التهمة الكيدية في حرق مكتبة الإسكندرية/8 + 9

عبد اللطيف البغدادي

هو رحالة عراقي وحكيم ونحوي وعارف بالنبات والحيوان والتشريح، والفقه والأدب وعلوم القرآن والأدوية والروحانيات والكلام والفلك والفرق والبلاغة والسياسة والطبيعة والأحجار الكريمة والنفس والحواس والفلسفة والمنطق وغيرها العلوم مع إنه يقول" أياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة وواظب على العلم الواحد". (عبد اللطيف/40). كما يقال ينصح الناس وينسى نفسه!

ذكر المستشرق "ماكس مايرهوف" في كتابه (تراث الإسلام) بأن" البغدادي رحل من بغداد إلى القاهرة ليرى كبار العلماء وأرض مصر، كما وصف المجاعات والزلازل التي حدثت فيها. وقدم البغدادي معلومات نفيسة عن خواص العظام بعد دراسة لها في مقبرة قديمة تقع شمال غربي القاهرة، وراجع وصحح وصْفَ جالينوس لعظم الفك الأسفل وعظم العجز". لهذا يمكن الجزم بأن البغدادي ليس بمؤرخ. كما إنه في رحلته لم يراجع أو يصحح كتب جالينوس، بل تمنى ذلك! فقد ذكر البغدادي" وليت مكَّنتنا المقادير بالمساعدة ووضَعنا مقالةً في ذلك تحكي فيما شاهدناه وما علمنا من كتب جالينوس". ( الإفادة والاعتبار/61).

كما هو معروف أن كتب الرحالة تحتوي على الكثير من الأخطاء التأريخية سيما في تسميات الأشخاص، والأماكن، وتفاصيل الحوادث، وتواريخها. فإذا قرأت كتاب عن مدينة ما، ستجد بعض الأسماء والتفاصيل تختلف في كتاب آخر، ولو بشكل محدود، بسبب اختلاف المشاهدات من قبل الراوي وتأريخ الرحلة واختلاف مصادر معلوماته. أدب الرحلات هو أحد فنون الأدب وليس التأريخ، ويتضمن وصف ومشاهدات الرحالة، وهو أقرب للجغرافية منه للتأريخ ويتضمن غالبا أمورا تتعلق بآداب الشعوب وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ونبذ عن النباتات والأعشاب والحيوانات، وقد يتطرق الرحالة إلى الأنساب والعشائر. يفترض بالرحالة أن ينقل مشاهداته وما عايشه ومرٌ به من حوادث، وليس حوادثا لا علاقة لها برحلته، بل سبقت ولادة الرحالة نفسه بقرون، وإن تحدث لسبب ما، عليه أن يذكر سند روايته ليعرف القارئ مصدرها ويحكم عليها.

عاش البغدادي في القرن السابع الهجري أي بعد وقوع الحادثة المزعومة بأكثر من ستة قرون،

كتب رحلته عام (600 هـ). وهو لا يذكر سند الرواية وممن سمعها أو استقاها، سيما ان المؤرخين القدامى العرب والأجانب والرحالة أيضا لم يشيروا إليها بتاتا. والكثير من المعلومات الواردة في رحلته يقول عنها حدثني احدهم، او حدثني بعض الثقاة، وجميعهم نكرة، لا أحد يعرفهم! أمثلة على ذلك:

في حديثه عن عمود السواري في الإسكندرية أيضا بقوله" خبرني بعض الثقاة إنه قاس دوره فكان خمسا وسبعين شبرا". (كتاب الإفادة والاعتبار/94)، ثم يستمر في تكملة الخبر. وينقل البغدادي عن أحدهم دون ان يسميه" إِّني لأذكر في سنة تسعين ومائتين أنّ الشهب بمصر انتثرت وعمّت الجوَّ بأسره، فارتاع الناس ولم تزل تكثر فلم يمضِ لذلك جزءٌ من السنة يسير، حتى ظمئ الناس وبلغ نِيل مصر ثلاث عشرة ذراعا واضطربَ الناس اضطراباً، زالت به دولة الطولوني من مصر وانتشرت في سنة ثلاثمائة من سائر جهات الجو فنقص النيل أيضا ووقعت همرجات واضطرابٌ في المملكة، وهذه لعمري دلائل قوية ولكنّها عامة لجميع الأقاليم وليست خاصة بمصر فقط، على أنه أيضا قد وقع هذا الحادث بعينه في سنتنا هذه من تناثُرِ الكواكب في أوَّلها ونشيش الماء في آخرها". ( الإفادة والاعتبار /48).

كذلك قوله" مما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم، وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر ليس فيها بلد إلّا وقد أكل فيه الناس أكلا ذريعا من أسوان وقوص واليوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحي، وخبرني بعض أصحابي وهو تاجر مأمون حين ورد من الإسكندرية بكثرة ما عاين بها من ذلك، وأعجب ما حكى لي أنه عاين أرؤس خمسة صغارٍ مطبوخة في قدر واحدة بالتوابل الجيدة". ( الإفادة والاعتبار/52).

وذكر" حكى لنا رجل أنه كان له صديق أدقع في هذه النازلة فدعاه صديقه هذا إلى منزله ليأكل عنده على ما جرت به عادتهما قبل، فلما دخل منزله وجد عنده جماعة عليهم رثاثة الفقر وبين أيديهم طبيخٌ كبير اللحم وليس معه خبز، فرابه ذلك وطلب المرحاض فصادف عنده خزانة مشحونة برمم الآدمي وباللّحم الطري فارتاع وخرج فارّاً. وظهر من هؤلاء الخُبثاء من يصيد الناس بأصناف الحبائل ويجلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل، وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطبّاء ممّن ينتابني، أما أحدهم فإنّ أباهُ خرج فلم يرجع، وأما الآخر فإنّ امرأةً أعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضِها، فلما توغّلت به. ضايقَ الطرق استرابَ وامتنعَ عنها وشنّع عليها فتركت درهميها، وأما الثالث فإنّ رجلاً استصحبه إلى مريضه في الشارع بزعمه، وجعل في أثناء الطريق يصدف بالكسر ويقول اليوم يُغتنم الثوابُ ويتضاعفُ الأجرُ ولمثل هذا فليعمل العاملون، ثم كثر حتّى ارتاب منه الطبيب ومع ذلك فحسن الظن بقلبه وقوة الطمع تجذبه، حتى أدخله داراً خرِبة فزاد استشعاره وتوقّف في الدرج وسبق الرجل فاستفتح، فخرج اليه رفيقه يقول له: هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فخرج الطبيب لما سمع ذلك، وألقى نفسه إلى إصطبل من طاقة صادفها السعادة فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله عن قضيته فأخفاها عنه خوفا منه أيضا، فقال: قد علمت حالك فإنّ أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل". ( الإفادة والاعتبار/52). لاحظ الأخطاء اللغوية! وقوله عن حوادث سنة خمس وتسعين وخمسمائة" حُكي لي أنه كان بمصر تسعمائة منسجٍ للحُصُر، فلم يبق إلّا خمسة عشر منسجا، وقِس على هذا سائر ما جرت العادة أن يكون بالمدينة من باعةٍ وخبازين وعطّارين وأساكفة وخيّاطين وغير ذلك من الأصناف، فإنه لم يبق من كلّ صنفٍ من هؤلاء إلّا نحو ما بقي من الحصريين أو أقل من ذلك". ( المصدر السابق/57). وقوله" حكي لي أن رجلا مصريا شارف الفقر فأُلهِم أن اشترى من الشام دجاجا بستين دينارا، وباعها بالقاهرة على القماطين بنحو ثمانمائة دينار". ( المصدر السابق /57). وقوله" سمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلَّى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركةً واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا". ( المصدر السابق/57). وهكذا يستمر في أحاديثه الأخرى! بمعنى إنه الأصل في كلامه أن خبره الثقاة! لكن من هم الثقاة؟ وكيف نعرف إنهم حقا ثقاة؟ هل لأنه اعتقد بهذا الرأي، يلزمنا بقبول رأيه؟ ثم ما هو معياره في الحكم على الثقاة وهو رحالة لم يتعرف عليهم إلا خلال رحلته، ويرحل عنهم متنقلا الى مكان آخر بعد مضي فترة قصيرة؟ هذا كلام عبثي يتنافى مع الطرح العلمي والمنطق السليم. بل هو نفسه يعارضه! فهو يقول في كتابه (شرح تقدمة المعرفة) بأن" كل واضع كتاب علمي على جهة معدلة، فقصده تسهيله على المتعلم بثلاثة أوجه؛ الأول: أن يجتنب اللفظ الوحشي والملبس والمغلطة ويجتهد أن يصور المعنى في نفس المتعلم بغاية الإمكان. والثاني: أن يثبت الرأي بالحجج الممكنة والأدلة الواضحة، والثالث: أن يرتب الموضوع ترتيبًا يسهل حفظه ولا يصعب ضبطه". فهل فعل ذلك في رحلته؟

