الفلسطينيون في السلفادور: حكاية وطن في قلب المهجر

في تصريحات سابقة لسفير الولايات المتحدة الجديد مايك هاكابي، الذي عينه الرئيس المنتخب دونالد ترامب، سفيرا في الكيان الصهيوني، أنكر وجود الشعب الفلسطيني، وأنكر أن هناك فلسطين أو ضفة غربية. وهذا التصريح يدل على جهل مطبق وتعصب أعمى وعنصرية طاغية. والرد على هذا الأرعن  سهل ولا يحتاج إلى موقف دفاعي، بل إلى تتفيه ما صرح به انطلاقا من عنجهية القوة ومرض التعصب.

وسأكرس الرد على هذا الحاقد والآلاف من أمثاله من اللائي جمعتهم السفن التي أفرغت حمولتها على شواطئ فلسطين، تحت حماية بريطانية وتخاذل من محمياتها في المنطقة العربية، من بلد صغير وبعيد عن فلسطين اسمه السلفادور، وصل إليه المهاجرون الفلسطينيون من أيام الدولة العثمانية وتوارثوا العادات والتقاليد والحكايات والذكريات. وظن بعضهم أنهم أصبحوا سلفادوريين إلى الأبد، لكنهم عادوا إلى جذورهم وجمعوا المجد من أطرافه، جنسية السلفادور وعراقة العروبة وفلسطين التي تجري في دمائهم.

توافد الفلسطينيون أبناء وبنات الجيل الرابع أو الخامس من السلفادور والبلدان المجاورة مثل، غواتيمالا وكولومبيا وهندوراس، ليشهدوا افتتاح متحف فلسطين في سان سلفادور، وهو الأول من نوعه في أمريكا اللاتينية. تزين الشباب بالكوفيات الفلسطينية، والنساء بالأثواب المطرزة بالحرير، التي تعكس تنوع الأزياء الفلسطينية بين الجبل والساحل والمدينة والقرية. تشعر بأنك في بيت لحم أو بيت جالا أيام زمان، قبل أن تتنشر الأثواب الهجينة البعيدة عن تراث هذا الشعب وتاريخه.. «أنا دمي فلسطيني»، هذا النشيد الفلسطيني يحرك مشاعر الفلسطينيين في مهاجرهم. كم يشعر هؤلاء الفلسطينيون، الذين وصل أوائلهم هذه البلاد في أواخر القرن التاسع عشر بنقص عميق، لأنهم لا يتكلمون لغة الأجداد.  لكن الوطن يجمعهم والحلم بتحرير الوطن. فلسطين هنا تعني كل فلسطين من نهرها إلى بحرها. «نحن لا نتخلى عن فلسطين. إنها معنا، في قلوبنا، في نوادينا وكنائسنا ومساجدنا. فلسطين تسكن في قلوبنا ونخبئها في حدقات عيوننا وندللها خوف أن يلحق بها ضيم»، قال رئيس الجمعية الفلسطينية السلفادورية سمعان خوري، المتحدر أصلا من منطقة صفد. وقال خوري في حفل الافتتاح: «إن بناء هذا المتحف في السلفادور هو نوع من المقاومة. نحن عندما نتمسك بهويتنا نقاوم وعندما نعلم أطفالنا عن فلسطين فإننا نقاوم، وعندما نلبس الكوفية والثوب المطرز ونقدم أكلات المقلوبة والمسخن في مطاعمنا فإننا نقاوم. لم نتمكن من العيش في فلسطين بحرية لكن فلسطين تعيش فينا ومعنا». المتحف أقيم في أحد أجنحة النادي العربي الكبير الذي أسس قبل 75 سنة، ويضم عددا من المجسمات واللوحات والقطع الأثرية، والخرائط والصور المهمة وعملات من أيام البيزنطينيين والفاطميين. على جدران المتحف تجد قصة تاريخ فلسطين باللغة الإسبانية من قديم الزمان إلى يومنا هذا. تضافرت الجهود الفلسطينية في الوطن والشتات لإنجاز هذا المتحف لربط أبناء وبنات فلسطين الذين استقروا في هذه البلاد وقد يصل عددهم إلى 100 ألف، بعضهم ضيع الخيوط التي تربطه بالوطن لزمن طويل، لكنهم عادوا يبحثون عن جذورهم وأسماء عائلاتهم التي جرى عليها تحريف وتبديل لتلائم الأوضاع هنا.

