حماس والاحتلال الإسرائيلي: سؤال الكسب والخسارة

أمس الأربعاء، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، عن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة من ثلاث مراحل، يبدأ تنفيذه يوم الأحد 19 يناير الجاري، وكشف بشكل إجمالي عن مضمون هذا الاتفاق، والذي يبرز الصورة النهائية لمآل الصراع، ويفتح المجال للنقاش حول جدل المكاسب والخسائر بعد خمسة عشر شهرا من حرب كانت الأعنف في حروب الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.

في الواقع، تتعدد المقاربات لتقييم أثر هذه الحرب، ومن خرج منتصرا فيها، لاسيما وأن الاستراتيجيين، أنتجوا مقولة خاصة في تقييم الحروب غير المتناظرة، تقول بأن معادلة النصر والهزيمة، تتحدد أساسا، بمدى نجاح العدو المتفوق عسكريا في خططه أو فشله فيها، وأن معيار النصر والهزيمة بالنسبة للطرف الأضعف، هو مدى صبره وصموده وإفشاله لأهداف العدو من عدمه.

التحليل الاستراتيجي، الذي أشار إلى بعض عناصره، الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمته بخصوص هذا الاتفاق، يقول بأن إسرائيل نجحت في أن تضعف طرفا قويا في محور المقاومة (حزب الله) وتلجئه إلى اتفاق مذل لوقف الحرب، بما يناقض موقفه الأول الذي أصر فيه على ربط مقاومة حزب الله للاحتلال الإسرائيلي بعدوانه على غزة، ويقوض موقعه السياسي والعسكري داخل لبنان، بحكم أن الاتفاق يحمل الدولة اللبنانية مسؤولية تفكيك أسلحته، واحتكارها وحدها الحق في حمل السلاح في كل التراب اللبناني، بما في ذلك جنوب لبنان. الرئيس الأمريكي، ذكر ضمن مؤشرات الانتصار، هزيمة إيران في سوريا، وانقطاع الحبل السري عن حزب الله، بعد إسقاط النظام السوري، وهو في الواقع، كسب تكتيكي، ليس هناك ما يؤشر على بعده الاستراتيجي، فتراجع التهديد الإيراني لإسرائيل عبر لبنان وسوريا، لا يعني، أن حدود إسرائيل أضحت آمنة مع التحولات الاستراتيجية التي عرفتها سوريا بعد إسقاط نظام بشار الأسد، يؤكد ذلك الاحتلال الإسرائيلي، لا يرى في هذا التحول سوى استبدال تهديد شيعي ترعاه إيران، بتهديد آخر سني ترعاه تركيا، ولذلك سارع إلى شن غارات على المقدرات العسكرية السورية واحتلال أجزاء مهمة من الأراضي السورية.

لكن في مقابل هذا الكسب الاستراتيجي غير المقطوع به، ثمة خسارة استراتيجية كبيرة بالنسبة لإسرائيل في المنطقة، فهذه الحرب أوقفت أو جمدت بشكل كبير مسارا من التطبيع بدأ مع اتفاقات إبراهام، وخلقت أجواء كثيفة من الشك في نوايا الاحتلال الإسرائيلي وخلفياته، ليس فقط بالنسبة للدول العربية التي كانت مبرمجة في استكمال حلقات التطبيع، وإنما أيضا بالنسبة للدول التي انخرطت مبكرا في التطبيع، فمصر والأردن، لن تحذفا من الذاكرة التي كرستها الحرب على غزة، وجود نزوع استراتيجي عميق لدى قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين والأمنيين بأن حل معضلة غزة والضفة تكمن في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن.

والخسارة الاستراتيجية الكبرى التي لا يمكن أن يشك فيها أحد بالنسبة إلى إسرائيل، هي العزلة الدولية التي فرضتها عليها الحرب، إذ لم يحدث في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي أن أصدرت الجنائية الدولية حكما يأمر باعتقال رمز القيادتين السياسية (بنيامين نتنياهو) والعسكرية (يوآف غالانت).

خسارة الفلسطينيين الاستراتيجية كبيرة بلا شك، فقد تحولت غزة إلى ركام كبير، وخسرت المقاومة قيادات سياسية وعسكرية من الوزن الثقيل، وتكسر محور الإسناد في جنوب لبنان، وفقد الشعب الفلسطيني في غزة قوة ديمغرافية كبيرة، بسبب استشهاد حوالي 50 ألف فلسطيني، أغلبهم من النساء والأطفال، بما يعني التأثير على نسبة الخصوبة، التي تعتبر إسرائيل ارتفاعها في قطاع غزة قنبلة نووية في مستقبل صراعها مع الفلسطينيين.