قال فارس الشدياق" إنها مصر الأمصار ومدينة المدن وعاصمة العواصم وشيء الأشياء إلى آخره. وما أدري فرق ذلك وكيف كان فيها مدينة غاصة باللذات السائغة متدفقة بالشهوات السابغة توافق المحرورين من الرجال خلافا لما قاله عبد اللطيف البغدادي. يجد بها الغريب ملهى وسكناً وينسى عندها أهلا ووطنا ومن خواصها أن ما يذهب من أجسام رجالها يدخل في أجسام نسائها فترى فيها النساء سمانا كالأقط بالسمن على الجوع والرجال كالحشف بالشيرج على الشبع، ومنها أن أسواقها لا تشبه رجالها البتة. فإن لأهلها لطافة وظرافة وأدبا وكياسة وشمائل مرضية وأخلاقاً زكية وأسواقها عارية عن ذلك رأسا".( الساق على الساق/89). كما قال البغدادي" إن ما تراه أعيننا أصدق بكثير مما نقرأه"، لكنه لم يطبقها على نفسه في موضوع حريق مكتبة القاهرة. ربما سمعها من عوام المصريين، فهو ينقل أحيانا ما يسمعه دون أن يتحقق منه. قال ابن ابي أصيبعة عنه " ألف الشيخ موفق الدين في ذلك كتاباً ذكر فيه أشياء شاهدها أو سمعها ممن عاينها تذهل العقل، وسمى ذلك الكتاب كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر". (عيون الأنباء في طبقات الأطباء). هذا بعض مما ورد في رحلته من غرائب لا تتوافق مع العقل والمنطق:

ذكر بأن بعض الناس أخبروه" إن شجرة الموز في الأصل مركب من قلقاس ونوى النخيل، تجعل النواة في جوف القلقاس وتغرس، وان كان القول ساذجا من دليل يشهد له، فالحس يسوغه". (كتاب الإفادة والاعتبار/71). فهو يعتمد الحس بدلا عن التجربة وهذه مثلبة وهو كما يفترض عالم بالنبات! كما إنه خلط بين القلقاس والزنجبيل فاعتبرهما واحدا مع اختلاف حجم الورق كأبسط فرق!

ومن عجيب ما ذكره: إن حمير مصر فارهة جدا وتركب بالسروج وقد تسبق في جريها الخيول والبغال النفيسة". (كتاب الإفادة والاعتبار/83) ومما قاله" التمساح حيوان مائي في الأصل لكنه يعيش في البر ويبيض في البر فيكون منه السقنور. الأسقنقور من نتاج التمساح". (المصدر السابق /85). ويضيف عبد اللطيف البغدادي" الاسقنقور ويكون بالصعيد وبأسوان كثيرا ويكون من نتاج التمساح في البر، وهو صنف من الورل، بل هو ورَلٌ إلّا أنه قصير الذنب". ( المصدر السابق/20). وفي حين أن السنقور والتمساح حيوانان مختلفان. كما أعتبر الصابئة من النصارى بقوله" لما كان النصارى معظمهم وجمهورهم أقباطا وصابئة، نزعوا إلى الأصل ومالوا إلى سنَّةِ آبائهم القديمة في اتخاذ التصاوير في بِيَعِهم وهياكل عبادتهم وبالغوا في ذلك وتفنَّنوا فيه، وربّما ترامَوا في الجهالة حتى يصوِّروا إلهَهُم والملائكةُ حوله بزعمِهم". (المصدر السابق/34). وهذا خطأ لا يُغتفر!

ومن عجائب ما ذكره" أخبّرني الثقةُ (من المصريين) أنهم بينما كانوا يتقفّون المطالب عند الأهرام، صادفوا دنّاً مختوماً فقضوه فإذا به عسل، فأكلوا منه فعلق في إصبع أحدهم شعر فجذبه فظهر له صبي صغير متماسك الأعضاء رطب البدن عليه شيء من الحُلي والجوهر". (المصدر السابق /35). هل يوجد عسل يبقى آلاف السنين على حالة؟ ويبقى الجسم البشري فيه طريا! وحديث آخر عن السلحفاة جاء فيه " الترسة وهي سلحفاة عظيمة وزنها نحو أربعة قناطير، ورأيتها بالإسكندرية يُقطع لحمها ويباع كلحم البقر. وفي لحمها ألوان مختلفة ما بين أخضر وأحمر وأصفر وأسود وغير ذلك من الألوان، وتخرج من جوفها نحو أربعمائة بيضة". (المصدر السابق/22). من المعروف أن عدد البيض عند السلحفاة، تتراوح ما بين 1 ـ 30 بيضة بشكل عام تفقس ما بين 50 ـ120 يوما. وعن سمك السرب قال عبد اللطيف البغدادي" وهي سمكة تُصاد من بحر الإسكندرية يحدث لأكلها أحلام ردية مفزعة، ولا سيما الغريب ومن لم يعتدها". ( الإفادة والاعتبار/22). وعن فرس البحر قال" خبرني من اصطاد فرس البحر مرات وشقها وكشف عن أعضائها الباطنة والظاهرة أنه خنزير كبير وأن أعضاءها الباطنة والظاهرة، لا تغادر من صورة الخنزير شيئا إلّا في عظم الخلقة". ( الإفادة والاعتبار/21). ويصفها " بالجملة، هي أطول وأغلظ من الفيل، إلّا أن أرجلها أقصر من أرجل الفيل بكثير، ولكن في غلظها أو أغلظ منها". ( المصدر السابق/22).

وصف عبد اللطيف البغدادي صلاح الدين بن أيوب بالجهل والانصياع لآراء اتباعه دون تحقيق وتمحيص بقوله " كأن الملك العزيز عثمان بن يوسف لما استقل بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي. فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه ووكّلهم بخرابه فخيّموا عندها وحشروا عليها الرجال والصنَّاع ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع الحجر والحجرين، فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس والأشطان، فإذا سقط سُمع له جلبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترتجف له الجبال وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه ثم يضربون فيه الأسافين، بعد ما ينقبون لها موضعا ويبيتونها فيه، فيتقطع قطعا فتسحب كل قطعة على العجل حتى تُلقى في ذيل الجبل وهي مسافة قريبة، فلما طال ثوباؤهم ونفذت نفقاتهم وتضاعف نصبهم ووهنت عظامهم وخارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة". (الإفادة والاعتبار/26). في حين يقول المقريزي عن العزيز عثمان" من عقلاء الدولة، له علم بالحديث والفقه، سمع الحديث من الحافظ السلفي وأبي عوف الزهري وابي محمد ابن بري النحوي ". الحقيقة أنه لم يبقَ من مؤلفات البغدادي إلا بعض الكتب القليلة، منها الكتاب السابق في وصف مصر، ومخطوطته في مكتبة البودليان في أكسفورد وقد ترجم إلى الألمانية عام 1790م، وإلى الفرنسية عام 1810م، وإلى الإنجليزية عام 1964م. من هذه التواريخ نستنتج بأن المؤرخين الغربيين لم يطلعوا أصلا على كتاب البغدادي! وإنما نقلوا ما قاله إبن العبري.

من جهة أخرى قال عبد اللطيف البغدادي" رأيتُ أيضاً في الاسكندرية حول عمود السواري من هذه الأعمدة، بقايا صالحة بعضها صحيح وبعضها مكسور ويظهر مِن حولها أنها كانت مسقوفة والأعمدة تحمل السقف، وعمود السواري عليه قبة هو حاملها وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطوطاليس وشِيعته من بَعده". (الإفادة والاعتبار /28). لكنه يقول بعدها" اعلم أن الأهرام لم أجد لها ذِكراً في التوراة ولا في غيرها ولا رأيت أرسطو ذكرها، وإنما قال في أثناء قوله في السياسة: كما كان من سنَّة المصريين البناء". (الإفادة والاعتبار /38).

علق الأستاذ نبيل الكرخي على هذا الأمر بقوله" احتوت رواية البغدادي على خطأين فذكرت الرواية انَّ أرسطو طاليس كان يدرس في مدرسة الاسكندرية أي المتحف الذي ذكرناه سابقاً وهذا الأمر غير صحيح ، لأن أرسطو طاليس (384 ـ 322) ق.م لم يحضر إلى الاسكندرية ولا إلى مصر. والخطأ الآخر هو أنها نسبت للإسكندر بنيانه وإنشائه للمكتبة وهو خطأ لأن الذي بناها هو بطليموس الثاني (فيلادلفوس) وقيل (بطليموس الاول سوتر). فإذا اخطأ البغدادي في معلومتين تأريخيتين فلا يستبعد انه قد اخطأ في المعلومة الثالثة ايضاً. فنجد انه من غير المجدي الاعتماد على رواية البغدادي هذه في إسناد التهمة للمسلمين بأنهم أحرقوا مكتبة الاسكندرية. ومن المحتمل أن يكون البغدادي قد ألف الحادثة من نفسه أو سمعها من أحد العوام دون أن يكلف نفسه التحقق منها. ولأن كتابه من أدب الرحلات فأنه غير معني أصلا بالحوادث السابقة". وقد جاء في سيرته الوحيدة " ترجمة كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر وفرغ من تأليفه من العاشر من شعبان سنة ثلاث وستمائة بالبيت المقدس". (عبد اللطيف/56).

