قبول غربي تعززه رسائل طمأنة من "الشرع" الثورة تفرض انتصارها عربيًا ودوليًا

حسام المحمود | هاني كرزي | علي درويش

سوريا حرة، وحرة بالكامل، واقعًا لا شعارات وآمالًا ثورية ظلّت حبيسة ساحات التظاهر والبيانات، وحرقة في صدور أمهات المعتقلين والقتلى، لأكثر من 13 عامًا، فتحررت من المتاريس والبراميل والمجازر والقصف العشوائي للنظام، ومن الاعتقال، والإبعاد، وزج الشباب وقودًا لبقاء الأسد، وتحررت من المساومة على لاجئيها، وأهلها المتروكين لخيام نُصبت في العراء.

تحررت سوريا من قلق مجلس الأمن، والأمين العام للأمم المتحدة، ومن تحذيرات مبعوثه حول هجمات النظام على مناطق “خفض التصعيد”، تحررت من “خفض التصعيد” نفسه، ومن الخوف من الجدران، والتقارير الكيدية، ومن المعتقلات والزنازين والتشبيح باسم الوطنية.

جاء فجر الأحد، 8 من كانون الاول 2024، مغايرًا عن كل ما سبقه طيلة نحو 53 عامًا، حكم حافظ الأسد 29 منها، ليعتلي ابنه بشار السلطة عام 2000 بلا انتخابات، ويواصل الحكم منذ ذلك الحين دون عملية دستورية حقيقية تصون إرادة الإنسان الحر في بلده، وصولًا إلى 2011 حين قامت الثورة، وواصل السوريون مشوارًا طويلًا كلّف الغالي والأغلى، بالقتلى والمعتقلين، والغارقين في البحر على شرف اللجوء، في وقت نثر فيه الأسد المخلوع ميليشيات أجنبية وطائفية تحارب لبقاء عرشه الزائل، واستعان بطيران روسيا، و”الحرس الثوري الإيراني”، وجنّد الشعب ضد الشعب، والجيش ضد أهله، تجسيدًا لقناعته بالبقاء إلى الأبد، هذه القناعة التي حوّلها السوريون إلى وهم زائل، قبل ساعات، حين علت الحناجر بما أخفت الصدور، وهلل السوريون لرحيله في قلب العاصمة دمشق، التي فرّ منها بلا بيان اعتذار للشعب أو شكر لمقاتليه أو توضيح على الأقل، فسقط بصمت، ومضى بصمت، كما تذهب الأوبئة إثر تطويقها.

في هذه المساحة، تتناول عنب بلدي الحدث الأبرز في تاريخ سوريا والسوريين لعقود، رحيل عائلة الأسد وزوال حكمها، فتسلط الضوء على أيام بشار الأخيرة قبل الهروب، والطريقة التي تعاملت بها الدول مع الحدث، مستندة إلى آراء محليين وباحثين سياسيين متخصصين.

الأسد المخلوع في آخر أيامه

لم تعصم الأيام الأخيرة وتحركاتها بشار الأسد من تقدم متسارع من قبل “إدارة العمليات العسكرية” لفصائل المعارضة السورية المشاركة في عملية “ردع العدوان”، التي كان غرضها وقف قصف النظام على الشمال السوري، وإعادة المهجرين من الخيام إلى منازلهم.

فالاتصال برئيس الإمارات، والحصول على رسائل تضامن ودعم، والاتصال برئيس حكومة العراق، ولقاء وزير خارجية إيران في دمشق، ولقاء وزراء خارجية إيران وسوريا والعراق، ثم لقاء وزراء خارجية دول مسار “أستانة” (تركيا وروسيا وإيران) في الدوحة، كلها نشاطات دبلوماسية كانت تحصل بالتزامن مع تقدم المعارضة واستعادتها مساحات واسعة وتحريرها وإطلاق سراح المعتقلين فيها، قبل الانتقال إلى خطوة جديدة تقرّب الثائرين من المحطة الأخيرة، دمشق.

