رحلة البحث عن مصر في الداخل والخارج

وكأن جمهورية مصر العربية، حصلت على الاستقلال حديثاً، أو أنها إقليم حديث العهد بالسيادة، أو أنها تتحسس موقعها بين دول المنطقة والعالم، أو تتلمس خطاها بين المحاور والتكتلات، فيما بدا أنها حديثة التعامل مع السياسة الخارجية، بعد أن نفضت يديها من كل مجريات الأحداث تقريباً، في الوقت الذي تتخبط فيه داخلياً، إلى الحد الذي أصبح الاستقطاب، أو الانقسام حالة شائعة بين المكونات السياسية والاجتماعية، رغم كونها بمنأى عن الأخطر، ممثلاً في القلاقل العرقية، والأزمات المذهبية، أو حتى المشكلات الطائفية، والمواجهات المسلحة بشكل عام. هي حالة من الغياب الشامل، جعلت المواطن المصري، يبحث عن وطنه بين طيات الأنباء الواردة من أحداث الخارج فلا يجدها، يبحث عنها في مجريات الإدارة الداخلية للوطن فيصاب بالدوار، الأهم من ذلك، أن القلق والريبة ملازمتان للنشاط الخارجي كما الداخلي تماماً، انزعاج من التواصل مع بعض الكيانات، كدولة الإمارات على سبيل المثال، خوفاً من الاستحواذ على مزيد من أصول الدولة بالبيع البخس، كما القلق من المحادثات مع صندوق النقد الدولي، خشية الحصول على مزيد من القروض المدمرة، أو الريبة من استقبال مسؤولين إسرائيليين، خشية مزيد من التفريط والتنازلات، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو حتى الاتفاقية الحدودية.

مصر في ظل الأوضاع الراهنة والمتلاحقة بالمنطقة، لم تتخل فقط عن دورها التاريخي عربياً وافريقياً وإقليمياً، إنما تتخلى عن أمنها القومي، الذي لقنته مناهج التعليم للمصريين عموماً

أما على مستوى الداخل، فالأوضاع ليست أفضل حالاً، وكان آخرها، وعد الرئيس عبدالفتاح السيسي، قبل عدة أيام، بأن مصر ستكون أكثر تطوراً بعد 15 عاماً، بعد أن كان يتحدث، قبل عشرة أعوام، عن عامين، أما وقد أمضى الأعوام العشرة في الحكم، قبل أن يمدد لنفسه فترة ثالثة من خمسة أعوام أخرى، فها هو يشير إلى أن «جراب الحاوي» مازال يخبئ الكثير، فيما يتعلق بنيته الاستمرار، متجاوزاً الفترة الثالثة، إلى الرابعة والخامسة، كاشفاً النقاب عن بناء أضخم قصر رئاسي في التاريخ الحديث، على مساحة 2.7 مليون متر مربع، بما يتجاوز حجم البيت الأبيض الأمريكي عشر مرات، في وجود عشرات القصور والاستراحات الرئاسية في أنحاء مصر، وفي وجود ديون خارجية فقط، تزيد على 160 مليار دولار.

الغريب في الأمر، أن مصر في ظل الأوضاع الراهنة والمتلاحقة بالمنطقة، لم تتخل فقط عن دورها التاريخي عربياً وافريقياً وإقليمياً، إنما تتخلى عن أمنها القومي، الذي لقنته مناهج التعليم للمصريين عموماً، على مدى قرون، بأنه يبدأ من بلاد الشام شرقاً، ومن بلاد المغرب غرباً، ومن القارة الافريقية جنوباً، بل الأدهى أنها تتخلى عن دورها الإسلامي، ممثلاً في القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، بعد أن كانت تتصدر الصفوف، في الذود عن هذه وتلك، وبعد أن كانت ترسل كسوة الكعبة الشريفة إلى الأراضي الحجازية، أو ترسل علماء الدين إلى كل بقاع الأرض. ما الذي حدث لمصر، حتى تصبح سوريا، الشطر الآخر من الجمهورية العربية المتحدة، خارج نطاق الاهتمام السياسي، رغم أن السيسي منذ الأيام الأولى لتقلده مهام منصبه، أشار إلى ما يفهم منه، أنه يتلمس خطى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي حرص على إدماج الدولتين، المصرية والسورية، تحت راية واحدة، بل كان يسعى إلى ما هو أكثر من ذلك مع أقطار أخرى، إلا أنه بدا واضحاً أن السيسي كان يشير إلى خطى عبدالناصر فيما يتعلق بمجال الإعلام فقط، حينما قال: أريد إعلام عبدالناصر، في إشارة إلى إعلام الرأي الواحد، أو الصوت الواحد، واعتقال المعارضين أو المناوئين في هذا المجال، وهنا يمكن الإشارة إلى عدة نقاط:

أولاً: الشعب المصري كان ينتظر أن تكون بلاده أول المهنئين للشعب السوري بالحصول على حريته، إلا أن ذلك لم يحدث، بل على العكس تماماً، وجه إعلام النظام، وكتائبه الإلكترونية، هجوماً عنيفاً للنظام الجديد في سوريا، أيضاً الشعب كان ينتظر أن ترسل مصر أول الوفود الرسمية إلى دمشق، إلا أن ذلك لم يحدث، كان ينتظر إبداء حرص أكبر على مستقبل الدولة السورية، التي تقف الآن في مهب الريح، بين تقسيمات عرقية وطائفية تفرض نفسها، وانتهازية إقليمية ودولية واضحة، وصهيونية لا تخفي أطماعها، إلا أن الموقف المصري بدا كما لو كان عاجزاً، أو أن الأمر لا يعنيه، أو أن هناك جهلاً بمجريات التاريخ، ومتطلبات الجغرافيا، ودواعي الأمن القومي.