يبدو ان البغدادي خلط بين ارسطو وارسطبولس أو بطليموس. قال محمد مسعود" أنشأ بطليموس سوطر في الاسكندرية مكتبة عزيمة جمع فيها انواع كتب العلوم والفنون حتى بلغ عدد مجلداتها نيف واربعمائة الف وأسس محلا علميا سماه بمدرسة الاسكندرية وكان يتخرج منه اعظم البلغار والفلاسفة الذين نبغوا في جميع العلوم، وكان بطليموس نفسه يحضر دروس الهندسة على اقليدس معيرا أياه إذنا واعية وعينا صاغية، منتبها صامتا كأحد التلاميذ". (المنحة الدهرية/70)

أضاف محمد مسعود" ممن يشار اليهم بالبنان في هذه العلوم دمتربوس دوفالير واريستارك في النحو، وهيروفيل وايرازسترات في الطب، وتيراك وارشتيد وهيبارقة وبطليموس وكانون في الهيئة، واقليدس وابوللونيوس وديوفانت في الهندسة، واراتوستين واسترابون في تخطيط المدن، وسنيزيديم وشكستوس وبوتامون وامونيوش ساكلس في الفلسفة، وممن نبغ بالمدرسة الاسرائيلية ارسطبولس وفيلون، وبالمدرسة المسيحية سان بنتان وكليمان". (المنحة الدهرية/95).

الأغرب من هذا كله اطلعنا على أهم الطبعات لكتاب البغدادي ولم نجد ذكرا لموضوع حريق مكتبة الإسكندرية! منها أقدم طبعة وهي (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر. عبد اللطيف البغدادي (توفي 629 هـ) . تحقيق. علي عمر. مطبعة وادي النيل. مصر 1286 هـ). في حين وردت إشارة لا تزيد عن سطر واحد في (كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور والمشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر. موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي. إشراف وتقديم: د. عبد الرحمن الشيخ. الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطبعة الثانية 1998). فهل إضاف أحد النساخ هذه الأكذوبة للبغدادي، او أن المحققين حذفوها؟ الله أعلم بالحقيقة، ولكن النسخة القديمة برأينا هي الأصح، وربما يجد بعض المحققين مخطوطة أخرى، ويوافينا بالحقيقة.

ابن العبري

فيلسوف ولاهوتي سرياني نال الشهادة الكهنوتية على يد البطريرك (اغناطيوس داوود الثاني) وصار أسقفا في مدينة جوباس ولاقبين ثم مطرانا على حلب، وتوفي في بلاد فارس. كتب في كل العلوم كالفلسفة والمنطق واللاهوت والنجوم والفلك والطب والأخلاق والقانون والصرف، والنحو، والأدب، والتأريخ. ومن أشهر كتبه (مختصر تأريخ الدول). طبع هذا التاريخ لأول مرة سنة 1663 في مدينة أكسفورد باللغتين العربية واللاتينية بمراجعة العلّامة پوكوك. ثم ترجمه بوّر الى الالمانية سنة 1783 وهو كتاب مقتضب لا نفع منه من الناحية التأريخية، فقد ذكر موجزا صغيرا عن الخلفاء من الراشدين الى نهاية الدولة العباسية على أيدي المغول، وقد استقى معلوماته من الرواة قبله، والكتاب يتحدث عن الأطباء الذين صَحبوا الخلفاء وأهم كتبهم ومعالجة أمراض الحكام والناس معا. في الكتاب معلومات متناقضة وبعضها لا سند لها لا، على سبيل المثال ادعائه" ان ملكيزدق كان في ايام نوح وانه كان ابن شام"، في حين يذكر بعدها" ان الكتاب الالهي اعرض عن ابانة نسب ملكيزدق وتاريخي ولادته ووفاته".

كما ضم كتاب إبن العبري أخطاء تأريخية لا حصر لها، فقد ذكر مثلا في الصفحة (18) من كتابه المختصر" أن الافرنج هم من بني يافث"، في حين ذكر في الصفحة (14) من نفس الكتاب" ان الفرنج من الادوميين"! كما ذكر" ثم وجه الى المهدي بن المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة له ولابن عمه عيسى بن موسى بعده. فأبى عيسى بن موسى من البيعة للمهدي وامتنع بالكوفة وأراد ان يتحصن بها. فبعث المهدي أبا هريرة في ألف فارس فأخذه الى المهدي. ولم يزل يراوضه ويراوده حتى أجاب الى خلع نفسه. فعوضه عنها عشرة آلاف دينار وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي". (مختصر تأريخ الدول لأبن العبري/126).

أمر مثير حقا! كيف أرسل أبو هريرة (19 ق هـ ـ 57 هـ) في ألف فارس وقد توفي أبو هريرة قبل ولادة المهدي بسبعين عاما (127 هـ 169 هـ)؟ وأخطاء تأريخية أخرى هي خارج موضوع بحثنا. لم يأتِ ابن العبري على ذكر مكتبة الإسكندرية في عدد من مخطوطات كتابه المذكور، بل لم يَشِر الى مدينة الإسكندرية إلا عرضا ومنها" لما بنى الإسكندر الاسكندرية رغب الناس في عمارتها لحسن هوائها وطيب مائها وكانت دار العلم والحكمة بمصر الى ان تغلّب عليها المسلمون واختط عمرو بن العاص على نيل مصر المدينة المعروفة بفسطاط عمرو فانسرب العرب والعجم لسكناها فصارت قاعدة مصر". (مختصر تأريخ الدول/14). عن حرق الكتب أشار في معرض حديثه عن الرياضي ارشيميديس بقوله" إنه يوناني أخذ الحكمة من المصريين. وقيل ان الذي اردم اراضي اكثر قرى مصر وأسس الجسورة المتوصل بها من قرية الى قرية في زيادة النيل ارشيميديس. وللعبري مصنفات عدة مثل كتاب الكرة والاسطوانة والمسبّع في الدائرة. وقيل ان الروم أحرقت من كتبه خمسة عشر حملا". ( المصدر السابق/38). ولم يتحدث عن عمر بن العاص إلا في حادثين بصورة مقتضبة بقوله" فتح عمرو بن العاص مصر عنوة وفتح الاسكندرية صلحا". (المصدر السابق/101). والثاني أشاد فيه الى نحب عمر للعلماء والأدباء وتقريبهم له بقوله" عاش الى ان فتح عمرو بن العاص مدينة الاسكندرية. ودخل على عمرو وقد عرف موضع غرماطيقوس النحويّ من العلوم فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها انسة ما هاله ففتن به. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه". (المصدر السابق/103). فهل يعقل أن يقوم (العاقل وحسن الاستماع وصحيح الفكر كما وصفه ابن العبري) الذي يقرب العلماء والأدباء ويرعاهم ويغدق عليهم الهدايا والعطايا، بحرق أكبر مكتبة في ذلك الزمان؟ كما قيل حدث العاقل بما لا يُعقل فإن صدق فلا عقل له. في الخطط الجديدة لمصر جاء ما يأتي" إن إحراق السرابيوم كان بأمر من البطريق (تيوفيل) بعد توقف كثير من العلماء والأهالي، ثم بنى محل السرابيوم كنيسة سميت (اركاديوم) من اسم القيصر اركاديوس المتولي تخت القيصرية بعد القيصر (تيودوز الأكبر) وجعل فيها دار كتب جمع ما أبقته النار، وشيئا كثيرا من كتب النصرانية، وهي التي نُسب إحراقها الى عمر بن العاص، لكن لم يعلم وجه انتساب ذلك اليه، فإن هذه الحادثة لم يتكلم عليها أحد من المؤرخين في عصره من النصارى وغيرهم، ولم يظهر ذلك إلا في القرن الثالث عشر من الميلاد من كتابة تُنسب الى أبي فرج بطريق مدينة حلب، مع إنه لم يذكرها في تأريخه العام". (المنحة الدهرية/98).

الخلاصة هي محاولة من بطريق لرمي تهمة حريق المكتبة من قبل أقرانه على أعناق المسلمين.

من العجب انه لم يتحدث عن غزو التتار للعراق الا على نحو يسير لا أهمية له بقوله" وفيها غزا التتار العراق ووصلوا الى تخوم بغداد الى موضع يسمّى زنكاباذ والى سرّمرّأى، فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابيّ في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم وخافوا من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد. وفي آخر هذه السنة عاد التتار الى بلد بغداد ووصلوا الى خانقين فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين الى بغداد بعد ان قتل منهم خلق كثير وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا. وفيها حدث ببغداد مدّ دجلتها مدا عظيما هائلا وغرق دور كثيرة وغرق سفينتان فهلك فيهما نحو خمسين نسمة". (المصدر السابق/251).

وهنا نتساءل هل يعقل ان يهمل ويتجاهل موضوع حرق دور الكتب في العراق التي تحدث عنها جميع الرواة مفصلا، ويتحدث عن حريق مكتبة الإسكندرية؟

لإعطاء صورة عن تدوينه للأحداث خلال عام 656 هـ أي عام غزو المغول للعراق، ذكر الآتي" توفّي الفائز عيسى بن الظافر اسماعيل صاحب مصر وكانت خلافته ستّ سنين وولي الأمر بعده بمصر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقب العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويّين بالديار المصريّة". (المصدر السابق/212). ولم يعرج على أي موضوع آخر خلال هذه الفترة المظلمة من تأريخ الأمة الإسلامية الخطير!

