إمداد الاحتلال بالسلاح شراكة في جرائمه
طالما برر الغربيون خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية دعمهم غير المحدود لـ “إسرائيل” بدعاوى لا تصمد أمام الأدلة الواقعية، وخصوصا عندما يدعون أنها “الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط”. وبهذا فإنهم لا يُسدون خدمة للمشروع الديمقراطي، بل يسيئون له كثيرا. فالممارسات الإسرائيلية في المناطق التي تحتلها لا تشرّف الإنسانية لأنها تجاوزت الحدود في أغلب الأحيان. كما أصبح واضحا أن الحديث عن “ضمان أمن إسرائيل” وهم سياسي لا ينسجم مع ما يطرحه قادة الاحتلال من تطلعات توسعية كبيرة. وفي طور السعي المتواصل لتحقيق المشروع الصهيوني الأوسع لم يعد نتنياهو يأبه لما يُقال حول طبيعته، والانسلاخ من ذلك المشروع يفتح المجال واسعا للتكهن بمدى شمولية المشروع الصهيوني وأساليبه العملياتية.
وقد اتضح كذلك أن القيم الإنسانية خصوصا في أوقات الصراع المسلح لا تحظى برتبة عالية في التفكير الإسرائيلي، لذلك يجد المسؤولون الدوليون أنفسهم في صراع متواصل ودائم مع منظري المشروع الصهيوني. ويكفي ما ذكره آخر تحقيق قامت به الأمم المتحدة وأصدرت نتائجه الأسبوع الماضي. فقد أكد أن إسرائيل اتبعت سياسة منسقة تتمثل في تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة خلال الحرب، وهي أفعال ترقى إلى جرائم حرب لأنها جريمة إبادة ضد الإنسانية. وقبل صدور التقرير اتهم، بيان صادر عن المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان نافي بيلاي، إسرائيل بـ “شن هجمات متواصلة ومتعمدة على العاملين والمرافق بالقطاع الطبي” خلال الحرب، التي حدثت قبل حوادث 7 أكتوبر. أما منظمة الصحة العالمية فقالت إن أكثر من عشرة آلاف مريض يحتاجون إلى إجلاء طبي عاجل مُنعوا من الخروج من غزة منذ إغلاق معبر رفح الذي يقع على الحدود مع مصر في مايو/أيار الماضي.
قد يختلف العالم حول قضايا عديدة ولكن هناك اتفاقا على حماية الطواقم الطبية في النزاعات المسلحة، وتوفير الرعاية الصحية لضحاياها حتى لو كانوا من الطرف الآخر. وفي عالم القرن الحادي والعشرين يُفترض أن يتوافر الحد الأدنى من المواثيق التي تنظم العلاقات الإنسانية في أوقات السلم والحرب ومنها الرعاية الصحية واحترام حقوق أسرى الحرب وعدم استهداف المرافق الحيوية أو منع وصول الدواء والعلاج إلى مناطق النزاع. بينما اتهم بيان التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة القوات الإسرائيلية بقتل وتعذيب العاملين في المجال الطبي عمدا، واستهداف مركبات طبية وعرقلة تصاريح تسمح بخروج المرضى من قطاع غزة المحاصر. وأشار التحقيق إلى وفاة طفلة فلسطينية تُدعى هند رجب في فبراير/شباط الماضي مع أفراد أسرتها واثنين من المسعفين الذين جاءوا لإنقاذها وسط القصف الإسرائيلي. وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها المسعفون للاعتداء أو القتل، وفي غياب سياسات دولية صارمة للتصدي لمن يخترق الاتفاقات الدولية ومواثيق جنيف التي تنظم مسار الحرب، تستمر لدى بعض البشر نزعة توحش غير إنسانية لا تبالي بما يحدث للآخرين في أوقات السلم والحرب. فماذا يعني قصف الأبراج السكنية في غزة التي تقطنها مئات العائلات الفلسطينية؟ كيف يصمت العالم على استهداف المواقع المدنية والقتل الجماعي الذي أدى لمحو عائلات فلسطينية كاملة من الوجود؟ ما مدى ما تختزنه النفسية الإسرائيلية من نزعات شريرة وعداء للنفس البشرية خصوصا إذا كانت فلسطينية؟
والسؤال هنا: لماذا يتجاهل العالم هذه الحقائق ويتعامل مع “إسرائيل” بشكل طبيعي متغاضيا عما ترتكبه من جرائم يومية بحق سكان الأرض الأصليين؟ الأمر المؤذي أن الدول الغربية لا تكتفي بالتفرج والحياد في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، ولا تخفي دعمها المطلق للإسرائيليين مهما ارتكبوا من مجازر، بل أنها تستمر في إمدادهم بالسلاح والعتاد بدون توقف. وتحت ضغوط الرأي العام قلصت دول الاتحاد الاوروبي إرسال أسلحة لكيان الاحتلال، ومنها اسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا. ولكن هذه الدول تتعرض لضغوط أمريكية لوقف ذلك. وتصاعدت معارضة تزويد “إسرائيل” بالسلاح بعد أن اتضح استخدامها بشكل واسع ضد الفلسطينيين بما ينتهك القانون الإنساني الدولي.
