هواجس وآمال وتحديات ما بعد بشار الهارب
وأخيراً هرب بشار الأسد بعقده النفسية وأحقاده المرضية وخطاباته الإنشائية المملة. هرب بمليارات الدولارات وبأطنان من الذهب سرقها من الشعب السوري؛ هذا إلى جانب المليارات التي “حصّلها” بالشراكة مع شقيقه وحلفائه في “محور المقاومة” من الاستثمار في صناعة وتسويق الكبتاغون. هرب بعد أن ضلل أقرب المقربين إليه، وترك وراءه أكواماً من الصور والأوراق التي ستكون من دون شك مستقبلاً مادة غنية يستند إليها الباحثون، إلى جانب معطيات أخرى، في محاولة لفهم طبيعة الأحقاد التي كان هذا المخلوق الغريب يكنها للشعب السوري.
وخرج السوريون المكتوون بنار الحكم المستبد الفاسد المفسد الذي استمر في بلادهم على مدى أكثر من 61 عاماً، خاصة في مرحلته الأسدية الأكثر إجراماً وقباحة، ليعلنوا عن فرحهم وابتهاجهم بما حصل. خرج الشباب فرحاً وبحثاً عن مستقبل أفضل لهم بعد الخلاص من سلطة مافيوية التهمت كل شيء، وسدّت الآفاق أمامهم. خرج الرجال والنساء ليؤكدوا حرصهم على مستقبل أبنائهم وبناتهم وأحفادهم. كما خرج الكهول والشيوخ ليشكروا الله الذي مكّنهم من رؤية اليوم الحلم الذي طالما انتظروه، وهو اليوم الذي خرجت فيه أسرة الأسد من الحكم، ولاذت بالفرار خوفاً وهلعاً من القصاص العادل.
مرّ أسبوعان حتى الآن على الحدث السوري المجلجل الذي سيكون له شأن كبير محلياً وإقليمياً ودولياً، وما زالت نشوة السوريين في ذروتها، هذا رغم بعض الملاحظات أو الانتقادات أو التوجسات هناك وهناك.
ملاحظات وانتقادات تمحورت حول طريقة تشكيل الحكومة المؤقتة، والفترة التي حددتها لنفسها، أو حُددت لها، وعدم التواصل مع القوى المعارضة السورية على مستوى الأحزاب والكيانات السياسية والأشخاص…ألخ. وهواجس تخص التحولات والمتغيرات المتوقعة، وأخرى تستمد نسغها من تجارب جماعات إسلامية أخرى في الحكم كان من نتائجها الانعزال وإسكات الأصوات المختلفة (إيران وأفغانستان) على سبيل المثال.
ولكن في مقابل تشاؤمية أصحاب هذه الانتقادات والملاحظات والهواجس، هناك مسحة تفاؤلية لدى بعض المعارضين السوريين الليبراليين، وحتى في أوساط اليسار. أما الحجج التي يبشّر بها هؤلاء لشرعنة تفاؤلهم فهي تتجسد في ضرورة الاعتراف بأن ما حققته هيئة تحرير الشام من جهة التخلص من سلطة آل الأسد، لم تتمكن الجهات السورية الأخرى في المعارضة من تحقيقه. ومن بين حجج تسويغ الموقف من قبل المتفائلين هو أن الانتهاكات الموثقة بحق المكونات المجتمعية السورية المخالفة لها في الدين أو المذهب تكاد لا تذكر؛ هذا إلى جانب التصريحات الخاصة بضرورة احترام حرية المرأة، وإتاحة المجال أمامها في العلم والتعليم، وكل ذلك يتناقض مع ما هو حاصل في أفغانستان تحت حكم طالبان.
ولكن بين ملاحظات وهواجس المتشائمين وانتقاداتهم، وتسامح وتبشير المتفائلين، هناك جملة تحديات لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار أهمها:
أولاً – مساعي القوى المتضررة من سقوط السلطة الأسدية سواء المحلية أم الإقليمية، وحتى الدولية التي تبذل، وستبذل، من أجل عرقلة التحول النوعي الذي ينتظره السوريون. فهذه القوى ستحاول بكل الأساليب دفع الأمور في سوريا ما بعد الأسدية إلى التفجير والفوضى العارمة. وذلك عبر القيام بعمليات إرهابية وحملات تشكيك والعلاقات العامة، التي ترمي إلى إثارة المخاوف بشأن الأهداف الحقيقية للسلطات الجديدة في دمشق، ومقاصدها غير المعلنة، التي ستتجسد، وفق القوى المشار إليها، في حكم إشسلاموي لا يراعي الوضعية السورية وخصوصيات مكوناتها المجتمعية.