ذكر الأستاذ نبيل الكرخي في نقده للرواية " الرواية تحوي على أخطاء تأريخية منها انها ذكرت أن يحيى الغراماطيقي قد عاصر الفتح الاسلامي وعاش بعده بينما تذكر المصادر أنَّ يحيى الغراماطيقي كان ميتاً في وقت الفتح الإسلامي لمصر، وهذه اول نقاط ضعف هذه الرواية وعدم مصداقيتها ، يضاف لذلك أن أبو الفرج الملطى عاش في القرن السابع الهجري أي بعد حوالي سبعة قرون من الحادثة فهو لا يستند إلى دليل معتبر في إسناد روايته ولم يذكر أي مصدر يستند عليه في روايته هذه. واما تفريق الكتب على الحمامات لغرض حرقها ، فهو عمل مخالف لأوامر الخليفة لأن تفريقها على الحمامات يوفر فرصة مهمة لإنقاذها من خلال شرائها ممن يقومون بالحرق، بالإضافة إلى ان من يقومون بالحرق هم مسيحيون يمكن ليحيى الغراماطيقي ان يؤثر عليهم بسهولة لإنقاذ الكتب. والأسهل على عمرو بن العاص هو جمع الكتب في ساحات او حتى في اماكنها وإحراقها بدلاً من معاناة نقلها وهي آلاف مؤلفة إلى مناطق تواجد الحمامات وهي مناطق متفرقة. فضلاً عن أن الكتب تصنع عادة من الصحف والاوراق التي لا تصلح لإيقاد قزانات الحمامات. فهي لا تصلح وقوداً لكي يتم إتلافها بهذه الطريقة التي تعرقل عمل الوقود الاصلي للحمامات وتتلفه".

ويضيف د. إبراهيم عوض" من المعروف أن يوحنا النحوي لم يكن عربيا، فلم يكن يعرف العربية من ثم، مثلما لم يكن ابن العاص مصريا، وعليه لم يكن يعرف اللغة المصرية، كما لم يكن يعرف أية لغة أخرى غير العربية يمكنه التخاطب من خلالها مع يوحنا النحوي، فكيف إذن كانا يتفاهمان؟ كما يُفْهَم من كلام القفطي وابن العبري، قريبا جدا من دين المسلمين، إذ هو لا يؤمن بالتثليث ولا بالصليب، فمن المستبعد أن يرفض عمرو له طلبا كهذا كان يستطيع على الأقل أن يحققه له جزئيا فيتركه يأخذ من كتب المكتبة الإسكندرانية ما يكفى استعماله الشخصي مثلا دون أن يضر المسلمين ولا شخصه هو في شيء بدلا من أن يعقّد المسألة كل هذا التعقيد الذى تصوره الرواية، وفى نفس الوقت يتألف قلبه ولا يخزيه أمام الآخرين ممن يدينون بالصليب والثالوث. على أن الطريف لي المسألة هو أن يوحنا إنما تحدث عن حاجته هو وأمثاله إلى تلك الكتب، لنفاجا بابن الخطاب يتحدث كما لو كان العرض المقترح هو أن يستعملها المسلمون. ولكن ما دام لن يستعملها المسلمون، بل المصريون، فما معنى أن يقول إنها إن كانت توافق القرآن ففي القرآن غُنْيَةٌ عنها، وإن كانت تخالفه فلا يصحّ للمسلم قراءتها؟ إن ابن العاص يسأله عن شيء، فيجيبه هو عن شيء آخر لم يُسْتَفْتَ فيه ولا كان مطروحا أصلا للبحث". (مبحث بعنوان أسطورة إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية).

الكتاب بغض النظر عن اختلاف الطبعات، ليس من الكتب المعتبرة تاريخيا رغم معرفة الكاتب عدة لغات تساعده كما يفترض في التوسع بالمعلومات والتنوع في المصادر والاطلاع على الروايات باللغات الأخرى التي يجيدها. كما أنه عاش في عدة بلدان وعايش عدة ثقافات دون أن يجسدها في كتابه هذا على أقل تقدير.

لذا يمكن الجزم أن الكتاب أقرب أن يكون سيرة للأطباء الذين عاصروا الخلفاء. فالكاتب لم يتحدث مطلقا عن حريق مكتبة الإسكندرية في النسخة العربية ما عدا نسخة اليسوعي التي أشرنا لها، وعندما كتب عن الفاروق عمر بن الخطاب، كان الحديث لا يتجاوز الصفحة الواحدة، ولا يتضمن معلومات اكثر من تلك التي يعرفها طالب في الابتدائية عن ظهر قلب. ولم يتحدث عن علاقة العمرين ببعضهما. وقد ذكر د. نبيل لوقا بباوي حول ما نسب لابن العبري حول قيام عمر بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية " وجدت هذا الخبر في دائرة المعارف البريطانية الطبعة/11 ثم حُذف من دائرة المعارف البريطانية في الطبعة/14 بعد أن تأكد المحققون من عدم صدق الخبر". (مقال بعنوان: هل أحرق عمر بن العاص مكتبة المستنصرية؟).

ابن النديم

عاش في بغداد وكان أديبا ومصنفا ونسحا وخطاطا وجامع كتب، ورث المهنة عن أبيه، تتلمذ على يد السيرافي وعلي بن هارون، له كتاب الفهرست الذي جمع فيه وصنف الكتب والدراسات العربية، ويعتبر ثاني كتاب في التصنيف بعد كتاب طبقات الشعراء. وهو أول من أدخل كلمة الفهرست الفارسية الى العربية. ومن المعروف عنه تشيعه، لم يتتلمذ على أي من علماء أهل السنة، كان يسمي الشيعة (الخاصة) واهل السنة (العوام) والحشوية، ويرفض استخدام تعبير أهل السنة، وكان يضيف على الأئمة لقب (ع)، ويسمي الرضا (مولانا). قال الحافظ ابن حجر" هذا أوضح الأدلة على أن النديم رافضي، لأن هذه طريقتهم يسمون أهل السنة عامة، وأهل الرفض خاصة". (لسان الميزان5/268). وقال عنه عباس القمي" هو أبو الفرج محمد بن اسحاق النديم المعروف بابن ابى يعقوب الوراق النديم البغدادي الكاتب الفاضل الخبير المتبحر الماهر الشيعي الامامي مصنف كتاب الفهرست الذي جود فيه واستوعب استيعابا يدل على اطلاعه على فنون من العلم وتحققه بجميع الكتب، حكي انه كانت ولادته في جمادي الآخرة سنة 297 وتوفي يوم الاربعاء لعشر بقين من شعبان سنة 385". (الكنى والألقاب/425). يحتوي كتابه على عشر مقالات من بينها المقالة الثالثة وتضم الكتب التأريخية والسير والجغرافيا وأخبار الإخباريين والملوك والندماء وآدابهم وسيرهو وأنسابهم. لذا فهو ليس مؤرخ بقدر ما هو مصنف، نقل اسماء الكتب والأخبار. ويبدو أن تشيعه والإفراط في محبة آل البيت، ومجافاة أهل السنة بما فيهم العلماء، جعل يضرب العمرين (الفاروق وابن العاص) بحجرة واحدة، فنقل الخبر على علاته من ابن العبري وعبد اللطيف البغدادي دون سند أو تحقيق.

ابن القفطي

جاء كلامه عن المكتبة في معرض حديثه عن يحي النحوي وعلاقته بعمرو بن العاص على الرغم من احدهما عاش في الحجاز والأخر في مصر. والحقيقة ان إبن العاص لم يعاصر النحوي مطلقا. فقد ولد عمر بن العاص عام (592م ـ682م) وكان فتح مصر عام (21هـ /642م) ووقع على معاهدة الاسكندرية مع المقوقس في نفس السنة.

من الجدير بالإشارة أن العلامة (كريل) في دائرة المعارف البريطانية (ح/9 القسم التاسع 1764 ـ 1795) ذكر" من المحتمل أن يكون يوحنا النحوي قد ولد سنى 470 م، في إحدى المدينتين الواقعتين على البحر الأسود، وسافر وهو شابا الى الاسكندرية وتتلمذ على يد (أمونيوس)، ومن جماعته في الدراسة (سنبلقيوس)، و(اولمفيودورس). وانه اعتنق المسيحية عام 520 م". ورجح ان تكون وفاته ما بين عام 601 ـ 603 م. وهذا يعني أنه إذا افترضنا سفره للإسكندرية وهو شاب بحوالي (20) عاما، فهذا يعني انه كان في الإسكندرية عام 490 ميلادي. أي قبل فتح الإسكندرية بحوالي (152) عاما، وقبل ان يولد عمر بن العاص بحوالي (172) عاما. مما يبطل الروايات كلها. كما ذكر السيد حسين القابجي في مقال له نشره عام 2010 بعنوان (أول فيلسوف مسيحي اتبع المذهب الارسططالي) الآتي" إن الفيلسوف يحيى النحوي لم يلقَ عمرو بن العاص حين فتح الإسكندرية في سنة 640 م، ولم يعش مطلقاً في القرن السابع الميلادي والذي يدل على هذا أمران:

الأول : ما ذكره يحيى النحوي نفسه في كتابه (( في قدم العالم ضد ابرقلس/579) من انه يكتب هذا الكلام في سنة 529 م . قد كتب هذا التاريخ بالحروف، لا بالأرقام ، مما يمنع أي تحريف أو غلط.