ومع خسارة النظام محافظات الجنوب، وتقدم الفصائل في حمص، والتوجه لحصار دمشق، على وقع بيانات رنانة لوزارة الدفاع في حكومة النظام، تكذّب الحقيقة الملموسة للسوريين، وصل الأسد إلى الحلقة الأخيرة في حكمه فجر الأحد، حين غادر العاصمة إلى جهة غير معلومة، لتعلن “إدارة العمليات العسكرية” لفصائل المعارضة السورية هروب الأسد، في وقت لاحق، بالتزامن مع إعلانها دمشق حرّة من حكمه داعية السوريين في جميع أنحاء العالم للعودة إلى سوريا الحرة.

وقالت “إدارة العمليات العسكرية”، “بعد 50 عامًا من القهر تحت حكم البعث، و13 عامًا من الإجرام والطغيان والتهجير، وبعد كفاح ونضال طويل ومواجهة كافة أشكال قوى الاحتلال، نعلن اليوم في 8-12-2024 نهاية هذه الحقبة المظلمة وبداية عهد جديد لسوريا”.

وتجري حاليًا عملية بحث نشطة عن الأسد المخلوع، حيث تستجوب فصائل المعارضة السورية بعد سيطرتها على دمشق، وإنهاء حكم الأسد رسميًا، ضباطًا عسكريين ومسؤولين في الاستخبارات قد يكونون على علم بتحركات الأسد، وفق ما نقلته شبكة “CNN” عن مصدر وصفته بـ”المطلع”.

موقع “أكسيوس” الأمريكي، قال إن طائرة من طراز “إليوشن 76″، يشتبه في أنها كانت تحمل الأسد، غادرت مطار “دمشق”، قبل وقت قصير من دخول المعارضة.

واتجهت الطائرة إلى الشمال الغربي ثم انعطفت قرب مدينة حمص، وخفضت ارتفاعها بسرعة قبل أن تختفي.

الطائرة حلقت بداية نحو منطقة الساحل السوري، لكنها غيرت مسارها قبل أن تختفي بشكل مفاجئ، وحلقت في الاتجاه المعاكس لبضع دقائق، قبل أن تختفي عن الخريطة.

ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين سوريين، أن هناك احتمالًا كبيرًا للغاية بأن يكون الأسد قُتل في تحطم طائرة، إذ لا يزال من غير المعروف سبب عودة الطائرة إلى مسارها المفاجئ، واختفائها عن الخريطة.

مصدر آخر قال للوكالة، إن الطائرة اختفت عن الرادار، وربما جرى إغلاق جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بها، لكن الاحتمال الأكبر أنها سقطت.

وبعد هروب الأسد، قال رئيس الحكومة السورية، محمد غازي الجلالي، في تسجيل مصور من منزله، إنه سيكون في مقر عمله برئاسة الوزراء مستعدًا لتسليم مقر الحكومة.

من جهتها، قالت “إدارة العمليات العسكرية”، في بيان وجهته إلى جميع القوات العسكرية في مدينة دمشق، إنه يمنع منعًا باتًا الاقتراب من المؤسسات العامة، التي ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتى يتم تسليمها رسميًا، كما يمنع إطلاق الرصاص في الهواء.

دوليًا.. كيف تلقى العالم حدث سقوط الأسد

يتجلى الموقف الدولي من مشهد التغيير الكبير في سوريا بإفصاح واشنطن عدم رغبتها بإفادة النظام، وإعلان روسيا أنها لا تستطيع حمايته طالما أنه لم يدافع عن نفسه.

ويبدو أن ما حصل كان بمثابة تطبيق عملي لمرحلة قطع الطريق بين طهران وبيروت، مع الإشارة إلى أن إسرائيل تحاول تأمين “الجغرافيا الإسرائيلية”، وفق ما بدأ في غزة وتابع في لبنان، ويستكمل في سوريا، وفق وصف الخبير في معهد “ستيمسون” عامر السبايلة.

واليوم، الأحد، أعلنت إسرائيل نشر قوات في المنطقة الفاصلة العازلة وفي عدة نقاط دفاعية ضرورية لما قالت إنه “ضمان أمن سكان بلدات هضبة الجولان ومواطني دولة إسرائيل”.