مهاجرون فلسطينيون ظن بعضهم أنهم أصبحوا سلفادوريين إلى الأبد، لكنهم عادوا إلى جذورهم وجمعوا المجد من أطرافه، جنسية السلفادور وعراقة العروبة وفلسطين التي تجري في دمائهم

عائلة أبو كيلة (أو بقيلة حسب إصرار بعض الفلسطينيين) من العائلات العريقة التي استقرت في هذه البلاد. والشخصية الأبرز من هذه العائلة هو أرماندو أبو كيلة ـ قطان (1944-2015). شخصية مرموقة يذكرها الناس بالخير. يعود في أصوله من الأب إلى بيت لحم وإلى عائلة قطان بالقدس من جهة الأم. كان عالما ويحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء. ترك وراءه عشرة أولاد من أمهات أربع.  اعتنق الإسلام وهو شاب. وبنى أربعة مساجد في السلفادور. والغريب أن رئيس الجمهورية هو ابنه الكاثوليكي، نجيب أبو كيلة، بينما أخوه من طرف والده إيمرسون هو إمام المسجد  ويكرس إيمرسون كل جهوده لتوسيع دائرة التعاون والتنسيق بين الجاليات المسلمة، على قلتها، في أمريكا اللاتينية. كان أرماندو فلسطينيا حتى النخاع، وكرس جهده وأمواله لخدمة فلسطين وتوسيع العلاقات بين السلفادور وفلسطين، الذي توج باعتراف السلفادور بدولة فلسطين عام 2013. وفي عام 2017 تمكنت الجالية الفلسطينية من إغلاق السفارة الإسرائيلية، بدعم من قوى اليسار الممثلين في جبهة تحرير فاربوندو مارتي، التي كان يقودها في فترة الثورة الفلسطيني الثوري شفيق حنظل، من أصول تلحمية. عندما انتخب نجيب لأول مرة في يونيو 2019 قام بزيارة رسمية لتل أبيب وأخذ إلى موقع ياد فاشيم لتخليد ذكرى المحرقة.  كانت السلفادور تعيش حالة من الفوضى، خاصة أن العصابات والجريمة المنظمة تسيطر تقريبا على المدن والشوارع المكتظة، تسرق وتنهب وتقتل بلا خوف أو تردد.  قرر نجيب أن ينظف البلاد من العصابات فتعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، واتبع ملتهم في القمع وتنظيف البلاد من عصابات الجرائم المنظمة، حتى زاد النزلاء بالسجون عن 80 ألفا. وقد أعدت منظمات حقوق الإنسان العديد من التقارير التي توثق التعذيب والمعاملة الخشنة.  لكن هذا ما كان يريده الناس فارتفعت شعبية نجيب إلى مستويات غير مسبوقة وأعيد انتخابه في فبراير 2024 بغالبية ساحقة وصلت نسبة مؤيديه إلى 84 في المئة. لكن نجيب، بعكس والده وإخوته، لا يأتي على ذكر فلسطين ولم يتطرق لقضية فلسطين، أو مجازر غزة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي. ونجيب أبو كيلة ليس الرئيس الأول من أصل فلسطيني، بل سبقه أنطونيو سقا (2004-2009) من أصول تلحمية. وهو الآن يقضي عقوبة تصل إلى عشر سنوات في السجن بتهم الفساد. في السلفادور عديد من الوزراء والوزيرات وأعضاء في البرلمان من أصول فلسطينية  أما رجال الأعمال والمعامل الصغيرة والتجارة فهي في أيدي الفلسطينيين. وهؤلاء عادوا بعد غياب إلى انتمائهم الفلسطيني.

أنجز الفلسطينيون بناء ميدان باسم فلسطين يرتفع عليه علم فلسطين وخريطة فلسطين والعلمان السلفادوري والفلسطيني، ولوحة رخامية ثبتت عليها صورة محمود درويش وقصيدته «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» بترجمتها الإسبانية. وفي شارع  يدعى القدس أقيم تمثال للرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات. وهناك سفارة فلسطينية نشيطة يتواصل السفير مروان البوريني مع الفلسطينيين بشكل دائم ومع الشعب السلفادوري حيث يتكلم اللغة بطلاقة.

ترك كل من زلزال 13 يناير 2001 بقوة 7.7 (حسب ميزان ريختر) وزلزال 13 فبراير بقوة 6.6،  دمارا هائلا في البلاد، حيث قتل نحو ألف مواطن وجرح أكثر من 5500 وشرد الآلاف وهدم أكثر من 150 ألف بيت. قامت الجالية الفلسطينية، التي تتمتع بمستوى معيشي فوق المعدل العام، ببناء قرية متكاملة خارج مدينة سان سلفادور وجهزت بيوتها الـ163 وقدمتها هدايا للمشردين من الزلزال، وبنت في القرية كنيسة ودار حضانة ومدرسة وعيادة ومركز تدريب وملاعب كرة قدم ومركزاً للشرطة. وأطلقت أسماء المدن الفلسطينية على  شوارعها مثل شارع بيت لحم وشارع رام الله وشارع نابلس. وتشرف على القرية لجنة من فلسطينيي السلفادور يتابعون سير الحياة والخدمات فيها. وقد افتتحت القرية  يوم 13 يناير 2003، في الذكرى الثانية للزلزال، بحضور رئيس البلاد آنذاك فرانسيسكو فلوريس، وسلمت المفاتيح للسكان المهجرين من ضحايا الزلزال. وتقوم القرية بإحياء المناسبات الفلسطينية مثل يوم الأرض ويوم التضامن وغير ذلك.

شعب بهذا الإبداع والحيوية والانتماء، سواء في غزة أو نيويورك أو سيدني أو سانتياغو أو سان سلفادور، هل يمكن أن يهزم أو ينقرض كما تمنى السفاحون الصهاينة؟

وسوم: العدد 1104