تهافت الليبراليين: الدفاع عن حرية التعبير… أحياناً

«لا أتفق مع ما تقوله، لكنّني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله»، تنسب هذه المقولة للفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير (1694-1778). لكنها لم تنشر في حياته، ولا تعود له، بل ظهرت أول مرة في كتاب نشرته إيفيلين بياتريس هال عام 1906عن سيرة حياة فولتير ولخّصت بهذه الجملة البليغة أفكاره ومواقفه إزاء حرية التعبير والمعتقد.

قبل أربعة أعوام أزالت بلدية باريس تمثال الفيلسوف من قاعدته بعد أسابيع من قيام المتظاهرين برشه بالصبغ الأحمر، تنديداً بممارساته ومقولاته العنصرية. كان ذلك ضمن موجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت بعد انتشار حركة حياة السود مهمة، وعمّت عدداً من البلدان خارج حدود الولايات المتحدة إثر مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد. وصاحبتها آنذاك مراجعة، لم تكن الأولى، وجردة نقدية للأساطير المؤسِّسة والتاريخ الرسمي المتورط بالعبودية والعنصرية والاستعمار. وبدأت حملات ومناشدات لإزالة التماثيل والنصب التي تحتفي وتخلّد شخصيّات تورطت بتجارة العبيد، واقتصادها السياسي وبالاستعمار.

كانت بيروت في السبعينيات ملاذاً للكتاب والمثقفين المتمردين، الذين طاردتهم أنظمة بلادهم وأجهزتها القمعية وهددت حياتهم. أما اليوم فهي محطّة توقيف، لترحيل وتسليم متمرد وتسفيره!

ولم يكن فولتير استثناء، مقارنة بآخرين من جهابذة عصر التنوير في أفكاره العنصرية، لكنّه قرن الفكر بالممارسة، لا في ما يخص حرية التعبير، بل العبودية! فبالإضافة إلى إيمانه بالتفوق العرقي والذهني للبيض، وبتراتبية يتربع البيض على قمتها ويقبع السود في قعرها، كان يملك أسهماً في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي جنت أرباحها من استغلال المستعمرات والعبودية فيها، وفي شركات شحن بحري تختطف البشر من سواحل إفريقيا وتنقلهم عبر المحيط ليباعوا في سوق النخاسة في أمريكا الجنوبية.

لا تزعج هذه الحقائق كثيراً أولئك الليبراليين، الذين ما زالوا يعتبرون فولتير فيلسوف التسامح والتنوير والدفاع المستميت عن حرية الرأي. بعد مذبحة «شارلي إيبدو»، في 2015، طبعت دار نشر غاليمار 10 آلاف نسخة من رسالته عن التسامح.

هناك الكثير من الليبراليين العرب الذين يمكن وضعهم في خانة الفولتيريين. ويكثر هؤلاء من الحديث والكتابة عن حرية التعبير والفكر والرأي. ويذكروننا بأن هذه كلها مقدسة ولا يجوز المساس بها البتّة. ويهيبون بنا أن نهب للدفاع عنها، كلما تعدّت سلطة سياسية أو دينية ما على مواطن أو مواطنة، مارسا حقهما في التعبير عن الرأي. لكنهم التزموا الصمت والخرس مؤخراً حين اعتقلت السلطات اللبنانية في بيروت الشاعر عبد الرحمن يوسف القرضاوي، بناء على طلب التوقيف المؤقت الصادر بحقه من الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، والنيابة العامة الاتحادية الإماراتية «لارتكابه أعمالاً من شأنها إثارة وتكدير الأمن العام»، وهذه الأعمال الخطيرة هي كلمة سجّلها وبثها على وسائل التواصل من دمشق أثناء زيارته لها بعد سقوط نظام الأسد، هجا فيها الأنظمة المتخاذلة في زمن الإبادة. أما من كلمة تعبر عن التضامن وتشجب هذا الظلم، والتعدي على حرية شاعر (بغض النظر عن رأي المرء بشعره وبتوجهاته السياسية)؟ أم أن كونه نجل يوسف القرضاوي يعني أن مواقف وتاريخ وتوجهات والده تحرمه تلقائياً من حرية التعبير والرأي، ومن تضامن الشعراء؟ لو كان الشاعر محسوباً على الليبراليين أنفسهم في توجهاته وميوله فهل سيكون حظه في الفوز بتعاطفهم وتضامنهم أوفر؟ ربما، لكني أشك في ذلك. فموقف كهذا سيغضب المسؤولين عن القطاع الثقافي في أنظمة التنوير والتسامح، التي ترعى «النهضة» الثقافية، وسيعني الحرمان من الدعوات إلى المهرجانات والمؤتمرات والإبعاد عن قوائم الجوائز. أما الصمت والتغاضي فهو استثمار مربح.

كانت بيروت في السبعينيات ملاذاً للكتاب والمثقفين المتمردين، الذين طاردتهم أنظمة بلادهم وأجهزتها القمعية وهددت حياتهم. أما اليوم فهي محطّة توقيف، لترحيل وتسليم متمرد وتسفيره ليقبع في سجون واحد من أنظمة التنوير والتسامح، ما دام مردود الصفقة مناسباً. هل سيزور مندوب من وزارة السعادة أو وزارة التسامح السجين للاطمئنان عليه؟

أطلقوا سراحه!

وسوم: العدد 1112