المتحدث باسم الجيش، أفيخاي أدرعي، قال إن الجيش الإسرائيلي لا يتدخل بالأحداث الواقعة في سوريا، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة اتخذت في ضوء التطورات في سوريا وإمكانية دخول “مسلحين” إلى المنطقة الفاصلة العازلة بين سوريا والجولان المحتل.

وفي قراءة للتطورات السريعة التي حصلت منذ 27 من تشرين الثاني الماضي، وصولًا إلى اليوم الأحد، اعتبر اللواء السعودي المتقاعد والباحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية عبد الله بن غانم القحطاني، أن الولايات المتحدة هي المظلة الكبرى لكل ما جرى تخطيطه وتنفيذه في سوريا، عبر تفاهمات وتوافقات تركية- روسية مهمة لتغيير الواقع السياسي والأمني في سوريا، باعتبار أن الأنظار التركية والروسية تتجه للمكاسب في مرحلة حكم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وفق ما ذكره عبر “إكس”.

القحطاني قال أيضًا إن ترامب هو من أسقط الأسد وأقنع بوتين بالتخلي عنه، منهيًا مرحلة طويلة من الحكم البعثي والعبثي في دمشق، ما سيسهم في إضعاف حلفائها السابقين بالمنطقة.

ترامب هو من أسقط الأسد وأقنع بوتين بالتخلي عنه، منهيًا مرحلة طويلة من الحكم البعثي والعبثي في دمشق، ما سيسهم في إضعاف حلفائها السابقين بالمنطقة.

عبد الله بن غانم القحطاني

لواء سعودي متقاعد وباحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية

وتابع القحطاني، “مؤسسة المخابرات الجوية السورية ستزول كمفهوم ومهام، والمخدرات التي أنهكت العرب ستتم محاصرتها بعون الله”.

كيف استقبل العالم رحيل الأسد؟

الولايات المتحدة:

  • قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، شون سافيت، إن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وفريقه “يتابعون عن كثب الأحداث الاستثنائية” التي تجري في سوريا، وهم على اتصال دائم مع الشركاء الإقليميين.

روسيا:

  • ذكرت الخارجية الروسية أن موسكو لم تشارك في هذه المفاوضات، وتناشد جميع الأطراف المعنية بتوجيه دعوة مقنعة إلى نبذ استخدام العنف وحل جميع قضايا الحكم من خلال الوسائل السياسية، مضيفة أنها على اتصال بجميع فصائل المعارضة، وتدعو إلى احترام آراء جميع القوى، وتدعم إنشاء عملية سياسية شاملة على أساس القرار “2254”.

ألمانيا:

  • قالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، إنه يجب على البلاد الآن ألا تسقط بأيدي “متشددين آخرين” تحت أي شكل كان، داعية كل الأطراف إلى تحمّل كل مسؤولياتها تجاه جميع السوريين، مع ضرورة حماية كاملة للأقليات.

فرنسا:

  • رحبت فرنسا بسقوط نظام بشار الأسد “بعد أكثر من 13 عامًا من القمع العنيف للغاية ضد شعبه”، ودعت السوريين إلى رفض التطرف، وفق بيان للخارجية الفرنسية.

الصين:

  • الصين تتابع تطورات الوضع في سوريا وتبدي اهتمامًا كبيرًا، وتأمل أن تستعيد سوريا الاستقرار في أقرب وقت ممكن، وفق بيان لخارجيتها.

تركيا:

  • قال وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إن الشعب السوري سيرسم مستقبل بلده، وينبغي للمجتمع الدولي دعمه، مع ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة ووحدة أراضي سوريا.

قطر:

  • دعت قطر لإنهاء الأزمة السورية وفق قرارات الشرعية الدولية وقرار مجلس الأمن “2254”، بما يحقق مصالح الشعب السوري، ويحافظ على وحدة بلاده وسيادتها واستقلالها.

الإمارات:

  • مستشار الرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، ألقى باللوم في سقوط الأسد على فشل سياسته، وقال إنه لم يستخدم “شريان الحياة” الذي عرضته عليه دول عربية مختلفة من قبل، بما فيها الإمارات، طالبًا التعاون من السوريين لتجنب حصول “فوضى”.

