إنهم صناع حضارة وليسوا "جواسيس الجبس"
أدت الاتهامات الأخيرة التي وجهتها الجزائر إلى مواطنين من جنسية مغربية ، تم اعتقالهما بتهمة التجسس، إلى تأجيج التوتر في العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين. إن الاعتقالات، التي أدت إلى تخمينات باطلة وموجة جديدة من الاتهامات، تشكل مشهدا آخر لصراع سياسي مصطنع وطويل الأمد بين الجزائر والمغرب. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان تحليل هذه الادعاءات الجزائرية الباطلة في سياق أوسع من السياسة الإقليمية والتوترات التاريخية، حيث يبدو أن الحقيقة مغيبة بسبب العداء الجزائري للمملكة المغربية.
تتعلق الحادثة المذكورة باعتقال ثلاثة أفراد، من بينهم مغربيان يعملان في زخرفة الجبس في ولايتي سيدي بلعباس ووهران الجزائريتين. وقد سارعت وسائل الإعلام الجزائرية إلى تصوير هؤلاء العمال على أنهم جواسيس، واتهمتهم بأنهم "يعملون بطريقة عدوانية وسرية ضد الجزائر". وكررت بعض الصحف مثل الشروق والخبر هذه الاتهامات ، مدعية أن السلطات المغربية استخدمت منذ فترة طويلة استراتيجيات تجسس مقنعة تحت ستار الحرف التقليدية المغربية العريقة التي تستفيد منها الجزائر.
ولكن وسائل الإعلام المغربية والعديد من المراقبين ينظرون إلى هذه الاتهامات بعين الريبة والتشكيك، ويرفضونها باعتبارها لا أساس لها من الصحة . وقالت مواقع إلكترونية مثل موقع "زنقة 24" أن السلطات الجزائرية، مدعومة بسبب انعدام الأمن السياسي لديها، تعمل على اختلاق التهم ضد المواطنين المغاربة لتبرير موقفها المريب وإذكاء المشاعر القومية.
ويبدو أن فكرة عاملين من فناني حرفة الجبس قد يكونان جزءاً من شبكة تجسس معقدة تبدو غير معقولة بالنسبة لكثيرين من المراقبين الدوليين. ويؤكد المغرب أن هذه الاتهامات جزء من استراتيجية أوسع نطاقاً تختلقها الحكومة الجزائرية لتشويه سمعة المغاربة وتروم صرف الانتباه عن القضايا الجزائرية الداخلية. كما أن مثل هذه الادعاءات ليست جديدة. فقد اعتقلت السلطات الجزائرية مراراً وتكراراً مواطنين مغاربة بتهم مماثلة، وفي كل مرة، يفند المسؤولون ووسائل الإعلام المغربية في حقيقة هذه الاعتقالات، مشيرين إلى أنها تخدم أجندة سياسية بدلاً من أن تعكس مخاوف أمنية حقيقية.
إن الاعتقال الأخير للمغاربة في الجزائر ليس حادثاً معزولاً. ففي سبتمبر من هذا العام، زعمت السلطات الجزائرية أنها نجحت في تفكيك "شبكة تجسس" أخرى تضم مواطنين مغاربة في مدينة تلمسان، واتهمتهم مرة أخرى بمحاولة زعزعة أمن الدولة. وجاء هذا في أعقاب قرار الجزائر بفرض تأشيرة دخول على المغاربة ، وهو ما يشير إلى حملة واسعة النطاق على الوجود المغربي داخل حدودها.
ويندرج تصعيد هذه الاتهامات في إطار مسلسل طويل من تدهور العلاقات بين الجزائر والمغرب. ففي صيف عام 2021، قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، مستشهدة بتظلمات مختلفة، بما في ذلك موقف المغرب من الصحراء المغربية، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ودعمها المزعوم لحركة القبائل الانفصالية (ماك). وقد نفى المغرب باستمرار وبالدلائل القاطعة هذه المزاعم وأعرب عن أسفه لانهيار العلاقات بين الجارين الشقيقين .
