تصريحات غوتيريش: هل تجاهل حقوق الفلسطيني إرضاء لإسرائيل؟

في الرابع من أكتوبر الجاري أصدرت المجموعة العربية لدى الأمم المتحدة، والمكونة من 22 سفيرا تحت رئاسة موريتانيا لهذا الشهر، بيانا قويا يدين فيه السفراء العرب «الإعلان المستهجن وغير المسبوق الصادر عن وزير خارجية إسرائيل يوم 2 أكتوبر الجاري، بشأن اعتبار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، شخصا غير مرغوب فيه».

وكي نضع الأمور في سياقها، كان الأمين العام قد أصدر بيانا يوم 1 أكتوبر يتعلق بإطلاق إيران لنحو 200 صاروخ باتجاه إسرائيل، ردا على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. وجاء في البيان: «إنني أدين اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، والتصعيد تلو التصعيد. يجب أن يتوقف هذا. نحن بحاجة ماسة إلى وقف إطلاق النار». لم يذكر الأمين العام في البيان اسم إيران مع أن السياق واضح ويشير إليها. إسرائيل رفضت مثل هذا البيان وأصدر وزير الخارجية قراره الأرعن باعتبار الأمين العام «شخصا غير مرغوب فيه».

في اليوم التالي، 3 أكتوبر، وفي اجتماع مجلس الأمن لمناقشة التطورات في لبنان، كان أول المتحدثين، الأمين العام، فكفّـر عن سوءته، من وجهة النظر الإسرائيلية، وتضمنت كلمته إدانة واضحة وصريحة ومفصلة لإيران حيث قال: «أمس، أطلقت إيران حوالي 200 صاروخ باليستي باتجاه إسرائيل وقالت إنها كانت رداً على مقتل حسن نصر الله، وقائد الحرس الثوري الإسلامي عباس نيلفوروشان الأسبوع الماضي وكذلك مقتل زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران في يوليو الماضي. كما فعلت فيما يتعلق بالهجوم الإيراني في أبريل الماضي- وكما كان ينبغي أن يكون واضحا أمس في سياق الإدانة التي عبرت عنها ـ أكرر إدانتي الشديدة للهجوم الصاروخي الضخم الذي شنته إيران على إسرائيل أمس.

ومن المفارقات أن هذه الهجمات لا تفعل شيئاً لدعم قضية الشعب الفلسطيني، أو الحد من معاناته». فهو لم يدن فحسب، بل سفّه عملية إطلاق الصواريخ، وعين نفسه حكما على نتائج إطلاق الصواريخ، وخرج بنتيجة حاسمة بأنها لا تفعل شيئا لدعم القضية الفلسطينية. ومع هذا الانحياز والتراجع ،أصدرت المجموعة العربية بيان الدعم والتأييد. وأود أن أذكر المجموعة العربية أن الأمين العام لم يدن استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، التي قتل فيها 8 ضباط إيرانيين كبار، علما أنه انتهاك واضح وأرعن للسيادة السورية من جهة، وانتهاك لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية وقانون الحصانة الدبلوماسية للبعثات الأجنبية. كما أن الأمين العام لم يدن اغتيال إسماعيل هنية، وأصدر بيانا باردا واحدا عبر فيه عن القلق لاغتيال هنية وقائد حزب الله الميداني فؤاد شكر.

إن الذي بدأ بالاعتداء على إيران هي إسرائيل، بضرب القنصلية في دمشق وردت إيران في أبريل بإطلاق الصواريخ على مواقع عسكرية فقط، والذي انتهك سيادة إيران للمرة الثانية باغتيال ضيف الدولة، رئيس وزراء فلسطين الأسبق إسماعيل هنية، وإيران ردت على الانتهاك بتوجيه الصواريخ إلى قواعد عسكرية فقط، لكن إدانة الأمين العام، غوتيريش، في المرتين، وجهت لإيران وليس لمن بدأ العدوان، وهذا منتهى الانحياز من رجل يمثل القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