الثاني : ما ذكره يحيى النحوي في شرحه على (السماع الطبيعي) لأرسطو ، حيث ذكر يوم العاشر من مايو سنة 517 م (شرح السماع الطبيعي/703).

التهمة الكيدية

في حرق مكتبة الإسكندرية/ 9 وهي الأخيرة

 

الخلاصة

  1. أعتمد المؤرخون على الروايات السابقة دون الرجوع الى بقية المصادر التأريخية التي تعتبر أقدم وأهم من الكتب التي اعتمدوا عليها وذلك لغاية في قلب يعقوب! فهم لم يشيروا مطلقا بأن هذه الرواية تفرد بها هؤلاء دون بقية الرواة، وان الرواة جميعا من المتأخرين عن الحادثة، ولا يوجد سند لرواياتهم. ويلاحظ أنه حتى الكتب الشعوبية التي تحدثت عن مثالب العرب والمسلمين لم تشر الى رواية حرق مكتبة الإسكندرية من قبل العمرين. لم ترد رواية حرق مكتبة الإسكندرية عند الرواة القدماء ومنهم المؤرخ الشيعي المسعودي (393هـ ـ346 هـ) صاحب كتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، وكان أقرب عهدا بالدولة الإسلامية من الرواة السابقين. ولا عند الطبري(839هــ 923) الذي سبقهم بقرون ويعتبر المؤسس الحقيقي لعلم التأريخ. ولم يروِ الرواية ابن كثير (701هـ ـ 774) في كتابه الموسوعي (البداية والنهاية) الذي أرخ فيه منذ بدأ الخليقة الى القرن الثامن الهجري. كذلك بالنسبة للمؤرخ أحمد اليعقوبي (توفي 248 هـ) وهو صاحب كتاب (تأريخ اليعقوبي) وكتاب (البلدان). ولا عند البلاذري صاحب كتاب (الأنساب)، كذلك لم يروِ الرواية كبار المؤرخين مثل أبن الأثير في كتابه (الكامل في التأريخ)، والإمام الذهبي في كتابه (تأريخ الإسلام) وطبقات أبن سعد وتأريخ دمشق لإبن عساكر، والمنتظم لأبن الجوزي، والعواصم من القواصم لأبن العربي، وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، وهذه هي أمهات كتب التأريخ المعتمدة في الوقت الحاضر.

لا يمكن اختزال التأريخ العربي والإسلامي بأربعة رواة وترك البقية. رواة حادثة حرق المكتبة لا ترتقي قيمتهم في السرد التاريخي ودقته إلى مستوى كبار الرواة والمتفق على أهميتهم عند العلماء والأكاديميين والباحثين. بمعنى أنه لا يمكن أن نجعل من رحالة ولاهوتي ومصنف كتب روادا في علم التأريخ ونرجحهم على كبار المؤرخين. أو أن ننزل الرحالة البغدادي وابن العبري والقفطي والمفهرسين إبن النديم وحاجي خليفة بمنزلة الطبري وابن الأثير، والبلاذري والذهبي والمسعودي. كما لا يمكن في الوقت نفسه أن ننزل الطبري والبلاذري والمسعودي والذهبي بمنزلة إبن النديم وحاجي خليفة في تصنيف وفهرسة الكتب. ولا أن ننزل هؤلاء الأخيرين بمنزلة إبن العبري في علوم اللاهوت والسريانية، لكل منهم اختصاص في مجال عمله ونشاطه الفكري.

  1. لو كانت حادثة الحرق قد تمت فعلا بأمر من عمر الفاروق ونفذها عمر بن العاص لكان الرواة الشيعة الأقدمون وجدوها فرصة ثمينة للطعن في العمرين كالمسعودي واليعقوبي والكليني والأصفهاني والمجلسي، سيما إن بعضهم نسبوا للفاروق الكثير من القصص الكاذبة مثل كسر عظم الزهراء وإجهاضها وغيرها من الخرافات والأكاذيب. بلا شك إن تحميل الفاروق مسؤولية حريق الإسكندرية يمثل طُعما ثمينا للصائدين في المياه العكرة. وما كانوا تركوها تمر هكذا بسلام. وهذا ما يؤكد بأن حادثة الحرق المفبركة لم يكن لها ذكر في عصرهم.
  2. لا يجهل أحد حب العرب للعلوم والمعارف قبل الإسلام وبعده، يذكرا للعلامة محمود شكري الألوسي من علوم العرب عِلم الطب، وكانوا ما يعلمونه منه مبنياً في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص ، متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه. وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي، وكان لهم علم تام في معالجة الدواب، ومِن مشاهير أطباء العرب : الحارث بن كلدة ، وابن حذيم . ومِن علومهم: عِلم الريافة، وهو: معرفة استنباط الماء مِن الأرض بواسطة بعض الأَمارات الدالة على وجوده، فيُعرَف بُعده وقُربه بِشَم التراب، أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بحركة حيوان مخصوص. ومِن علومهم: عِلم الاهتداء في البراري وهو: علم يُتعرف به أحوال الأمكنة مِن غير دلالة عليه بالأمارات المحسوسة دلالة ظاهرة أو خفية بقوة الشامة فقط لا يعرفها إلا مَن تدرب فيها كالاستدلال برائحة التراب، ومسامة الكواكب الثابتة، ومنازل القمر. ومِن علومهم: العِلم بخَلق الإنسان، فمَن نظر في كتب العرب أدرك عظيم إلمامهم ومعرفتهم بكيفية تركيب أجزاء البدن وترتيبها، ومِن علومهم: عِلم الملاحة، وأهل المعرفة به مِن العرب مَن سكن سواحل بحر القلزم وبحر الهند وبحر فارس. وكانت للعرب علوم باطلة كعلم العرافة، والكهانة، والعيافة، والزجر، والطرق بالحصى وغيرها". (راجع كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب).

بعد الفتح الإسلامي تطورت العلوم والمعارف وتوسعت لتشمل آفاقا جديد من خلال الترجمة عن الإغريقية والفارسية، والهندية، والسريانية، وغيرها. إن الأمة التي تمجد العلوم والمعارف وتحترم من يعمل بها بهذا الشكل الرائع لا يعقل أن تحرقها. ولو زعم الشعوبيون بأن العمرين أحرقا كتب الهرطقة والإلحاد فقط! لكانت حجتهم أقوى وربما يتذرع بها البعض ويقبلها، ولكن الله تعالى اراد أن يفضح مآرب الشعوبيين الدنيئة وأكاذيبهم الرخيصة. كما ان عدد الكتب (700000) وبلغات متعددة يصعب معرفة وتمييز المفيد منها من غير المفيد. وليس من الحكمة حرق الكتب المفيدة منها، كما جاء في الوصية المزعومة للفاروق والتي أمر العاص أن يعمل بموجبها.

  1. احتوت مكتبة الإسكندرية على أكثر من (700000) مجلدا وكان معظمها قد كُتب على أوراق النخيل والخشب والحجر ولحاء الأشجار والعظام والمعادن، وعرف عن المصريين استخدامهم قصب البردي للكتابة ومنها أنتشر في اليونان وروما واستمر الى أن تم اختراع الورق. وقد عرف العرب الورق بعد أسر عدد من الجنود الصينيين بسقوط سمرقند عام 705 م. ولم تعرف مصر الورق إلا في عصر هارون الرشيد. وهذا يكذب رواية ان الكتب استخدمت من قبل أصحاب الحمامات في الإسكندرية، فقد كان منها الواح ومعادن واحجار وعظام وقصب وليس ورقا، فما الذي يستفيد منه أصحاب الحمامات؟

لاحظ التالي:

ذكرت الروايات بأن عدد الحمامات كان حينذاك (4000) حماما، هنا سوف نتوقف قليلا ونتساءل:

أ. كيف تم نقل المجلدات وتوزيعها على أصحاب الحمامات؟ وهل راقب عمرو بن العاص عملية الحرق ليتأكد منها؟ وما الحكمة من كل هذا اللغو؟ ولماذا لم يذكر حكماء العصر واللاهوتيون والقساوسة حرق المكتبة سيما انها تضم الكتب المقدسة وشروحاتها؟ اليس بإمكان الخليفة ان يحرقها في مكانها دون الحاجة الى هذه الجهود الفائضة التي لا داعِ لها؟ ثم أن أصحاب الحمامات كانوا من الروم وليسوا من العرب، فلماذا لم يحتفظوا بها سيما ان بعضها يتضمن كتبهم المقدسة وشروحاتها بلغتهم، وهي تخص تأريخهم وآدابهم وعلومهم؟ اللوم هنا يقع أيضا على الروم أنفسهم الذين كانوا يملكوا الحمامات وحرقوا تأريخهم ومقدساتهم. هذا بالطبع على افتراض صحة الرواية.

ب. لو افترضنا جدلا أن عدد الكتب فعلا (700000) مجلدا، وان عدد الحمامات (4000) حماما كما قال الرواة، فهذا يعني ان نصيب كل حمام سيكون (175) كتابا. وجاء في الرواية ان الحمامات اشتغلت بها (6) اشهر، فهذا يعني ان الحمام الواحد كان يستخدم (29) كتابا في الشهر الواحد، أي يحرق مجلد واحد في اليوم! أي حمام هذا الذي يدفئه مجلد واحد في اليوم؟ لو حرقت مائة مجلد هل ستسخن حماما واحدا لمدة ساعة واحدة؟ علما ان الحمامات عامة.