إسرائيل:

  • رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قال، “هذا يوم تاريخي بالنسبة للشرق الأوسط. إن انهيار نظام الأسد والاستبداد في دمشق يوفر فرصة عظيمة، ولكنه محفوف أيضًا بمخاطر كبيرة”.

إيران:

  • إيران تحترم وحدة سوريا وسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها، ومصير سوريا ومستقبلها مسؤولية شعبها وحده، دون تدخل مدمر أو فرض خارجي، وفق بيان للخارجية الإيرانية.

أمريكا: “لا تتورطوا

منذ بداية تقدم فصائل المعارضة ومع سيطرتها على مناطق واسعة، خرجت تصريحات أمريكية كان أبرزها نفي وزارة الدفاع الأمريكية لتورطها في عملية “ردع العدوان”، التي قادتها “إدارة العمليات العسكرية”، وتحدث المتحدث باسم الوزارة عن تحديات كبيرة أمام النظام تتعلق بأمنه واستقراره.

كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إنه ليس هناك أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه النظام السوري، واصفًا بشار الأسد بأنه “دكتاتور وحشي، يداه ملطختان بدماء المدنيين الأبرياء في سوريا”.

ومع تقدم المعارضة وسيطرتها على حماة، اكتفت واشنطن بالتأكيد على ضرورة الحفاظ على حماية المدنيين، بمن في ذلك الأقليات، دون التعليق على تقدم الفصائل أو إبداء أي اعتراض، معتبرة أن رفض النظام المستمر للانخراط في العملية السياسية، أدى إلى تصاعد الأحداث التي تشهدها سوريا بشكل مباشر.

ويرى الإعلامي والسياسي السوري- الأمريكي أيمن عبد النور، أن الولايات المتحدة لم ترَ في تحرك الفصائل ما يضر بمصالحها، لذلك كانت جميع الأطراف حريصة على أن تبتعد عما يمكن أن يضر بالأمن القومي الأمريكي، لأنها تعرف أنها ستتعرض للأذى.

وفي الساعات الأخيرة قبيل سقوط نظام الأسد، قال ترامب، “سوريا في فوضى، لكنها ليست صديقتنا، ويجب على الولايات المتحدة ألا تكون لها أي علاقة بذلك. هذه ليست معركتنا. دعوا الأمر يأخذ مجراه، لا تتورطوا”.

وبعد سقوط نظام الأسد، قال إن “الأسد فر من بلاده بعدما فقد دعم روسيا، ولم تعد مهتمة بحمايته”.

هل تغير “الشرع”.. وماذا عن التصنيف؟

خلال الفترة الأخيرة، بدأت “هيئة تحرير الشام” تغيّر في خطابها، إذ أجرى أحمد حسين الشرع، الملقب بـ”أبو محمد الجولاني”، مقابلة حصرية لشبكة “CNN” نشرت في 6 من كانون الأول، وقدم فيها رسائل طمأنة فيما يتعلق بموضوع الأقليات، إذ قال، “كانت هناك بعض الانتهاكات ضدهم (الأقليات) من قبل أفراد معينين خلال فترات الفوضى، لكننا عالجنا هذه القضايا (…) لا يحق لأحد أن يمحو مجموعة أخرى”.

وعزا “الجولاني”، الذي بدأ في الأيام الأخيرة باستخدام اسمه الصريح، أحمد الشرع، التغييرات التي مرّت بها شخصيته، خلال السنوات الماضية بدءًا بتنظيم “القاعدة”، ووصولًا لمحاولات الاعتدال، إلى عامل السن، ومسألة تطور الوعي مع تقدم العمر، كما تحدث عن احتمالية حل “الهيئة” نفسها، وعن كونها تفصيلًا في الملف السوري، وأن الغرض منها إسقاط نظام بشار الأسد.

وكانت الولايات المتحدة وضعت، في آذار 2017، “هينة تحرير الشام” على “لائحة الإرهاب”، وصنّفت في 2018 “الجولاني” كـ”إرهابي دولي”، ووضعت مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار أمريكي للوصول إليه، لكنه رفض هذه التصنيفات مرارًا، معتبرًا أنها “غير منصفة”.