في المحصلة، لقد خسرت إسرائيل كثيرا في هذه الحرب: خسرت سمعتها، وجوارها، وفشلت في أن تنهي التهديد الأمني الذي تشكله حماس

في الواقع، وعلى الرغم من إشادة حماس في بيانها الذي أصدرته عقب الإعلان عن الاتفاق بمحاور الإسناد، إلا أنها لم تكن متضررة من إسقاط بشار الأسد، فرؤيتها الاستراتيجية كانت دائما قريبة من المحور التركي السني، وأن تنسيقها مع المحور الإيراني، لم يكن إلا بعد قرار محاور المقاومة التي تدور في فلك إيران إسناد المقاومة في قطاع غزة.

ما يؤكد ذلك أن حماس أصدرت بيانا عقب إسقاط نظام بشار الأسد تبارك للشعب السوري الشقيق نجاحه في تحقيق تطلعاته نحو الحرية والعدالة، راجية أن تواصل دمشق دورها التاريخي والمحوري في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته لتحقيق أهداف قضيته العادلة، هذا في الوقت الذي اعتبرت حركة الجهاد الإسلامي الحليفة لإيران ما حدث من تحول في سوريا شأنا داخليا، معربة عن أملها في أن تبقى دمشق مساندة وداعمة للقضية الفلسطينية.

في المستوى السياسي والعسكري، تتحدد معادلة الكسب والخسارة بالقياس إلى الأهداف المعلنة من الحرب، وفي هذا السياق، يمكن القول بأن الفشل الكلي كان في جانب الاحتلال الإسرائيلي، لأنه حسب قياداته ووسائل إعلامه، لم ينجح في تقويض قدرات حماس العسكرية، ولم يستطع أن يفرض واقعا لما بعد حرب غزة، تغيب فيه حماس عن المشهد، فوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وهو يعلق على الإعلان عن الاتفاق، صرح بشكل واضح بأنه يستحيل هزيمة حماس عسكريا، وأنها عوضت كل مقاتليها، وجددت قدراتها العسكرية، واستدل في هذا السياق بالأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن الاتفاق، وأشار إلى أن إسرائيل تكبدت فيها خسائر كبيرة في شكال غزة.

مضمون الاتفاق يؤكد فشل الاحتلال الإسرائيلي في فرض أهدافه، إذ يلزمه الاتفاق بالانسحاب من كل غزة، بما في ذلك محورا نتساريم وفيلادلفيا، ومنطقة الشمال التي كان يخطط للبقاء فيها وتهجير أبنائها منها، وتظهر مستحقات المرحلة الأولى -من الاتفاق- التي ستستمر لمدة 42 يوما، أن إسرائيل ملزمة بإطلاق سراح نحو ألفي أسير فلسطيني، و 250 من المحكومين بالسجن المؤبد، ونحو ألف من المعتقلين بعد 7 أكتوبر 2023، في انتظار ما يمكن أن يؤول إليه التفاوض في المرحلتين الثانية والثالثة، والتي تضغط فيها حماس لتحقيق كل أهدافها بخصوص تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين.

خسارة حماس، كانت جد محدودة في الاتفاق، فقد قبلت فكرة الانسحاب التدريجي بعد أن كانت تشترط الانسحاب الكلي والفوري، ثم قبلت فكرة صفقة من ثلاث مراحل، لا يوجد تفصيل دقيق إلا في الأولى، وقبلت أن يبقى الاحتلال على شريط حدود غزة بحوالي 700 متر، بعد أن كان الاحتلال يخطط لإنشاء منطقة عازلة فيها.

على المستوى الإعماري والإنساني، نتائج الاتفاق، تؤكد نجاح حماس في فرض شروطها، إذ التزمت إسرائيل أمام الوسطاء بالسماح بدخول المساعدات بشكل كثيف (600 شاحنة يوميا) وتوزيعها الآمن والفعال على نطاق واسع في جميع أنحاء قطاع غزة وإعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الصحية والمخابز وإدخال مستلزمات الدفاع المدني والوقود وإدخال مستلزمات إيواء النازحين الذين فقدوا بيوتهم بسبب الحرب، هذا مع السماح بالجرحى للعلاج خارج قطاع غزة.

في المحصلة، لقد خسرت إسرائيل كثيرا في هذه الحرب: خسرت سمعتها، وجوارها، وفشلت في أن تنهي التهديد الأمني الذي تشكله حماس، وخسرت ما هو أهم من ذلك كله، هو رأسمال الثقة الذي كانت واشنطن تأمل دائما في استثماره لتحقيق هدف الاندماج الإقليمي لإسرائيل، ولذلك، يمكن القول بأن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض تدرك، أن أمامها مهام كثيرة، لاستئناف رؤيتها السابقة القائمة على تحقيق هذا الهدف، وأنه إذا كانت البداية، هي إنهاء الحرب في غزة، فمما لا شك فيه، أن شرط استعادة فعالية هذه الرؤية، يمر بالضرورة من خلال التضحية بالقيادة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) ومسح كل الأضرار التي تسببت فيها، في أمل استعادة المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، وعدم ترك فراغ ما بعد تراجع النفوذ الإيراني، ومنع سيناريو استبدال المحور الشيعي، بالمحور السني.

وسوم: العدد 1112