مبادئ الأمم المتحدة بين قانون القوة وقوة القانون
لا يمكن لعاقل أن ينكر أهمية المبادئ والقوانين في تنظيم العلاقات داخل التجمعات البشرية ابتداء من الأسرة باعتبارها أصغر تجمع بشري وظيفي، مرورا بالأمم والشعوب في إطار العلاقات التي تجمع بين مكوناتها الداخلية وانتهاء بالعلاقات الدولية بين شعوب وأمم الكرة الأرضية ككل، ومن البديهي أنه كلما كانت هذه المبادئ والقوانين قابلة للتطبيق على الجميع بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو السلطوية، كلما سادت العدالة في أوساط المحتكمين إليها بحيث تُؤدى الحقوق وتُنجز الواجبات على الوجه الذي يُكسِبها المصداقية اللازمة للامتثال الطوعي لها. غير أن المتعارف عليه هو أن التحقيق العملي لهذا الأمر غالبا ما يحتاج إلى قوة مادية أو معنوية يُعوَّل عليها لضمان تأدية الحقوق والسهر على القيام بالواجبات.
ومما ينبغي التأكيد عليه في هذا الصدد، هو ذلك الارتباط الوثيق بين مصداقية القوانين من جهة، ومصداقية الجهة التي تصدرها من جهة ثانية، بحيث يتعين علي هذه الأخيرة الالتزام بها حتى وإن تعارضت مع مصالحها الذاتية، وإلا فقدت الأولى مصداقيتها بشكل آلي. وبهذا الخصوص يمكن التمييز بين مصدرين أساسين للقوانين، الأول إِلَاهيٌّ، والثاني بَشَري، بحيث تتميز القوانين التي تنبثق عن الأول بالثبوت والشمولية، بغض النظر عن مكان وزمان الاحتكام إليها، مع بعض الاستثناءات التي تمس الفروع دون الأصول، بينما تتسم تلك التي تصدر عن البشر أساسا بالتغيُّر عبر المكان والزمان، بما يتماشى مع خلفيات وإيديولوجيات أولئك الذين يتحكمون في إصدارها. ذلك أنه إذا كان القانون الإلاهي المستمد من القرآن والسنة قد حرم الخمر والزنا والربا... وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المثال، فليس لأي كان، الحق في تحريم ما أحل الله ولا تحليل ما حرم الله، قلت إذا كانت هذه من خصائص القانون ذات المصدر الإلاهي، فإن القوانين البشرية من صفاتها التبدُّل والتغيُّر حسب ما تقتضيه مخططات الجهات المستفيدة منها، حتى وإن أدى تجسيدها إلى الدوس على أبسط المبادئ والحقوق الإنسانية، وعلى رأسها مبدأ المساواة بين جميع البشر، ولنا في القوانين التي أنتجها الغرب على سبيل المثال، دليلا قاطعا على ارتباطها بالزمان والمكان، والأدهى من ذلك أن تأويلها يتعمد في أغلب الأحيان الانحياز لطوائف معينة من البشر ضد طوائف أخرى رغم تواجدهم في نفس المكان والزمان. والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى وتعد، فما معنى أن يتم إشهار "حق الإنسان في الحياة" كلما صدر حكم الإعدام في الدول المغلوبة على أمرها وعلى رأسها الدول المسماة إسلامية، في الوقت الذي يتم تنفيذه في عدد من دول العالم كالصين والولايات المتحدة على سبيل المثال دون حسيب ولا رقيب؟ وما معنى التلويح بحقوق الأقليات في دول دون غيرها؟ ... والمضحك المبكي هو أن قتل الكلاب الضالة أو حتى عدم الاعتناء بها أصبح مصدرا لمساءلة المسؤولين في عدد من البلدان التي لا حول لها ولا قوة حتى على انتشال أعداد كبيرة من مواطنيها من خانة الفقر والفاقة، مع العلم أنهم هم المعنيون أساسا بأذية هذه الكلاب الضالة.