ويرى العديد من المحللين أن الاتهامات التي وجهتها الجزائر للمغرب، بما في ذلك حادثة "جواسيس الجبس" الأخيرة، تعكس استراتيجية أوسع نطاقاً تهدف إلى تعزيز الجبهة السياسية الداخلية من خلال حشد المشاعر القومية ضد عدو خارجي مفترض. وفي مواجهة تحديات داخلية كبيرة، بما في ذلك الصراعات الاقتصادية والاضطرابات السياسية، اعتمد النظام الحاكم في الجزائر في كثير من الأحيان على الخطاب المناهض للمغرب لتحويل الانتباه عن مشاكله وانهياراته الداخلية.
إن القيادة السياسية في الجزائر، التي تهيمن عليها الطغمة العسكرية، لديها تاريخ طويل في استخدام صراعات السياسة الخارجية لتعزيز الدعم المحلي. ومن خلال تصوير المغرب باعتباره تهديدًا دائمًا لسيادة الجزائر منذ استقلالها المزعوم، يمكن للنظام تبرير حكمه الاستبدادي وقمع حركات المعارضة. إن اعتقال مواطنين مغاربة بتهم التجسس المشكوك فيها هو وسيلة هشة لتعزيز هذه الرواية، وتصوير المغرب كجار معادٍ ومنخرط في عمليات سرية لزعزعة استقرار الجزائر.
وعلاوة على ذلك، يثير توقيت هذه الاعتقالات تساؤلات عديدة . ففي حين تواجه الجزائر احتجاجات متزايدة على الظروف الاقتصادية المتدهورة وحتمية الإصلاحات السياسية، فإن اتهام المغرب بالتجسس يعمل كأداة لصرف الانتباه عن إخفاقات حكومة الرئيس عبدالمجيد تبون. ومن خلال خلق كبش فداء أجنبي، يمكن للنظام الجزائري إعادة توجيه الإحباط الشعبي نحو عدو خارجي، بدلاً من معالجة القضايا الحقيقية التي تواجه الجزائريين في الداخل.
ومن وجهة نظر المغرب، فإن هذه الاتهامات ليست بلا أساس فحسب، بل إنها جزء من حملة تضليل أكبر حجما تديرها الجزائر لتشويه سمعة الرباط على الساحة الدولية. وقد سلطت وسائل الإعلام المغربية الضوء على عبثية فكرة تورط عمال في صناعة الجبس في عمليات تجسس متطورة. وبالنسبة لهم، فإن هذا مثال آخر على كيفية استخدام الجزائر لتكتيكات إثارة التخويف لتصوير المغرب باعتباره مصدر شرور إقليمية طويلة الأمد.
لقد دعت المغرب باستمرار إلى الحوار البناء والتعاون لحل النزاعات العديدة بين البلدين، وخاصة بشأن الصحراء المغربية. وقد حظي اقتراح الرباط للحكم الذاتي في المنطقة تحت السيادة المغربية بدعم العديد من الجهات الفاعلة الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وإسبانيا وأخيرا فرنسا ، في حين تواصل الجزائر دعم مطالب صنيعتها جبهة البوليساريو.
إن قضية "جواسيس الجبس" هي حلقة أخرى في تاريخ طويل من المناورات السياسية الجزائرية ضد المملكة المغربية العريقة. وإذا كانت الجزائر تتهم المغرب بالتجسس والتخريب، فإن الواقع يبدو أكثر تعقيدا. فبدلا من أن تشكل هذه الحوادث تهديدات أمنية حقيقية، فإنها على الأرجح تعبر عن جزء من استراتيجية واسعة النطاق من جانب النظام الجزائري لتعزيز واقعها الداخلي المتدهور من خلال تصوير المغرب كعدو وقوة معادية. ومن أجل الاستقرار الإقليمي، من الأهمية بمكان أن يتجاوز حكام الجزائر هذه الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة ويعملون على التعاون مع جارهم المغرب الشقيق لحل سلمي لخلافهما الذي دام نصف قرن والقبول بفكرة مخطط الحكم الذاتي في الصحراء المغربية.
وسوم: العدد 1100