يذكر محمد مسعود بهذا الصدد" أما دار الكتب الشهيرة فكانت موضوعة في (الميوزيوم) بالجزء المطل على الميناء، وذهب بعضمهم إلى ان مؤسسها هو بطليموس سوطر في القرن الرابع قبل الميلاد، وذهب البعض إلى أن مؤسسها إنما هو ابنه (فيلادلف)، وعلى أي حال فأن الذي جمع الكتب في الحقيقة هو الكاتب المنشيء (دمتريوس دوفالير) الذي أتى به في سنة 290 ق. م. الى بلاط الملك سوطر ملتمسا حماه، فقابله سوطر بالإكرام الزائد. فلما رأى دمتريوس منه فوق ما آمل عاونه على جمع مجموعة من الكتب كان قد صمم الاستحواذ عليها وبلغ عدد ما جمع (200000) مجلد، ولما كانت أيام (فيلادلف) أضيف إلى هذا العدد جميع كتب ارسطوطاليس التي حفظها (تيوفرست) زمنا طويلا واعطاها نيلة ابنه الى ملك مصر على سبيل التنازل، وكانت هذه المجموعة عظيمة جدا وتحتوي على ما تيسر لهذا الفيلسوف من جمعه من كتب الفلسفة والعلوم والفنون، وقد اختلف القدماء في عدد المجلدات التي كانت موجودة، فمن قائل إنها (500000) ومن قائل انها (750000) مجلد، ومن قائل غير ذلك. غير انه لا يجعل بنا ان نغتر بزيادة هذا العدد لأن اغلب المصنفات الكبيرة كانت مركبة من اجزاء صغيرة والتي حملهم على تقسيمها انما هو سرعة عطب ورق البردي وصعوبة مسك المصنف الكبير باليد والقراءة فيه. مثلا مصنفات (مارسيال) التي كانت ذات أبواب عديدة قسمت الى مجلدات بقدر عدد هذه الأبواب، وكذلك قصائد الشاعر هوراس، وبناء على ما أبديناه كانت دار كتب الاسكندرية اصغر بكثير من دور الكتب المتوسطة في عصرنا هذا". (المنحة الدهرية/96).

  1. يلاحظ ان أهم مروجي حريق الاسكندرية عاصروا فترة الحروب الصليبية وأحدهم (ابن العبري) وهو كما قلنا راهبا ولاهوتيا، وعايش الحملة الصليبية الأولى التي قادها (جان جي برين) عام 615 هـجرية. وأراد أن يخدم أصحاب مذهبه وتحفيزهم لقتال المسلمين باعتبارهم أحرقوا مكتبة الإسكندرية التي كانت تضم آلاف النسخ من الكتاب المقدس وشروحاته وكتب أساطين الدين المسيحي. وهذا ما يقال عن البغدادي (557 هـ ـ629 هـ) والقفطي الذين عايشوا الحروب الصليبية، ومن المعروف أن شراء الذمم في الحروب أمر مفروغ منه. ونحن هنا لا نخون الرواة بقدر ما نقول انهم أخطأوا في حكمهم وفق مبدأ حسن النوايا الذي أوصانا به الإسلام، والله أعلم ما في النفوس.

6ـ لا أحد يجهل وصايا الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين من بعده في عدم أيذاء الأمم والشعوب التي تخضع لنفوذهم، سواء كان الأذى عليهم أو على أرضهم أو ممتلكاتهم وزرعهم وحيواناتهم. وقد أتبع الفاتحون هذه الوصايا حرفيا خلال الفتوحات بشهادة النصارى واليهود أنفسهم، إلا بعض الحوادث التأريخية الشاذة التي لا تؤثر على جمال وكمال الصورة. وكان عمر بن الخطاب شديدا مع عماله في الأمصار، ومنهم عمر بن العاص الذي أحضره وحاسبه على شكوى من مواطن من العامة على أبنه، وطلب من الشاكي أن يضرب إبن الأكرمين. وسبق أن أرسل الفاروق كتاب (العهدة العمرية) لواليه في الشام وبقية الأمصار ذكر إبن القيم نصه، حيث يوصيهم فيه" الا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجدِّدوا ما خُرِّب، ولا يمنعوا كنائسهم من أن ينزلها أحدٌ من المسلمين ثلاث ليالٍ يطعمونهم، ولا يؤووا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلّموا أولادهم القرآن، ولا يُظهِروا شِركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوا، وأن يوقّروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنّوا بكناهم، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلّدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجُزُّوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيَّهم حيثما كانوا، وأن يشدّوا الزنانير على أوساطهم، ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يَظهِروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جَرَتْ عليه سهام المسلمين. فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمّة لهم، وقد حلّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق". (أحكام أهل الذمة1/210). فكيف يجرأ الولاة على مخالفة أوامر الخليفة القوي الذي لا يخشى في الحق لوم لائم؟ وهل يحتاج عمر بن العاص لرأي الخليفة في حرق الكتب ولديه العهدة العمرية. وقد عرف عن عمر بن العاص شدة ذكائه وسعة تفكيره، فهو ليس بحاجة لمشورة الخليفة في أمر يدركه جيدا.

  1. لم يشر الرواة والمؤرخون الأوربيون القدامى الى مسؤولية المسلمين عن حريق الإسكندرية، وإنما تحدثوا عن الحرائق التي سبقت الفتح الإسلامي، وهناك من اعتبرها ثلاثة، وآخرون أعدوها خمسة، كما أن أبرز مؤرخي تلك الفترة (جون فيكيو) المعروفة بدقة تفاصيله وتوسعها، لم يتحدث عن هذا الموضوع البتة، اما بقية المؤرخين اللاحقين فقد أخذوا بروايات ابن العبري والقزويني وليس عن مؤرخيهم الأوربيين. كما ان معظم المؤرخين الأوربيين أكدوا بأنه لم يكن للمكتبة أصلا أي وجود خلال الفتح الإسلامي كما استعرضنا. قال ابن خلدون" انقرض ملك اليونانيين بهلاكها، وذهبت علومهم إلّا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم حتى بحث عنها المأمون وأمر باستخراجها فترجمت له من (هروش يوش)". (تأريخ ابن خلدون2/226)

ذكر محمد مسعود" اختلف الرواة في سبب اندثار دار الكتب، إنما اجتمعت الآراء عليه في أيامنا هو ان الكتب كانت التي كانت محفوظة في (البروخيوم) تلفت بسبب الحريق الذي حصل دوتنمة قيصر، حين ثار أهل الاسكندرية، ولكن هذا الخلل أصلح فيما بعد بكنب برغام التي أهداها الامبراطور مارك انطوان الى كيلوبترا، ووضعت برعاية هذه الملكة في السرابيوم. وزعم البعض أنه لما صارت كتب الاسكندرية الى هذا الحال دمرها عمر في القرن السابع من الميلاد وهو زعم أتفق مؤرخو عصرنا على بطلانه وعدم صحته. والحقيقة ان الكتب التي حُفظت في السرابيوم دمرها النصارى في القرن الرابع، أما الأخرى فهجرت الى سنة 868 من الميلاد وإذ ذاك أتلفها الأتراك لما احتلوا مدينة الاسكندرية. كما ذكر عبد الله بن خالد الملقب بالشامي (القرن 8 م) عن السرابيوم" كان رواق الحكمة يحتوي على كتب قديمة ونفيسة جدا مكتوبة بحروف لا يحل رموزها إلا العلماء والمنجمون، وقد دمر النصارى هذه الكتب خوفا من أن يتوصل سحرة الوثنيين بواسطتها إلى الإضرار بهم، ولأجل أن يتأكدوا من عدم بقاء كتاب من هذه الكتب، فقد هدموا الذي كان يحتوي عليها، وجعلوا أعاليه سافله، على أن الدهر لم يتجاوز ذنبهم، بل جازاهم بمثل ما فعلوا، فساق اليهم عمر بن العاص فأحرق خزانة الكتب التي أسسوها برسمهم".