وقال أيمن عبد النور، إنه عندما تم تصنيف “هيئة تحرير الشام” كـ”منظمة إرهابية”، جرى ذلك بناء على أيديولوجيتها وسلوكها حينها، لكن “الهيئة” بدأت تغير تلك الأيديولوجيا مؤخرًا، وهو ما يظهر حاليًا على الأرض من خلال السلوك المنضبط لـ”الهيئة”، موضحًا أنه إذا تغيّرت الهيكلية والإدارة والممارسات بشكل واضح من قبلها أو حلّت نفسها، فمن المحتمل أن تتجه أمريكا إلى إلغاء تصنيفها كـ”منظمة إرهابية” والتواصل معها بشكل مباشر، لأن التصنيفات لا تكون بناء على الشخص بحد ذاته، بل وفق الأيديولوجيا والتصرفات التي يقوم بها.

روسيا تتخلى عن الأسد

منذ أيلول 2015، تدخلت روسيا عسكريًا لإنقاذ النظام السوري، بعد وصول فصائل المعارضة إلى مشارف دمشق، وبالفعل استطاعت موسكو خلال سنوات قلب موازين القوى لمصلحة النظام، عبر التدخل العسكري، والمسارات السياسية، لكن بعد حوالي تسع سنوات على التدخل الروسي، بدأت تظهر مؤشرات على تخلي موسكو عن الأسد، وهو ما بدا جليًا عقب إطلاق فصائل المعارضة معركة “ردع العدوان” التي حققت خلال تقدمًا واسعًا على مرأى من موسكو، التي لم تدعم النظام بقوة.

واكتفت وزارة الخارجية الروسية بالحديث عن ضرورة الجلوس على طاولة المفاوضات وخفض التصعيد، وتوجيه الاتهامات إلى أوكرانيا بدعم فصائل المعارضة بالطائرات المسيّرة خلال المعارك التي تخوضها ضد النظام شمال غربي سوريا.

المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي محمود الحمزة، فسّر ذلك بأن روسيا لم تدافع عن الأسد لأسباب كثيرة، منها أنه لا يتجاوب مع المقترحات، لا سيما فيما يخص التطبيع مع تركيا، حيث كان يعد الروس بالتقدم نحو مسار التطبيع، قبل أن يصعّد ضد تركيا أو يشهر سيف الشروط المسبقة.

وأشار الحمزة إلى أن روسيا منهمكة في حرب أوكرانيا، وإيران تلقت ضربات موجعة من إسرائيل، عقب اغتيال قيادات “حزب الله” (حليفها العسكري الأقرب في لبنان، والحاضر في سوريا لدعم النظام، وبالتالي لم تعد لدى حلفاء الأسد القدرة على دعم قواته العاجزة عن حماية نفسها.

الأسد كان ينتظر من موسكو وإيران دفاعًا عن بقائه، بسبب مصالحهما المرتبطة بوجوده، لكن روسيا تخلت عنه، ربما كي لا تضحي بمصالحها مع تركيا.

محمود الحمزة

محلل سياسي متخصص بالشأن الروسي

وكان الأسد ينتظر من موسكو وإيران دفاعًا عن بقائه، بسبب مصالحهما المرتبطة بوجوده، لكن روسيا تخلت عنه، ربما كي لا تضحي بمصالحها مع تركيا، وفق المحلل السياسي.

وفي تصريح روسي يعكس تبدّل الموقف من النظام السوري، نقلت وكالة “بلومبيرغ” عن مسؤول مقرب من “الكرملين”، أن روسيا لا تملك خطة لإنقاذ رئيس النظام السوري، ولا ترى إمكانية لظهور خطة لإنقاذه، طالما استمر جيش النظام بالانسحاب والتخلي عن مواقعه.

وسبق هذا التصريح بساعات، دعوات أطلقتها السفارة الروسية بدمشق مطالبة خلالها المواطنين الروس الذين يعيشون في سوريا بمغادرة البلاد على متن رحلات تجارية عبر المطارات الموجودة، بسبب الوضع العسكري والسياسي الصعب في سوريا.