ثانياً – أهمية معالجة موضوع “قسد” بالحكمة وبعد النظر. ولتمكين القارئ غير المطلع على تفاصيل هذا الموضوع، هناك حاجة للعودة إلى موضوع دخول قوات “حزب العمال الكردستاني” تحت أسماء واجهاته السورية إلى سوريا في بداية الثورة بناء على اتفاق مع سلطة بشار الأسد كانت الغاية منه منع الكرد من التفاعل مع الثورة السورية، عبر إرهاب الناس واغتيال الناشطين وملاحقة الشباب الذين كانوا من الناشطين في الثورة. وهكذا سيطر الحزب المذكور على المناطق ذات الأغلبية الكردية في محافظة الحسكة وكوباني/عين العرب وعفرين؛ وكان ذلك بموجب عقد تسليم واستلام بين سلطة آل الأسد والحزب المذكور، وليس نتيجة “معارك” وهمية خاضها الحزب المشار إليه مع السلطة كما فبركت الماكينة الإعلامية لحزب العمال وواجهاته.
ولكن مع تراجع هيمنة السلطة، ودخول الروس والولايات المتحدة إلى الساحة السورية، تغيرت الأمور، إذ توافقت الولايات المتحدة مع روسيا على أولوية محاربة الإرهاب، مقابل تخلي الولايات المتحدة عن موضوع تغيير السلطة. ومن هنا وجد الجانب الأمريكي أهمية الاعتماد على قوات “حزب العمال” بأسمائها المختلفة التي غيرت اسمها، لتصبح “قوات سوريا الديمقراطية ـ قسد” بعد أن جرى تطعيمها بعناصر عربية وسريانية، وذلك بناء على حسابات أمريكية داخلية وتوازنات إقليمية. وبذلك غضت الولايات المتحدة النظر عن موضوع هيمنة حزب تصنفه في قائمة الإرهاب على القوات المذكورة.
وعلى إثر السقوط الفجائي غير المتوقع للسلطة الأسدية بعد هروب رئيسها، غلبت على سلوكية “حزب العمال” وقيادات “قسد” السورية حيرة وارتباك لافتين. فـ”حزب العمال” لا يريد التنازل عن ورقة “قسد” التي تمكنه من التدخل في شؤون كرد سوريا والوضع السوري بصورة عامة، وذلك بناء على التنسيق القائم بينه وبين حليفه النظام الإيراني. هذا في حين أن قيادات “قسد” تجد صعوبة كبيرة في عملية التوفيق بين التزاماتها مع حزب العمال، وبين رغبتها لأداء دور فاعل في الواقع السوري والترتيبات الجارية على صعيد السلطات السورية الجديدة، الأمر الذي حال بينها وبين خطوة سياسية براغماتية تعلن بموجبها فك ارتباطها مع “حزب العمال”، وهي الخطوة التي تمكنت “هيئة تحرير الشام” من الإقدام عليها بالنسبة إلى علاقتها مع “القاعدة”.
كما تعاني قيادات “قسد” في الوقت ذاته من إشكالية كبيرة في التعامل مع تركيا. وهذا ما يتجلى من خلال دعوات قائد قسد المتكررة إلى فتح الحوار أو العلاقة مع تركيا بغية حل نقاط الخلاف؛ تطالب تركيا بضرورة قطع العلاقات بين “قسد” و”حزب العمال”، وخضوع “قسد” في الوقت ذاته لحكم السلطات الجديدة في دمشق. وهذا الموضوع يحتاج إلى معالجة خاصة، لأنه يجسّد اشكالية ضمن المجتمع الكردي السوري نفسه، واشكالية في الوقت ذاته بالنسبة إلى العلاقة الأمريكية مع الجانب التركي، وذلك باعتبار أن أمريكا هي التي تدعم هذه القوات وتضمن لها الحماية.
