملأ الأعلى ، ويحن إلى موطن الخلود الأبدي ، فيذوب تلهُّفًا إلى ساعة اللقاء ، التي تضيءُ بأنوار زاده من الدنيا التي فنيت ولن تعود ، ويرتل لسان شوقه قول الله تبارك وتعالى : (... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) 74/الزمر . فالرضا يظلل المؤمنين الناجين الفائزين ، وقطوف النعيم دانيات ، إنه يوم الحصاد الجميل البهيج ، وأي حصاد ؟ وأي يوم ؟ إنه الحصاد في جنة الخلد التي وُعد بها المتقون ، وإنها البهجة الغامرة التي يعجز قلمُ الوصف الدنيوي مهما أوتي من بيان أن يحيط بمآتيها ومعانيها وسُمُوها ، فقد ولَّت الأكدار والمنغصات ، وغابت الرزايا والأسقام والابتلاءات ، فسفن الأشواق قد رست في مغاني جنَّة لايبلى نعيمها ولا يبور ، وليس له من نضوب ولا غور ، هاهم خزنة الجنة يقولون لهم : (سلام عليكم طبتم ) ، بما قدَّمتم لهذا اليوم المجيد : ( فادخلوها خالدين) ، وهنا تفيض بهجة نفوسهم بما سمعوا ، ولِما رأوا فيقولون : ( وقالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ... ) ، لقد صدقهم الله وعده ، واستجاب دعاءَهم يوم كانوا في الدنيا يرددون : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) ، وحاشا لأرحم الراحمين أن يخلف وعدَه ، أو يحرم عباده المتقين من فضله وعطائه .أجل جاء يوم الحصاد والقطاف ، وانتهى كما قلنا زمن الأحزان ، فانطلقت ألسنةُ قلوبِهم : ( وقالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) .
أما آن الأوان يا أمة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لتبايعي الله من جديد ، لتستعيدي عالميتك المحمودة ، التي تترقبها البشرية التائهة المعذبة ؟ وتنطلق كتائب التوحيد الإسلامية تدوس على أكثر من ثلاث مئة وستين صنما كانت تُعبد من دون الله في الجاهلية الأولى ؟ فالأمة بحاجة إلى الإسلام ، والأمم الأخرى بحاجة إلى الإسلام ، فلن يكون الأمن إلا بهذا الدين الحق ، بعد أن شهد الناس بوارَ وبطلانَ المذاهب الأرضية الدخيلة على أمتنا وفطرتنا ، وبعد أن أيقن الناسُ أن من أسباب الخذلان الذي أصاب الأمة إنما هو الأخذ بتلك المذاهب الواهية المذمومة ، التي أفسحت المجال واسعا أمام الأهواء والزخارف ، حتى أصبحت تلك الأهواء تُعبد من دون الله : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) 43/ الفرقان ، فالأهواء تفرِّق بين الناس ، وتشتت أفكارهم ، وتعمي أبصارهم ، فتنقسم الأمة إلى شيع وفرق وأحزاب في محيط تلك الأهواء ، وهنا تتهافت مقومات الوحدة بين أبناء الأمة ، ويتلاشى عزمُها وهي تريد النهوض ، وما كان الله سبحانه وتعالى ليخذل أمة اختارها لحمل الرسالة الإسلامية إلى جميع الناس وإلى آخر عمر الحياة الدنيا . أُصيبت الأمة بعد تسلط الأعداء عليها ، وأوجعَ أبناءَها المصاب الأليم ، من القتل والسجن ، ومن ألوان التعذيب والتنكيل والتهجير ، واستباحة المحرمات واعتماد طمس الهُوية الإسلامية في المجتمع الإسلامي ، وضاقت الأرض بما رحبت على المخلصين من أهل الإسلام الذين لايعتريهم يأس ولا يقعدهم خورٌ عن الجهاد ومتابعة الطريق ، إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينصر الأمة على طغاتها وعلى كل أعدائها ، وقادر على أن يسخر أسباب النصر لها في أي ساعة : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا). وجنود الله لايمكن ردَّ ماقضاه الله بها ، فمهما اشتدت الكرب ، وأعيت المجاهدين الحيل ، وجاء العدو بكل حوله وقوته ، كما قال تعالى : (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وإِذْ زاغَتِ الأبصارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) إنه الابتلاء العظيم ، وإنها الزلزلة الشديدة للأنفس ، ولكن يبقى نصر الله قريبا من المؤمنين الصابرين ، ولا بد من ساعة يتنزل فيها النصر بإذن الله ، وعندئذ تتلاشى الغمة ، وينكشف ليل الآلام والمحن عن نهار الفتح المبين ، لقد أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه من الابتلاء والزلزلة مالا تتحمله الجبال الراسيات ، ولكن جيل النبوة صبر وآثر الآخرة على الفانية ، وصدق الله يوم عاهده ، ولم تكن النتيجة إلا تأييد الله لعباده الصابرين المجاهدين : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). فكان الفتح من الله ، وجاء النصر بإذنه لعباده الذين لم يرهبوا سطوة الأعداء والطغاة والفراعنة ، بل كانت وجوههم مشرقة بأنوار اليقين : (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). فلا مكان لليأس ولا للخور والتخاذل في قلوب المؤمنين ، ولا للريب محاولا غزو النفوس الضعيفة التي لم تأتلق بأنوار الأشواق الروحية التي تنداح من عوالم الغيب تبشر المرابطين هنا وهناك ، وتحدثهم : بأنَّ النصر قريب بإذن الله رب العالمين .
وسوم: العدد 1096