المهاتما غاندي في غلاف غزّة

انتظر الكاتب الإسرائيلي زاك روثبارت أكثر من 13 شهراً قبل أن يستدعي الزعيم الهندي مهاتما غاندي (1869ــ1948) إلى حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، فيطرح التساؤل اللوذعي السفسطائي: ماذا كان أيقونة اللاعنف سيقول في وصف وقائع 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023؟ وهل كان سيدين هجمات “حماس” وحرب دولة الاحتلال ضدّ القطاع على قدم المساواة، أم كان سيفرّق بينهما، واتكاءً على أيّ معيار؟

صحيح، افتراضاً بالطبع، أنّ روثبارت جاهد مع نفسه طويلاً كي لا يجرّ غاندي صاغراً إلى مستوطنات غلاف غزّة، منذ الأيام الأولى التي أعقبت “طوفان الأقصى”، فيُلْزِمه بالانخراط في “حجيج” هرع إليه أمثال الأمريكي جو بايدن والبريطاني ريشي سوناك والألماني أولاف شولتس والفرنسي إمانويل ماكرون والإيطالية جورجيا ميلوني… ولكن قد يبدو صحيحاً أنه، في المقابل، استقرّ بعدئذ على توقيت خاصّ دراماتيكي: المقارنة بين موقف غاندي من “ليلة الكريستال”، 9 و10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1938، التي شهدت هجوم الشباب الهتلريين على منازل يهود ألمانيا النازية؛ وبين أحداث أمستردام، 7 تشرين الثاني 2024، في أعقاب مباراة كرة القدم بين فريق “أياكس أمستردام” الهولندي و”مكابي تل أبيب” الإسرائيلي.

ولأنّ من المحال أن يفلح في اعتصار (أي: تلفيق وتزوير وانتحال) أيّ نصّ من غاندي يمكن أن يخدم مسعى مقارنة ركيكة عجفاء بين الليلتَين، بفاصل زمني يبلغ 86 سنة؛ وفوارق لا عدّ لها ولا حصر بين الملابسات والسياقات والوقائع؛ فإنّ روثبارت يتوكأ على عكاز أوّل، يبيح له العودة إلى مقال بعنوان “اليهود”، كتبه غاندي بعد أيام قليلة من وقوع “ليلة الكريستال”. المشكلة، هنا أيضاً، أنّ زعيم اللاعنف الهندي أنحى باللائمة على يهود ألمانيا الذين لا يفضّلون الاندماج في المجتمع الألماني، وفي الآن ذاته لا يُحسنون توظيف عذابات وضعية الضحية التي سيقوا إليها! في عبارة أخرى، لا يلوح أنّ روثبارت يُقلق عظام غاندي لأيّ دافع آخر سوى تأثيم مواقفه تلك، والتذكير بأنه لم يأخذ على أدولف هتلر سوى “إهانة تشيكوسلوفاكيا، واغتصاب بولندا، وابتلاع الدنمارك”؛ وبالتالي: أين الأهوال ضدّ اليهود؟

العكاز الثاني هو استفتاء عدد من المؤرخين والأكاديميين الهنود، وواحد على الأقلّ من أحفاد غاندي، في تكهناتهم حول ما كان أيقونة اللاعنف سيقوله تعليقاً على الهولوكوست (نعم: دفعة واحدة!)، والعداء للسامية (غنيّ عن القول)، والصهيونية (لأنها جزء لا يتجزأ من السردية المختلقة)؛ ثمّ، بالطبع: 7 تشرين الأوّل 2023. خيبة أمل روثبارت حيال تقديرات هؤلاء لن تعيقه عن إساءة تأويل خلاصاتهم، وزجّها قسراً ضمن النطاق الوحيد الذي يخدم المسعى، حتى إذا اقتضى الأمر إقصاء التاريخ الفعلي من أيّ وكلّ استنتاج؛ وكأنّ غاندي كان في جنوب أفريقيا مثلاً، أو قصد محكمة العدل الدولية ليدلي بشهادته ضدّ دولة الاحتلال.

فيصل ديفجي، أستاذ التاريخ الهندي في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب “الهندي المستحيل: غاندي وإغراء العنف”، يجيب بأنّ نصيحة غاندي لليهود لم تكن إلقاء أنفسهم كالخراف أمام الذبح، بل النظر إلى محنتهم كوسيط أخلاقي ومعنوي وليس كأساس لتضخيم صورة الضحية؛ وتلك كانت نصيحته لضحايا هيروشيما وناغازاكي، ضحايا القنبلة النووية الأمريكية. راجموهان غاندي، حفيد الزعيم الهندي، يستكمل من جانبه منطق التاريخ بالإشارة إلى عزوف غاندي عن تأييد الحركة الصهيونية، من منطلق أوّل هو تمتين الوحدة الوطنية الهندية والامتناع عن استفزاز مشاعر مسلمي الهند؛ ومن منطلق ثانٍ، لا يقلّ دلالة، هو نفور غاندي من تعاطي الصهاينة مع التاج البريطاني والقوى الاستعمارية.

ولقد غاب الودّ بين غاندي والحركة الصهيونية، رغم الجهود المضنية التي بذلها اثنان من مساعديه اليهود المقرّبين منه: سكرتيرته سونيا شليسن، وصديقه هرمان كالينباخ؛ وحُفظ ذلك النصّ الثمين الذي يبدأه غاندي بالتعاطف مع مأساة اليهود وتفهمه لما كابدوه قبل الرايخ الثالث وبعده، الأمر الذي لم يدفعه إلى التنازل قيد أنملة عن موقف اختصرته تلك العبارة الشهيرة: “فلسطين تنتمي إلى العرب مثلما إنكلترا تنتمي للإنكليز، وفرنسا للفرنسيين”.

وأيضاً، حول البحث عن ترخيص توراتي يبرّر وطناً قومياً لليهود، كتب غاندي: “لماذا لا يقتدون بشعوب أخرى على الأرض، فيجعلون لهم وطناً في البلد الذي فيه وُلدوا ويعيشون ويُرزقون؟ من الخطأ وانعدام الإنسانية إقحام اليهود على العرب. ولسوف تكون جريمة بحقّ الإنسانية اختزال عرب أهل اعتزاز، بحيث تُردّ فلسطين إلى اليهود جزئياً أو كلياً لتكون وطناً لهم”.

ويبقى أنّ روثبارت، الذي عمل أميناً للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، لا يفتح أيّ كتاب يُدرج بعض الحقائق الكبرى المركزية التي صنعت محطات فاصلة في تاريخ الهند، “درّة التاج” البريطاني؛ بل لعلها ظلت، حتى استقلالها في آب (أغسطس) 1947، أعظم الدُرَر بين عشرات البلدان والأمم التي وقعت تحت نير الاستعمار الإنكليزي، هنا وهناك في أربع رياح الأرض. ولأنّ عينه انحصرت على مستعمرات غلاف غزّة، والاجتهاد الكسيح لجرّ غاندي إليها، فقد تغافل عن مقام الهند في ذاكرة شعوب ما بعد الإمبراطوريات الاستعمارية، وفي تصانيف الاجتماع البشري والجغرافيا والديموغرافيا والعقائد والجيو ــ سياسة والاقتصاد. ثمّ في سجلات الشعوب التي تقاوم، قبلئذ وبعدئذ.

وسوم: العدد 1103