  1. في الرسائل المتبادلة بين العمرين لا توجد أية إشارة إلى مكتبة الإسكندرية، في حين وصف عمرو بن العاص للفاروق الكثير من مشاهداته في مصر كقوله عن الإسكندرية" في هذه المدينة أربعة آلاف حمام وأربعة آلاف دار لها شرفات وأربعون ألف إسرائيلي يدفعون الضرائب وأربعمائة مكان للرياضة والتنزه واثنا عشر ألف حديقة تخرج الأثمار فهل يعقل أن الرجل الذي لا يغفل في تقريره الحدائق والديار أن يهمل ذكر مكتبة الإسكندرية لو كانت موجودة في عهده على ما لها من الأهمية ونحن نختم هذه الرسالة ببيت من الشعر الإنكليزي: إننا نوجه إليهم سهام اللوم وليس جديراً باللوم سوانا". (مجلة المقتبس الجزء8/20 عام 1906). كما قال الهروي" سمعت على الشيخ أبى عبد الله محمد بن إبراهيم المقرئ قال: حدثنا أبو عثمان القاسم بن جعفر عن أبى داود سليمان بن الأشعث عن عبد الله عن نعيم بن سلامة الحميري عن محمد بن القاسم الثقفي عن عتبة بن مسعود عن مسلم بن عقبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى عمرو بن العاص وكان عامله على مصر يقول له: أما بعد يا عمرو، إذا أتاك كتابي هذا فابعث إلىّ جوابه تصف لى فيه صفة مصر وأوضاعها وما هي عليه حتى كأنني حاضرها» فأعاد عليه مكتوبا جواب كتابه يقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنها برية غبراء وشجرة خضراء بين جبلين جبل رمل وجبل كأنه بطن أقب أو ظهر أجب مكتنفيها، ورزقها ما بين أسوان إلى منشأ من البر ونتج من البحر، يخط في وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات، يجرى بالزيادة والنقصان كمجرى الشمس والقمر، له أوان تظهر إليه عيون الأرض وينابيعها مسخرة له بذلك ومأمورة له، حتى إذا ضخم عجاجه وتعاظمت أمواجه واغلولت لججه ولم يبق الخلاص إلى القرى بعضها إلى بعض إلا في خفاف القوارب أو صغار المراكب التي كأنها في الحبائل ورق الأبابيل، ثم عاد بعد انتهاء أجله نكص على عقبه كأول ما بدا في دربه وطما في سربه، ثم استبان مكنونها ومخزونها انتشر بعد ذلك، أمة محقورة وذمة مغفورة، لغيرهم ما سعوا به من كدهم وما ينالوا بجهدهم شعثوا بطون الأرض وروابيها ورموا فيها من الحب ما يرجون به التمام من الرب، حتى إذا أحدق وأبسق وأسبل قنواته، سقاه الله من فوقه الندى ورباه من تحته بالثرى، وربما كان سحاب مكفهر الوابل، وربما لم يكن، وذلك في زماننا يا أمير المؤمنين ما يغنى ذبابه ويدر حلابه، فبينما هي برية غبراء إذ هي لجة زرقاء، إذ هي مدرة سوداء، إذ هي سندسية خضراء، إذ هي ديباجة رقشاء، إذ هي درة بيضاء ( فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ(المؤمنون: 14) وفيها ما يصلح أحوال أهلها ثلاثة أشياء: أولها: لا يقبل قول خسيسها على رئيسها، والثاني: يؤخذ ثلث ارتفاعها يصرف في عمارة ترعها وجسورها، والثالث: لا يستأدى خراج كل صنف إلا منه عند استهلاله، والسلام". (الإشارات للهروي/50). يبدو ان هناك خلطا مقصودا بين رسالة عمر بن العاص الى عمر الفاروق، وبين رسالة سعد بن أبي وقاص لعمر الفاروق عندما فتح بلاد فارس، ووجد فيها الكثير من الكتب المجوسية فكتب للفاروق عنما يفعل بها؟ فأجابه" اطرحوها في الماء فإن يكون ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وأن يكن ضلالا فقد كفانا الله". وهذه الكتب مجوسية وليس لها علاقة بالأديان السماوية كالنصرانية واليهودية.
  1. هناك الكثير من الحقائق التي تدحض قضية الحرق منها حرص ومحافظة المسلمين على المكتبات التي تعود الى المسيحيين واليهود وبقية الأديان في البلدان التي فتحوها ومنها مكتبة (معبد السيرابيوم)، والمكتبات الموجودة في المعابد والكنائس والأديرة، يذكر د. نبيل لوقا بباوى" من المعلوم كذلك أنه في عهد عمر بن الخطاب في ربيع الثاني من العام السادس عشر من الهجرة في عام‏ 637‏م تم فتح بيت المقدس‏،‏ وكان بيت المقدس به مكتبة كبيرة‏.‏ ولو كان من عادة المسلمين حرق المكتبات لحرقوا مكتبة بيت المقدس‏. وكذلك تم فتح دمشق في العام الرابع عشر من الهجرة في عام ‏635‏م‏،‏ وكان بها مكتبة كبيرة‏،‏ ولم يتم حرقها. وقد تم فتح دمشق بمعرفة أبو عبيدة بن الجراح. والثابت كذلك أنه تم فتح الشام في العام الثالث عشر من الهجرة في عام ‏634،‏ وكان بها مكتبة كبيرة ولم يتم حرقها، فلم يكن من عادة المسلمين والعرب حرق المكتبات. ففي أثناء غزوة يهود خيبر لنقضهم عقد الصحيفة في العام السابع الهجري في عام ‏628‏، وبعد انتصار الرسول والمسلمين علي سلام بن مشكم زعيم خيبر، كان من الغنائم صحائف التوراة وكتب اليهود: أمر الرسول بتسليمها إلي يهود خيبر‏. وهذا يدل علي أنه ليس من سياسة الإسلام حرق كتب ومكتبات الآخرين، وإلا كانوا قد أحرقوا كل المكتبات في بيت المقدس‏‏ وفي دمشق وفي الشام‏.‏ ولذلك فإن خبر أو واقعة أن عمرو بن العاص هو الذي أحرق مكتبة الإسكندرية بعد استئذان الخليفة عمر بن الخطاب واقعة مكذوبة، ولا أساس لها من الصحة لأن التاريخ ثابت، والتاريخ لا يكذب". ( مقال بعنوان هل أحرق عمرو بن العاص مكتبة الاسكندرية). من جهة أخرى هناك روايات تؤكد احترام المسلمين لمقدسات الآخرين، منها ما ذكره البكري" أبي مينى، وهي كنيسة عظيمة فيها عجائب من الصور والنقوش توقد قناديلها ليلا ونهارا لا تطفى، وفيها قبو عظيم في أحد مبانيها فيها صورة جملين من رخام عليهما صورة إنسان قائم رجلاه على الجملين، إحدى يديه مبسوطة والأخرى مقبوضة، يقال إنّها صورة أبي مينى، كلّ ذلك من رخام. وفي هذه الكنيسة صور الأنبياء عليهم السلام كلّهم، صورة زكريا ويحيى وعيسى في عمود رخام عظيم على ذات يمين الداخل يغلق عليها باب، وصورة مريم قد أسدل عليها ستران ، وصور سائر الأنبياء. ومن خارج الكنيسة صور جميع الحيوان وأهل الصناعات ، من جملتها صورة تاجر الرقيق ورقيقة معه وبيده خريطة مفتوحة الأسفل، يعني أنّ التاجر بالرقيق لا ربح له. وفي وسط الكنيسة قبّة فيها ثماني صور يزعمون أنّها صور ملائكة، وفي جهة من الكنيسة مسجد محرابه إلى القبلة لا يصلّي فيه إلّا المسلمون حولها ثمار كثيرة وعامّتها اللوز الأملس والخروب المعسّل الرطب ويعقّد منه الأشربة، وكروم كثيرة تحمل أعنابها وشرابها إلى مصر". (المسالك والممالك للبكري2/647). وما ذكره الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي" على بعد نصف ميل من قبر حزقيال، قباب تحتها قبور (حننية)، (ميشائيل) و(عزرية) ( أي العزير) وهذه الأبنية كلها محافظ عليها من قبل اليهود والمسلمين. لا يمسها أحد بضرر حتى في أيام الحروب". (رحلة بنيامين/312). اقرأ ما يقول الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق عن مصر، مع أن فيه طعن كبير للعرب وذكر لمثالبهم خلال الفتوحات الإسلامية" إنما سميت بالفسطاط لأن عمرو بن العاصي لما استفتح مصر وأراد المسير إلى الإسكندرية أمر بالفسطاط أن يحط ويسار به أمامه فنزلت حمامة في أعلاه وباضت بيضتها فأخبر بذلك عمرو فأمر أن يترك الفسطاط على حاله إلى أن تخلص الحمامة فرخيها ففعل وقال والله ما كنا لنسيء لمن ألفنا واطمأن بجانبنا حتى نفجع هذه الحمامة بكسر بيضتها فترك الفسطاط وأقام بمصر إلى أن تخلص فرخ الحمامة ثم ارتحل". ( نزهة المشتاق 1/323).

قال الحميري" مدينة من كور الجزيرة من أعمال الموصل والجزيرة ما بين دجلة والموصل، و(آمد) بمقربة من (ميافارقين) فتحها عياض بن غنم بعد قتال على مثل صلح الرها، فإنه لما أتى الرها خرج إليه أهلها فقاتلوه فهزمهم المسلمون حتى ألجأوهم إلى المدينة فطلبوا الأمان والصلح، فأجابهم عياض إليه وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عياض بن غنم لأسقف الرها إنكم إن فتحتم لي باب المدينة على أن تؤدوا لي عن كل رجل منكم ديناراً أو مد قمح فأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم ومن تبعكم، عليكم ارشاد الضال وإصلاح الجسور والطرق ونصيحة المسلمين شهد الله وكفى بالله شهيداً". ( الروض المعطار1/3). وفي كتاب عتبة بن فرقد لأهل اذربيجان" هذا ما أعطاه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشعابها وأهل مللها كلهم، على الأمان على أنفسهم وأموالهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس ذلك على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه من الدنيا شيء ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوماً وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة رفع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام في ذلك ومن خرج فله الأمان حتى يرجع إلى حرزه". ( الروض المعطار1/21).