أما وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فتحدث بعد اجتماع مع وزيري خارجية تركيا وإيران عن ضرورة التواصل بين النظام والمعارضة السورية التي وصفها لأول مرة بأنها “شرعية”، بعدما كان يتهمها بالإرهاب.

في المقابل، يرى المحلل السياسي الروسي، ديمتري بريجع، أن روسيا لم تغير سياساتها تجاه سوريا، لكن استمرار انهيار الأخير عسكريًا، كفيل بإجبار موسكو على إعادة ترتيب أوراقها، كونها تدرك أن الطيران الروسي لن يستطيع تغيير موازين القوى دون قوات برية فعّالة على الأرض.

وأشار بريجع إلى أن هناك تفاهمات روسية- تركية، ومصالح مشتركة باعتبار أن أنقرة حليف استراتيجي لموسكو، مستبعدًا حدوث تحول في السياسة الروسية تجاه تركيا في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا، لأن ذلك سوف يؤثر على المصالح الروسية بشكل أساسي.

وبالتزامن مع دخول فصائل المعارضة المشاركة في عملية “ردع العدوان” إلى مدينة حلب، وجهت حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب، رسالة إلى روسيا، جاء فيها أن الشعب السوري يسعى لبناء علاقات إيجابية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع كل دول العالم، بما في ذلك روسيا، التي اعتبرتها “شريكًا محتملًا” في بناء مستقبل مشرق لسوريا.

الموقف العربي ورسائل الطمأنة من “الشرع”

هذا السقوط “الحر” لنظام حكم الأسد، قوبل بصمت عربي حتى من الدول التي طبعت علاقاتها معه قبل أقل من عامين، وأشرعت له الباب ليشارك في قمتين عربيتين (في جدة والمنامة)، وقمتين عربيتين إسلاميتين (في الرياض)، باستثناء بيانات دبلوماسية لا تحمل في جوهرها انحيازًا لترجيح حكمه.

الخبير الاستراتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن عامر السبايلة، قال لعنب بلدي، إن المواقف العربية مما جرى ليست ذات قيمة حقيقية، فما جرى في سوريا نسخة معدلة مما حصل قبل سنوات، وبصيغة إقليمية ومرتبطة بما يحصل في الإقليم، فالعرب مجتمعين ليسوا جزءًا من المعادلة، وقدرتهم على فرض رؤى محدودة للغاية.

السبايلة اعتبر ما جرى جزءًا من استراتيجية إقليمية برعاية دولية، بمعنى أنه لا يمكن القبول بما كان سائدًا قبل 7 من تشرين الأول 2023، وفكرة جبهات وميليشيات وسلاح وصل إلى ضرب الداخل الإسرائيلي، فهذه مرحلة انتهت، وسوريا لن تعود أرضًا عملياتية للتنظيمات وإيران.

ظهور الشرع باسمه وحديثه عن حياته الشخصية وفكرة حل “هيئة تحرير الشام” يوحي بخطوة سياسية عليها توافقات، فيما يبدو كعملية تأهيل، وتقديم أوراق اعتماد كرجل سياسة لا قائد فصيل.

عامر السبايلة

خبير استراتيجي وباحث غير مقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن

ومع تحركاتها العسكرية على الأرض، اتجهت “إدارة العمليات العسكرية”، وقيادتها المتمثلة بأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وعبر حكومة “الإنقاذ” العاملة تحت مظلة “هيئة تحرير الشام” التي يقودها “الجولاني”، لتقديم بيانات ورسائل طمأنة على مستويين، محلي داخلي وخارجي، فطمأنت الطائفة الشيعية والإسماعيلية والعلوية والمسيحيين، ودعتهم للبقاء في منازلهم، ومنحتهم الأمن، كما خاطبت روسيا ودعتها لربط مصالحها بالشعب السوري، لا ببشار الأسد، وخاطبت الأردن ولبنان، لكف يد “حزب الله”، والعراق للجم ميليشياته الطائفية، والمجتمع الدولي، الذي وعدته بعدم استخدام السلاح الكيماوي وأسلحة الدمار الشامل، والتعاون في هذا الملف.