في الأسبوع الماضي قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن ألمانيا ستزود إسرائيل بمزيد من الأسلحة قريبا، برغم تأكيد تقرير الأمم المتحدة الممارسات الإسرائيلية التي تنتهك القانون الدولي.
الدول الغربية لا تكتفي بالتفرج والحياد في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، ولا تخفي دعمها المطلق للإسرائيليين مهما ارتكبوا من مجازر، بل أنها تستمر في إمدادهم بالسلاح والعتاد بدون توقف
تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تزود إسرائيل بـ 69 في المئة من سلاحها بينما تقدم ألمانيا 30 في المئة. ولذلك اعتُبر قرار الحكومة الألمانية بتقليص أو وقف تزويد “إسرائيل” بالأسلحة مهما، غير أنه لم يستمر. ولا تختلف المعارضة الألمانية عن الحكومة إزاء سياسة تسليح الاحتلال والاستمرار بتقديم الدعم المالي لخزانته. وذكر شولتز أمام البرلمان: “لم نقرر عدم توريد الأسلحة. وردنا أسلحة وسنورد أسلحة (إلى إسرائيل)”، وذلك في رد على اتهام من زعيم المعارضة فريدريش ميرتس. وأظهرت بيانات الوزارة التي توافق على تصاريح التصدير أن ألمانيا وافقت في 2023 على تصدير أسلحة إلى إسرائيل بقيمة 326.5 مليون يورو، بما في ذلك العتاد العسكري والأسلحة الحربية، وهو ما يمثل زيادة قدرها عشرة أمثال حجمها عن 2022.
فما الذي سيدفع “إسرائيل” لاحترام القوانين الإنسانية ما دامت تحظى بهذا الدعم الذي لا ينقطع؟ لذلك لم يتردد النشطاء المهتمون بوقف الحرب في اتهام الدول التي تزود “إسرائيل” بالسلاح بالشراكة في الجرائم الإسرائيلية التي يعتبر الكثير منها “جرائم ضد الإنسانية”. ولا بد هنا من تأكيد أهمية الأدوار التي تمارسها اللوبيات الصهيونية في أوروبا وأمريكا في إبقاء خطوط الامداد العسكري بين العواصم الغربية وتل أبيب مفتوحة على مصاريعها. وفي الوقت نفسه يواجه سكان غزة قصفا يوميا خارج الأطر الأخلاقية والقانونية، إذ يسقط يوميا العشرات من الأبرياء ضحايا القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقف يوما. فلم يكتف الإسرائيليون باغتيال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، بل يواصلون اغتيالاتهم للقيادات الفلسطينية واللبنانية.