أما المعالجة المطلوبة فهي تنجز على منحيين، الأول يتحقق من خلال مبادرة تركيا إلى إحياء العملية السلمية مع حزب “العمال الكردستاني” وبقية الأطراف الكردية في تركيا بغية التوصل إلى حل عادل للقضية الكردية ضمن إطار وحدة تركيا أرضاً وشعباً. أما المنحى الثاني فهو يتمثل في ضرورة إعلان “قسد” عن فك الارتباط الواضح النهائي مع “حزب العمال”، والتصرف كقوة سورية وهذا ما سيفتح المجال أمام التوافق الجاد مع المجلس الوطني الكردي السوري، والأحزاب الكردية السورية خارج المجلس، مما سيساهم في عملية تشكيل وفد كردي مشترك في أي حوار حول مستقبل سوريا على صعيد حقوق مكوناتها السكانية، وشكل الدولة ونظام الحكم.
ثالثاً – الحاجة إلى مرجعية وطنية تمثل المكونات المجتمعية والسياسية السورية، تضفي صيغة من صيغ مشروعية واقع الحال على السلطة الجديدة في المرحلة الانتقالية الراهنة المحفوفة بالمخاطر التي تمر بها سوريا. فوجود مثل هذه المرجعية سيقطع الطريق على جهود القوى المتضررة التي تسعى، وستسعى، تحت مختلف الشعارات البراقة للتشويش والمزايدات التي عادة ما تكون مرحلة تمهيدية لتنسيق الجهود بين أطراف الثورة المضادة التي ستحاول بكل السبل استعادة مواقعها وامتيازاتها.
واليوم هناك حديث حول مؤتمر وطني سوري عام، يكون بمثابة مرجعية لسلطة انتقالية، ويكون في الوقت ذاته جهة مقبولة لتشكيل هيئة أو لجنة مهمتها كتابة الدستور الذي لا بد أن يعرض على الشعب السوري في الداخل والخارج للاستفتاء عليه. مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة طمأنة سائر المكونات المجتمعية السورية من دون أي استثناء أو تمييز، على أن تجرى الانتخابات بموجب الدستور والنظام الانتخابي الجديدين، لتدخل سوريا بعد ذلك مرحلة استقرار واستعادة للتوازن المجتمعي الوطني.
رابعاً – أهمية طمأنة الجوار الإقليمي، وتعميق جسور التواصل مع الدول العربية؛ والحرص على استقلالية القرار الوطني السوري، الأمر الذي يقطع الطريق على الكثير من التدخلات بصرف النظر عن مصادرها. ولكن في الوقت ذاته تحتاج سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى بناء العلاقات الدولية المتوازنة التي من شأنها المحافظة على المصالح المشتركة.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن أحمد الشرع قائد “هيئة تحرير الشام”، الذي يقود سوريا حاليا بفعل قوة الأمر الواقع، يتحث بلغة مطمئنة في هذا المجال، ولكن الكل في انتظار ترجمة هذه التصريحات واقعاً على الأرض، بما في ذلك تصريحاته الخاصة بضمان حقوق سائر المكونات السورية وحقوق المرأة.
بالإضافة إلى ما تقدم، لا بد من أخذ موضوع تطبيق العدالة بحق كل من أسهم في إراقة دماء السوريين ظلماً وعدواناً؛ وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، وذلك لسد المنافذ أمام المخاطر التي من شأنها ترك سوريا مجالاً مفتوحاً أمام كل الاحتمالات غير المرغوب فيها من قبل السوريين الحريصين على وحدة شعبهم ووطنهم.
إن أخذ هذه التحديات الأساسية بعين الاعتبار، سيساهم من دون شك في تخفيف حدة التشاؤم ورفع وتيرة التفاؤل؛ وسيقطع الطريق على مخططات المتضررين من سقوط سلطة آل الأسد، وهي مخططات قد تنفذ عبر العمليات التخريبية، وبث الشائعات، والعزف على وتر العصبيات الطائفية أو القومية وحتى المناطقية.
متغيرات الحدث السوري الكبير متلاحقة متداخلة متحولة، لذلك ينبغي الانتباه والحذر.
وسوم: العدد 1108