الخبير السبايلة اعتبر أن ظهور الشرع باسمه وحديثه عن حياته الشخصية وفكرة حل “هيئة تحرير الشام” يوحي بخطوة سياسية عليها توافقات، فيما يبدو كعملية تأهيل، وتقديم أوراق اعتماد كرجل سياسة لا قائد فصيل.

خوف بغداد من المعارضة

مع إطلاق فصائل المعارضة عملية “ردع العدوان” وتقدمها على حساب قوات النظام والميليشيات الإيرانية، تتالت إعلانات الحكومة العراقية عن إغلاق وتأمين الحدود، وذهبت إلى أبعد من ذلك بوصفها الفصائل بـ”الإرهابيين”.

قابل الموقف العراقي المتشدد من فصائل المعارضة تطمينات من قبل “إدارة العمليات العسكرية” التي أدارت دفة المعارك في شمالي سوريا.

الموقف العراقي تجاه الفصائل العسكرية، بحسب تصريحات المسؤولين، لم يتغير حتى اللحظة الأخيرة من خلع الأسد، وألمح العراق لدعم النظام ضد المعارضة، وصدرت أصوات من قادة ميليشيات عراقية تابعة لإيران حول نيتها دعم النظام، إلا أن “الحشد الشعبي” الذي تنضوي تحته هذه الميليشيات نفى إرسال قوات إلى سوريا.

كما أكد زعيم “التيار الوطني الشيعي”، مقتدى الصدر، الخميس الماضي، أنه ما زال على موقفه من عدم التدخل في الشأن السوري، وعدم الوقوف ضد قرارات الشعب، فهو المعني الوحيد في تقرير مصيره.

الباحث السياسي نادر خليل، قال لعنب بلدي، إن الموقف السلبي للحكومة العراقية تجاه فصائل المعارضة السورية، الذي تجلى بوضوح بعد عملية “ردع العدوان”، لا يمكن تفسيره بعيدًا عن النفوذ الإيراني وتأثيره العميق على السياسة الخارجية للعراق “وتظهر حكومات العراق كتابع لها”.

والموقف العراقي “يبدو انعكاسًا مباشرًا للإملاءات الإيرانية أكثر من كونه موقفًا مبررًا يخدم مصالحه الوطنية”، وفق تعبير نادر خليل.

الموقف العراقي يبدو انعكاسًا مباشرًا للإملاءات الإيرانية أكثر من كونه موقفًا مبررًا يخدم مصالحه الوطنية.

نادر خليل

 باحث السياسي

وترى إيران في فصائل المعارضة تهديدًا لنفوذها في سوريا والعراق، بحكم ارتباط النظامين الوثيق بإيران سياسيًا وأمنيًا، بالإضافة إلى الأبعاد الطائفية للمشروع الإيراني، فإيران، وفق نادر خليل، تسعى لاستغلال حكومة بغداد كأداة ضمن النظام الإقليمي العربي لتشكيل مواقف معادية للمعارضة السورية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة عمومًا.

ولدى الحكومة العراقية “هواجس أمنية”، وتعتبر المعارضة السورية عاملًا مزعزعًا للاستقرار، بناء على توصيفات إيرانية، وتسعى حكومة بغداد ضمن سياستها الحالية للحفاظ على تحالفاتها الإقليمية وعلاقاتها الاستراتيجية مع طهران، ولو على حساب مواقفها تجاه قضايا عربية، وفق نادر خليل.

المحلل السياسي العراقي نظير الكندوري، أرجع موقف العراق إلى تخوف الحكومة الشديد من سقوط النظام على يد المعارضة السورية، ما يمكن أن يمهد في مرحلة لاحقة لمصير مشابه للنظام العراقي الحالي.

بالاستناد إلى عوامل منها جغرافية، فالبلدان يشتركان بحدود تصل إلى 605 كيلومترات، بالإضافة إلى العامل الديموغرافي في البلدين، فكلاهما تحكمهما مجموعة “طائفية مرتهنة بولائها إلى إيران، تضطهد السنّة”.

والذاكرة السياسية القريبة لجميع الأنظمة العربية، تجعل حكومة بغداد تخشى من تكرار سيناريو الربيع العربي، حينما امتدت الاحتجاجات الشعبية لعدة دول عربية.