في الأسبوع الماضي تبنى قادة “إسرائيل” أسلوبا آخر لاستهداف الجهات التي تدعم المقاومة الفلسطينية وتتصدى للاعتداءات الإسرائيلية. هذه المرة بثوا صورا لقادة وزعماء دينيين من بينهم المرجع الديني آية الله السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة، وضعتهم على قائمة الاستهداف. ومن المؤكد أن هذا الاستهداف محاولة لإشعال فتيل الحرب في المنطقة وفق خطوط التمايز المذهبي، لكي تتفتت أطياف المقاومة للاحتلال. واعتقدت الزعامات الإسرائيلية أن اغتيالها نصر الله، قد فتح المجال أمامها لتوسيع دائرة الاستهداف. فبعد أن تخلصت من رموز فلسطينية في مقدمتهم إسماعيل هنية، ووضعت عددا آخر على قائمة الاستهداف، توجهت للزعماء الدينيين الذين يحظون بقدر من التأثير على الجماهير العربية التي ما تزال مغيبة عن أداء دورها النضالي في معركة الكرامة على الساحة الفلسطينية. وجاء إدراج المرجع السيستاني تعبيرا عن حالة من الشعور بالعظمة المفرطة وبلوغ مرحلة من الثقة بالنفس تتجاوز الحدود الحقيقية لتلك القوة.
لقد كان هناك إدراك، منذ بدء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين أن الصهاينة ينطلقون على أرضية دينية برغم ما يظهرونه من علمانية. وكان الجانب العربي دائما يتحاشى الاستهداف الديني لعلمه أن الحروب الدينية من أخطر الصراعات وأشدها عنفا وأطولها أمدا. وتأتي محاولة نتنياهو إقحام البعد الديني على خريطة الصراع محاولة يائسة لكسر شوكة من يقاومه وإدخاله في حلقة مفرغة من الصراع الديني الذي لا يجدي شيئا. ويدرك الجميع أن القدس عاصمة للأديان السماوية ويجب ان تكون مستقلة عن الهيمنة الاسرائيلية ليتمكن أتباع الديانات الأخرى من دخولها بحرية تحت غطاء دولي غير خاضع للمؤسسة الصهيونية. ولم تكن هناك رغبة في تحجيم فلسطين ودورها التاريخي في كسر شوكة المعتدين الأجانب، مع احترام حقوق أتباع الديانات الأخرى والسماح لهم بممارسة شعائرهم بحرية. أما توسيع دائرة الصراع فربما يكون رسالة بأن المشروع الصهيوني لن ينحصر بفلسطين، بل يسعى للسيطرة على دول شمال الجزيرة العربية التي تمثل العمق الاستراتيجي للحلم الصهيوني القديم – الجديد بإقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات. إنه تحد سياسي واسع بأبعاد ثقافية ودينية من شأنه أن ينقل الصراع المستمر منذ ثلاثة أرباع القرن إلى دائرة أوسع من الدائرة الأولى التي انطلق الصراع فيها. وليس سرا القول بأن الاستهداف الصهيوني للزعامات الدينية رسالة بإعلان توسعة الصراع ليكون منطلقا نحو تحقيق الوعود التلمودية.
هذه الحقائق ربما تفسر جانبا من الأسباب التي تدفع القوات الاسرائيلية لتوسيع دوائر صراعها. فقد استهدفت السيد نصر الله كممثل لتيار سياسي وديني عريض ضمن مشروع التحرير الشامل، كما تستهدف أطرافا مسيحية في فلسطين ولبنان. وها هي الآن تستهدف المرجعيات الدينية في العراق، وتواصل قصفها أهدافا في سوريا كذلك. فإذا استطاعت إحكام القبضة على منطقة “الهلال الخصيب” كما كانت تسمى سابقا، فقد حققت خطوة كبيرة على طريق إنشاء الكيان الأوسع الذي يتجاوز في حدوده الأراضي الفلسطينية. ولكي تحقق ذلك فإنها لا تُخضع نفسها للقرارات الدولية ولا تظهر اهتماما بما يقوله الغربيون الذين كانوا الداعمين الأساس للمشروع الصهيوني في الشرق الأوسط. ويرتكب الزعماء الإسرائيليون خطأ استراتيجيا إذا تجاوزوا مشروع إقامة كيانهم السياسي وبدأوا من الآن بالسعي لتفعيل مشروع أوسع وهم لا يزالون غير مستعدين لذلك. فرئيس وزرائهم الحالي لا يملك الكاريزما الشخصية أو التفويض الشعبي أو الدعم الدولي لكي يصبح القائد التاريخي لبدء تحقيق ما يعتقدونه من “نبوءات توراتية”. فاقتحامه هذه الميدان سيؤدي لسقوطه الأبدي ولكن بعد أن يوسع الآزمة وربما يؤجج ما يسمى “صراع الحضارات”.
وسوم: العدد 1098