ترامب والتوراة: سحر العبادة والإبادة

في مقالة بعنوان «استجابة توراتية للانتخابات»، تعلّق على فوز دونالد ترامب وعودته إلى البيت الأبيض وسدّة الرئاسة، لا يتردد ستيفن ساكس في اقتباس العهد القديم ـ سفر التكوين، والإصحاح 12 دون سواه: «وقال الربّ لأبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك، ولاعِنُك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض».

وليس مردّ العودة إلى العهد القديم أنّ ساكس حاخام كنيس «أبناء إسرائيل» في وودمير، قرب نيويورك؛ وينشر مقالته بالإنكليزية في موقع «تايم أوف إسرائيل»، فحسب؛ بل لأنّ الرجل يساير موجة عالية اجتاحت شهور حملة ترامب الانتخابية، خاصة بعد فشل محاولة اغتياله وتكريسه في صورة «الناجي» بإرادة السماء؛ ويستأنف، أيضاً، موجة سابقة اقترنت بصعود ترامب قبيل فوزه في الرئاسة الأولى.

وكان الأمر سيبدو تحصيل حاصل، وأقرب إلى انضواء في صفوف جوقة متماثلة الصوت، لولا أنّ ساكس يردّ «بركة» ترامب الراهنة إلى أساس في «حقوق لا تُنكر» نصّ عليها إعلان استقلال أمريكا؛ فهذه «مرتكزة أصلاً على مبادئ التوراة»؛ وليس الدستور الأمريكي سوى «محاولة تضمن (كما لا ينسى ساكس، بالطبع) عدم تقاعس الشعب الأمريكي عن مساندة دولة الاحتلال».

وأياً كانت درجات الهرطقة في هذه الافتراضات، ومعها شطحات التأويل وجزاف الخزعبلات، فإنّ ما يكتبه ساكس شائع ورائج وراسخ؛ ولا يعثر عليه المرء حصرياً عند حاخام يهودي هنا أو قسّ مسيحي هناك، من دون استثناء إمام مسجد مسلم من أصول يمنية مثلاً. وهو خطاب يرقى إلى مستويات شتى من الإيمان واليقين، ذي الصفة الجَمْعية التي تهيمن على الحشود والجموع، وليس بالضرورة داخل أنصار حركة الـ»ماغا» وحدهم، بل في صفوف أوسع وأعرض من ناخبي الحزب الجمهوري عَبَدَة النظام الرأسمالي واقتصاد السوق.

ومن جانب آخر أبعد أثراً، فإنّ عواقب عودة ترامب إلى سدّة القرار الأوحد للقوّة الكونية الأعظم يمكن أن تبدأ من الداخل الأمريكي، مبدئياً، ولكنها تلقائياً انتقلت في الماضي ولسوف تنتقل اليوم أيضاً إلى جغرافيات شتى ما وراء المحيط، وفي مسائل تخصّ السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع البشري، كما تمسّ الثقافات والعقائد والأديان. ذلك لأنّ «أمريكا» هنا ليست كتلة ناخبي ترامب وحدها، التي بات واضحاً أنها تتشكل من تيارات محافظة ودينية وإنجيلية متشددة ومعمدانية قصوى ومسيحية ــ صهيونية… بل هي كذلك، وعلى قدم المساواة، نقائض هؤلاء جميعاً، سواء اتخذ التناقض صفة التناحر المستعصي، أم الخلاف النسبي، أم الافتراق الجذري.

وثمة ما هو أخطر من تخرصات ساكس المستمدة من التوراة، وهو ذاك التيار الذي يُسقط ترميزات سياسية معاصرة وراهنة، تستوحي «ترامب المخلّص» أساساً، على شخوص وحوادث من بواطن «العهد القديم»؛ نهجها الأبرز هو هلوسة مفتوحة صريحة، من طراز لا يعفّ عن التخريف المفضوح. خذوا ما يقوله جون كيلباتريك، راعي كنيسة في ولاية ألاباما، قارن بين ما واجهه ترامب من «أعمال السحر» الخبيثة، مع ما واجهه النبيّ إيليا مع إيزابيل الزانية الساحرة (في سفر الملوك 2، 9:22): «حين واجه إيليا إيزابيل، كان يواجه أعمال السحر. ما يحدث اليوم في أمريكا هو أنّ السحر يسعى إلى الاستيلاء على هذا البلد. إنه السحر، ولا شيء سواه».

ورغم أنّ ترامب مشهود له بمساندة عمياء لدولة الاحتلال، في نقل السفارة إلى القدس وإسباغ الشرعية على مستوطنات الجولان السوري المحتل واتفاقيات أبراهام؛ إلا أنّ ما يرجوه أمثال ساكس وكيلباتريك يأمل في الأدهى، كأن تكون حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة بمثابة استكمال لعهود التوراة.

كما في حرب بنيامين نتنياهو ضدّ الفلسطينيين/ العماليق، مثلاً !

وسوم: العدد 1102