ثانياً: الشعب المصري، كان ينتظر أيضاً دوراً واضحاً في فلسطين، خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، إلا أن ذلك لم يحدث، وكان الموقف المصري واضحاً، منذ الأيام الأولى للعدوان، حينما اقترح السيسي على الكيان الصهيوني، عزل شعب غزة في صحراء النقب، إلى حين (تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة) على حد قوله، ما يؤكد تخلي مصر عن دورها التاريخي، في هذه القضية، حتى وصل الأمر إلى وجود مئات الشاحنات، المحملة بالمواد الغذائية، على الطرف المصري من الحدود، لا تستطيع إدخالها، رغم كارثة الجوع التي يعيشها الأشقاء الفلسطينيون هناك، ثم السماح لقوات الكيان، باحتلال محور صلاح الدين أو (فلادليفيا)، مخالفة لاتفاقية السلام بين الجانبين.

ثالثاً: الشعب المصري كان ينتظر دوراً حاسما في السودان، الذي يمثل عمقاً استراتيجيا لمصر من كل الوجوه، خصوصاً فيما يتعلق بمجرى النيل، في الوقت الذي تعاني فيه الدولتان من التعنت الإثيوبي في هذا الصدد، أما وقد تركت مصر الحبل على الغارب، لكيانات إقليمية ناشئة، كي تعبث في الشأن السوداني، بما جعل من السودان بقعة توتر وعدم استقرار، يحمل في المستقبل مزيداً من القلاقل، سواء ما يتعلق بالنزاع المتجدد بين البلدين، حول إقليمي حلايب وشلاتين، أو ما يتعلق بمياه النيل، حين تتطلع السودان هي الأخرى إلى بناء مزيد من السدود.

رابعاً: الشعب المصري كان ينتظر موقفاً مناهضاً للعدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، الذي طال العاصمة بيروت وما بعدها، وكان ينتظر موقفاً متوازنا للخلافات الداخلية في ليبيا، بمنأى عن عبث الحاكم العسكري في الشرق، وكان ينتظر دعماً سياسياً، على الأقل للشعب اليمني، في إسناده للشعب الفلسطيني، وكان ينتظر وجوداً أقوى في القارة الافريقية، خصوصاً في دول حوض النيل، التي سبقنا إليها العديد من قوى وكيانات أخرى، إلا أن كل ذلك أيضاً لم يحدث، بعد أن انكفأت مصر على نفسها، ظناً أنها بمنأى عن المؤامرات، التي تعلن عن نفسها بشكل يومي، تحت عنوان، إعادة رسم خريطة المنطقة.

أما عن الوضع الداخلي، فحدث ولا حرج، في وجود عشرات الآلاف داخل السجون، وعشرات آلاف الهاربين للخارج، ومليارات الديون الخارجية، وتريليونات الديون الداخلية، فيما يثير القلق حول المستقبل، الذي بدا واضحاً أن النظام الحاكم في مصر يعي خطورته، من خلال التصريحات الرئاسية الأخيرة، وكان أخطرها ما ذكره الرئيس، من أن الجيش والشرطة لا يكفيان لحماية الدولة، ممن يسميهم «أهل الشر»، وهو ما فسره المراقبون بالاتجاه نحو تشكيل ميليشيات، على غرار الدعم السريع في السودان، تمثلت أخيراً في كيانات قبلية غريبة، وحزبية مريبة، رغم ما يمثله ذلك من خطورة على السلم العام.

السؤال الذي يطرح نفسه بشدة على الشارع المصري، وربما على الشارع العربي: إلى أي مدى يمكن أن تستمر مصر التاريخ، ومصر الجغرافيا، في حالة الغياب هذه، بمنأى عن محيطها العربي والإقليمي، وإلى أي مدى يمكن أن يقبل المواطن بهذا الوضع، الذي يوقن بأنه يمثل خطراً على وطنه على المديين القريب والبعيد، بعد أن يكتشف، حال مواجهة التحديات المؤجلة والمؤكدة، أن الدولة المصرية قد فقدت كل أصدقائها، بل فقدت – وهو الأخطر- الوحدة الوطنية والانتماء للداخل، وهو ما عمدت إليه قوى غامضة على مدى العقد الماضي، واستغلت في تنفيذه قوى نافذة، إعلامية وسياسية، حققت فيه نجاحات لا يمكن إغفالها؟!

وسوم: العدد 1109