وأشار الباحث نادر خليل إلى وجود مخاوف غير مبررة لدى العراق تتمثل في انتقال مقاتلين معارضين أو انتقال تأثير عملياتهم إلى العراق، رغم أن التهديد الحقيقي يتمثل بخلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” القريبة جغرافيًا، وليس لقوى المعارضة السورية أي مصلحة أو نيات أو خطط لذلك.

ولدى فصائل المعارضة مشاغلها وأعمالها داخل سوريا تكفيها عن أي تحركات خارج سوريا، ولكن تقدم المعارضة قد يشجع القوى العراقية الرافضة للنفوذ الإيراني على التحرك، ما يهدد استقرار النظام السياسي المدعوم من طهران.

وأضاف الكندوري أنه من الناحية السياسية، فإن انتصار المعارضة على النظام يضرب المشروع الإيراني بالصميم، في الوقت الذي كانت إيران ومن يتبعها تريد تقديم نموذج ناجح في سيطرتها على أربع دول عربية، وبالتالي فإن قطع المحور الإيراني من سوريا، سيضرب المشروع الإيراني ضربة قاتلة، وسيكون مصير حكومة بغداد ومن يدعمها من أحزاب وميليشيات مرتبطة بإيران في مهب الريح، فالموضوع بالنسبة للنظام الحاكم في العراق، حياة أو موت.

خطاب إيجابي

وجّه قائد هيئة “تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، القائد العام للعمليات العسكرية ضد النظام، في 5 من كانون الأول، رسالة طمأنة إلى الحكومة العراقية تؤكد عدم وجود نيات أو أفكار لدى فصائل المعارضة السورية ترتبط بالأراضي العراقية.

وقال إن “هناك الكثير من المخاوف والأوهام التي يظنها بعض الساسة العراقيين بأن الوضع في سوريا سيمتد للعراق، وهذا الأمر خاطئ مئة في المئة”.

كما وجهت حكومة “الإنقاذ” السورية، مطلع كانون الأول الحالي، رسالة حملت أيضًا تطمينات للعراق.

ويرى الباحث نادر خليل أن خطاب المعارضة السورية “الإيجابي” والموجه للحد من المخاوف الإقليمية وضع الحكومة العراقية أمام خيار صعب، فخفف من حدة موقفها قبل أن تحسم فصائل المعارضة العملية بإسقاط النظام.

وكان أول اتصال رسمي للأسد المخلوع خلال هجوم الفصائل مع رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، الذي أبدى استعداد بغداد لتقديم كل الدعم لسوريا فيما سماه “مواجهة الإرهاب”.

في 30 من تشرين الثاني الماضي، أي في اليوم الرابع من عملية “ردع العدوان”، كثف قادة الجيش العراقي من تصريحاتهم بما يتعلق بأمن الحدود.

في 3 من كانون الأول، أبلغ السوداني، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي أن بلاده لن تقف متفرجة على التداعيات “الخطيرة” الحاصلة في سوريا، وشدد على أن العراق سبق أن تضرر من “الإرهاب” ومن نتائج سيطرة “التنظيمات المتطرفة” على مناطق في سوريا، و”لن يسمح بتكرار ذلك”.

هذه التصريحات كلها سبقت اجتماعًا وزاريًا في بغداد جمع وزراء خارجية سوريا وإيران والعراق، ونتجت عنه تصريحات عراقية لم تخطُ أبعد من لغة البيان والتأكيد على وحدة سوريا وسيادتها وتقديم المساعدات الإنسانية وضرورة وقف الأعمال القتالية.

بخلع الأسد، انتهت حقبة من العلاقات المعقدة بين النظام السوري وجواره والقوى الدولية، امتدت لعقود، أثبت خلالها النظام السوري في عهد الأسدين الأب والابن ميله لترسيخ مصالحه على حساب الدور الحقيقي لسوريا كدولة عربية، ولأجل تلك المصالح بنيت تحالفات ومحاور، آخرها التحالف مع إيران و”حزب الله” اللبناني، وهو ما انتهى اليوم، على ما يبدو، إلى غير رجعة.

وسوم: العدد 1106