  1. فيما يتعلق بالرواة المتأخرين. مع الأسف أن بعض منهم سار كالأعمى وراء البغدادي وابن العبري دون أن يتبين درب الحقيقة، ويتوخى الدقة ويتحقق من الرواة سيما عمالقة المؤرخين وأقدمهم وأقربهم للحدث. هؤلاء البعض منهم ربما جاء حكمه بسبب عدم المعرفة وتوخي الدقة، ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء الرجوع الى المصادر التأريخية الرئيسة والمعتمدة. والبعض الآخر بسبب العداء للإسلام والعروبة، ومحاولة تشويه الصورة الناصعة لهما والطعن بكبار الرموز. هؤلاء المغرضون يحبون الصيد في المياه العكرة. ومنهم على سبيل المثال الكاتب جرجي زيدان وهو ماسوني، عمل مترجما مع المخابرات البريطانية ورافقهم في حملتهم الاستعمارية على السودان سنة 1884 وحصل على ثلاث أوسمة بريطانية على نشاطاته المريبة. ذكر محمد كرد علي عنه" في سنة 1884 سار مع الحملة إلى السودان لإنقاذ غوردون باشا بصفة مترجم بقلم المخابرات وعاد بعد عشرة أشهر إلى بيروت وفي صيف سنة 1886 زار لندرا وعاد في الشتاء إلى مصر فتولى إدارة مجلة المقتطف والمؤازرة فيها حتى سنة 1888 وفي سنة 1892 اصدر مجلة الهلال".(مجلة المقتبس الجزء89/38 السنة 1914). من الحدير بالإشارة أن جرجي زيدان واحد من أشهر الماسونيين وهو صاحب كتاب (تأريخ الماسونية العام)". (راجع صحوة الرجل المريض/340). علاوة على شاهين مكاريوس (آداب الماسونية) والأب اليسوعي لويس شيخو(السر المصون في شيعة الفرماسون، ومحمد عبدة (جردة المنار لرشيد رضا/ ج 8/ 410). علما بإن إدارة مجلة المنار في مصر طبعت الانتقادات الموجهة لكتب جرجي بك زيدان صاحب الهلال وورد" ان النقد مفيد في كل موضوع بكر به تنجلي الحقيقة ويدمث المسلك الوعر والأول من هذه الانتقادات بقلم شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني من أساتذة الهند. قال عنه الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني" ليست مؤلفات زيدان إلا فهارس لا تنقع غلة ولا تبل أواما ولا تفيد المطلع عليها، وليتها بعد ذلك سلمت من معرة الخطأ وخلت من الغلط الفاحش الذي يرجع إلى الإهمال والعجلة. فلا هي جامعة فيرجع إليها عند الحاجة ولا صحيحة فيعتمد عليها ويوثق بها وكذلك ليست رواياته بأرفع مرتبة من سائر تصانيفه وتوليفه فكثيراً ما تجد القصة فيها مشوشة مضطربة لأنه لم يتولها بروية ولم يتعهدها بنظر ولا تدبر وذلك شأنه في كل شيء ولو كان زيدان ذا تؤدة وأناة لما استطاع أن يخرج لقرائه هذا العدد الكبير من الكتب والروايات. لم يكن زيدان عظيماً ولا فحلاً من فحولة الكتَّاب ولا من أصحاب المبادئ ولا من ذوي البسطة في العلم والرسوخ فيه، وإنما غاية ما نستطيع أن نقوله عنه أنه كان من أرباب الاجتهاد مطبوعاً على العمل كثير الدؤوب عليه، هذا فضله وتلك مزيته. وليست مؤلفاته من الإبداع والحسن بحيث تصبح عندنا في مرتبة آبائنا وأحبابنا وتجاربنا لما يتجلى فيها من سعة الروح التي تكاد تلتهم الدنيا وتساوي العالم الذي تصوره! كلا! ليست كتب زيدان من هذا الصنف وليس زيدان في الحق إلا رجلاً من الأوساط لم يرفعه الذكاء وقوة الذهن وسعة الروح إلى مرتبة العظماء والفحول، ولم يهبط به الغباء والبلادة إلى درجة العوام والغوغاء ". (مجلة البيان20/41).

قال جرجي زيدان" أن عمرو بن العاص أحرق تلك المكتبة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب". (تاريخ مصر الحديث). بل أنه افترض أمرا غريبا يعكس سوء تقديره بقوله " لكن المسلمين بعد تمدنهم حذفوا هذا الكلام تصورا منهم أنه يسئ إلى دينهم وكبار رجالهم". (تأريخ التمدن الإسلامي3/49). مع إن التأريخ الإسلامي يحوي الكثير من المصائب التي لم يحذفها الرواة وهي تسيء للمسلمين والإسلام معا! مع هذا فقد ردٌ عليه المستر بتلر مؤلف كتاب (الفتح العربي لمصر) داحض تلك التهمة الباطلة. وهناك من حمل الشيعة فبركة الحادثة ورجح مسؤوليتهم عن حادثة الحرق، مثل محمد حسن هيكل بقوله " لعل الأسطورة نجمت في بيئات الشيعة". (الفاروق عمر2/170). والحقيقة أنه لا صحة لهذا الرأي، لأن مصدر الرواية ابن العربي والبغدادي والقزويني والقفطي وهم ليسوا من الشيعة. فبعض الرواة الشيعة تناقلوها كابن النديم وحاجي خليفة، ومن المحدثين الشيخ الأميني، ولكنهم ليسوا مصدرها الرئيس. أما طه حسن فالرجل كما قلنا حجة في الأدب وليس في التأريخ، لذا رأيه التاريخي في حرق المكتبة لا قيمة علمية له، لأنه نقله بعينه ولم يتمكن من إثباته بعقله غير البصير.

  1. تشير الروايات بأن عمرو بن العاص حرق المكتبة مع بداية الفتح الإسلامي، وهنا نتوقف قليلا لأمر مهم لابد من التذكير به، وهو انه مع نهاية الحرب او استعمار أو فتح دولة، تقوم القوى الغازية باستخدام أسلوبين في التعامل مع شعوب الدولة الجديدة الخاضعة لنفوذها.

أ. أسلوب القوة والترهيب واستخدام العنف ضد المواطنين لأشاعه الخوف والجبن الروح الانهزامية في صفوفهم فلا يجرأوا على مقاومة الغزاة خشية البطش بهم، وغالبا ما تستخدم القوى الغازية هذا الأسلوب مع الشعوب التي تقاومها قبل إخضاعها واستعمارها. أو عندما تتكبد القوى الغازية خسائرا كبيرة في الأرواح والمعدات فتثأر لقتلاها وتنتقم من الشعوب الني قاومتها بعد أن تبسط سيطرتها، وهناك المئات من الشواهد التأريخية على هذا الأسلوب أبرزها الغزو المغولي للعراق.

ب. أسلوب الترغيب والتعاطف مع الشعوب المحتلة واستمالتهم الى صفها لدرأ اية محاولة منهم للتصدي الى قواتها الغازية أو تشكيل جيوب لمقاومة المحتل، وهذا الأسلوب قد يكون صادقا كما في حال الفتح الإسلامي للقدس ومصر، او مخادعا كما هو عليه الأمر مع الشعوب التي خضعت للاستعمار القديم والحديث. وسبق أن تحدثنا عن معاهدة الإسكندرية التي عقدها عمرو بن العاص مع المقوقس، وكيف إنه اهتم بالمصريين واستمالهم الى صفه واهتم بالعلماء والأدباء، لذا فلو قام على سبيل الفرض بحرق المكتبة ومعظم المصريين كانوا غير مسلمين لأثار سخطهم، وهذا ما لم يحدث.

من جهة أخرى غالبا ما يصاحب الفتح الإسلامي للأمصار، حتى لو كان سلميا فوضى سياسية واقتصادية بسبب التخوف من الفاتحين الجدد والتوجس من أهدافهم، ويكون القائد الفاتح منشغلا حينها في إدارة الدولة الجديدة وتنظيم شؤونها على مختلف الصُعد، لذا فأن موضوع وجود مكتبات وتحديد مصيرها لا يمكن أن تكون من اولويات مهامه. على العكس مما يتقول الشعوبيون، قال ابن خلدون" كان عمرو بن العاص لما فتح الاسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان، فرجع بعد ثلاث عشرة من غيابه، وكان ولّاه هرقل في أوّل الهجرة كما قدمنا. وملك الفرس مصر والاسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل، ثم غاب عن الكرسي عند ما ملك الفرس وقدموا الملكيّة، وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين، ثم أمّنه عمرو بن العاص فعاد ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة، وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة". (تأريخ ابن خلدون2/270). والأهم من هذا وذاك هو ما يقوله مؤرخو الغرب عن عمر بن العاص. يذكر محمد مسعود" في الموسوعات الفرنسية العظمى في لفظة عمر جاء ما يأتي" كان عمر بن العاص شهما كريما حميد الأخلاق متحليا برداء التمدن، لذا يبعد عن الظن إنه هو الذي أحرق دار كتب الاسكندرية، التي كان قد دمرها النصارى من قبله بزمن مديد". (المنحة الدهرية/97).

وسوم: العدد 1097