وفي نفس الزمان والمكان يُباد الشعبين الفلسطيني واللبناني يوميا، مع تصنيف المقاومين في خانة الإرهابيين، لا لشيء سوى لأنهم رفضوا الاستسلام والتخلي عن أرضهم ومقدساتهم، من خلال تصميمهم على مقاومة العدو ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، في الوقت الذي يتم فيه تبرير كل هذه الهمجية الصهيونية التي تأتي يوميا على الأخضر واليابس بحجة الدفاع عن النفس، هذا والعالم كله مُتيقن بالطبيعة الاستيطانية والإحلالية لما يسمى إسرائيل. والنتيجة الحتمية التي أفرزها هذا الوضع هو فقدان القانون الدولي بمختلف مستوياته، من محكمة العدل الدولية، إلى مجلس الأمن، إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، للمصداقية المفترضة فيه، وذلك لنفس السبب الذي أشرت له سابقا، ألا وهو عدم مصداقية الغرب الذي أصدره، ذلك أنه ينطلق من هذا القانون للتسويق لأدانته الشكلية لهذا المستوطن الغاشم، في نفس الوقت الذي لا يرغب فيه ردعه وإيقافه عند حده عمليا، بل على العكس من ذلك يمده بالمال والسلاح لمواصلة عمله الإجرامي ضد الأطفال والشيوخ والنساء، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الأقوياء من البشر يُصدرون قوانين، ويحرصون على تطبيقها ما تصادم مصالحهم، وإلا ضرب بها عرض الحائط وتم اللجوء إلى القوة لتحقيقها. وتحضرني في هذا الصدد مقولة لأبي القانون المصري عبد الرزاق السنهوري رحمه الله : "لا يُسيطر القانون إلا بين قويين أو بين ضعيفين، فإن تفاوتت القوة فالقانون هو القوة".
قد يقول قائل من الذين يتتبعون الأحداث التي يزخر بها الواقع، بأن كل ما أوردته لحد الآن لم يأت بجديد، وسوف لن أجادله في ذلك، لأن هدفي من المقال لا يتمثل في التذكير بمعطيات الواقع في حد ذاتها، بقدر ما أرغب في لفت الانتباه إلى ضرورة مُساءلة هذا الواقع، واستثمار إفرازاته التي كشفت بالملموس زيف هذه القوانين وجرَّدتها من مصداقيتها التي لا زال العلمانيون في بلداننا العربية والإسلامية يتشدقون بها، وهم يعاينون يوميا المستوى المنحط لانتهاك حقوق الإنسان والمساواة وحرية التعبير... مما يطرح علامة استفهام كبيرة عن السبب أو الأسباب التي تدفعهم للتمسك بها: أهم أغبياء ومغفلون، أم أنهم مستأجرون لترجمة أجندات معينة على أرض الواقع، أم أن في قلوبهم مرض يدفعهم إلى المسارعة في الأقوياء خشية أن تصيبهم دائرة؟ وفي جميع الحالات عليهم أن يعلموا أنهم لن يكونوا أحسن من حذاء يُلبس ثم يرمى كلما بلي أو تجاوزته الموضة، حتى وإن كان لا زال صالحا للاستعمال، ولعل زينب الغزوي مثال حي للذين انتهت صلاحيتهم، ذلك أنه بمجرد اصطفافها بجانب الحق، أصبحت ممنوعة من الاستفادة من شعار حرية التعبير عن الرأي الذي كانت تستضل به عندما كانت تجتهد في إشاعة الفاحشة، وتهاجم الإسلام، وتستخف بمبادئه وتمتهنها إلى درجة الازدراء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بل أكثر من ذلك قُدمت دعوة ضدها من طرف وزير الداخلية الفرنسي نفسه بتهمة التشجيع على الإرهاب.
ختاما أرجو أن يستفيد علمانيو الدول العربية والإسلامية من تجربة هذه السيدة التي عرت المستور، وفضحت حقيقة القيم التي يتشدق بها الغرب، مع الإشارة إلى أنها قد تمنت هي نفسها في حوار لها مع قناة الجزيرة، أن تكون تجربتها شيئا يساهم في تعرية النفاق الغربي وفي تعرية الانهيار الأخلاقي الذي وصلت إليه المجتمعات الغربية، ولعل ذلك أضعف الإيمان على حسب تعبيرها، في سبيل مناهضة قانون القوة والتحسيس بأهمية قوة القانون.
وسوم: العدد 1100