بيان الذكرى السنوية للطوفان

لكن الذي أريد أن أوضحه للقراء وألفت انتباه المجموعة العربية بالتحديد، للبيان المخجل والفاضح لانحياز الأمين العالم للرواية الإسرائيلية بمناسبة الذكرى السنوية لطوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023. أصدر الأمين العام بيانا مكتوبا ومسجلا على الفيديو بهذه المناسبة يوم 6 أكتوبر، تراجع فيها 180 درجة حتى عن بياناته السابقة، التي كان يشير إلى أن ما حدث يوم 7 أكتوبر لا يبرر ما يجري من استهداف للمدنيين في غزة. في هذا البيان الذي خصص ثلثيه لما حدث مع الجانب الإسرائيلي بالتفاصيل وردد السرديات الإسرائيلية حول الانتهاكات الجنسية والقتل الوحشي ولقاءاته مع أهالي الرهائن، بينما تضمن الثلث الأخير من البيان كلاما عاما دون استخدام كلمة إدانة للمجازر ولو مرة واحدة. جاء في البيان أن يوم 7 أكتوبر يصادف مرور عام على الأحداث المروعة «عندما شنت حماس هجوماً إرهابياً واسع النطاق في إسرائيل أسفر عن مقتل أكثر من 1250 إسرائيلياً وأجنبياً، بمن في ذلك الأطفال والنساء، وتم اختطاف أكثر من 250 شخصاً ونقلهم إلى غزة، بمن في ذلك العديد من النساء والأطفال». ثم راح يصف آثار ذلك الهجوم الذي عزله عن سياقه وكأن غزة كانت قبل 7 أكتوبر تتمتع بالحرية والسيادة والرخاء والازدهار. قال: «في هذا اليوم نتذكر كل أولئك الذين قتلوا بوحشية وعانوا من عنف لا يوصف ـ بما في ذلك العنف الجنسي ـ بينما كانوا يعيشون حياتهم ببساطة». أما الغزيون فليس من حقهم أن يعيشوا ببساطة. وأضاف: «هذا يوم للمجتمع الدولي ليكرر بأعلى صوته إدانته المطلقة للأعمال البغيضة التي ارتكبتها حماس، بما في ذلك أخذ الرهائن. على مدار العام الماضي، التقيت بعائلات الرهائن… وتعلمت المزيد عن حياة وآمال وأحلام أحبائهم.. وشاركتهم معاناتهم وآلامهم». أما آلاف الضحايا من الفلسطينيين فلا وزن لهم ولا يستحقون أن يذكروا عند السيد غوتيريش. ثم يبرر لنفسه هذا الانحياز الفاضح فيقول: «إن السابع من أكتوبر هو يوم للتركيز على أحداث ذلك اليوم المروع. وأنا أعرب عن تضامني مع جميع الضحايا وأحبائهم». أي لا يجوز في هذا اليوم أن يتكلم إلا عن ضحايا 7 أكتوبر حيث بدأ التاريخ الجديد. وكيف وصف ما حدث في غزة بعد ذلك. «اندلعت موجة من العنف المروع وسفك الدماء». من يرتكب العنف ويسفك الدماء غائب، لا نعرف من هو. ويذكر الفلسطينيون واللبنانيون فقط في إطار المعاناة الإنسانية «إن الحرب التي أعقبت الهجمات الرهيبة التي وقعت قبل عام واحد لا تزال تحطم الأرواح وتلحق معاناة إنسانية عميقة بالفلسطينيين في غزة، والآن شعب لبنان». أما حل الأزمة فعنده يبدأ بإطلاق الرهائن أولا، ثم سكوت البنادق. وهو تغيير جذري لمواقفه السابقة التي كانت تشير إلى وقف إطلاق النار أولا، ثم إطلاق سراح الرهائن. وانظر إلى جملته الأخيرة التي تشير بشكل مبطن للضحايا الإسرائيلييين حيث يقول: «فلنكرم ذكرى الضحايا، ولنلم شمل الأسر، ولنضع حداً للمعاناة والعنف في الشرق الأوسط بأكمله».

لقد تجاهل الأمين العام في بيانه نحو 200 ألف ضحية من الفلسطينيين بين شهيد وجريح ومفقود وأسير. تجاهل نحو 14 ألف طفل فلسطيني و 13 ألف إمرأة سقطوا في حرب الإبادة. تجاهل تدمير المستشفيات والمدارس والجامعات ومراكز الإيواء، وتدمير نحو 70 في المئة من مباني غزة. تجاهل أكثر من 11 ألف أسير ومحتجز ومعتقل. تجاهل أكثر من 226 موظفا من موظفي الأمم المتحدة وتجاهل أكثر من مقتل نحوة 166 صحافيا. تجاهل التجويع ونقص الغذاء والدواء وانتشار الأوبئة. تجاهل ذكر قرارات مجلس الأمن الأربعة وقراري الجمعية العامة وثلاث رزم من الإجراءات الاحترازية الصادرة عن محكمة العدل الدولية. تجاهل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في الضفة الغربية وتجاهل عنف المستوطنين واقتحامات الحرم الشريف، وتجاهل تعطيل الدراسة لـ680 ألف طالب وتجاهل استهداف المنظمات الإنسانية، خاصة الأونروا. لقد رحب داني دانون، المستوطن برتبة سفير إسرائيل بالبيان وقال إن الحكومة تلقته بطريقة إيجابية.

هذا البيان عبارة عن طلب استرحام من الكيان الصهيوني ليغفر له (ولن يغفر) خطيئتين كبيرتين: الأولى يوم قال في 24 أكتوبر 2023 «إن 7 أكتوبر لم يأت من فراغ» ففتحت عليه كل المدافع الصهيونية الثقيلة وتراجع عنها، ولم يعد يأتي على ذكر خلفية 7 أكتوبر لا من قريب ولا من بعيد ولسان حاله «توبة توبة». والخطيئة الثانية عندما أصدر بيانا يوم 2 أكتوبر 2024 حول صواريخ إيران وأدانها بشكل شبه مباشر دون ذكر إيران، وأعلن على أثرها أنه «شخص غير مرغوب فيه». فهل يستحق غوتيريش بيان الإطراء الذي أصدره 22 سفيرا عربيا؟ أترك الإجابات لكم.

وسوم: العدد 1097