التطبيع الاقتصادي القسري جريمة ضد الإنسانية
لم يتوانى الاحتلال منذ حربه الأخيرة على قطاع غزة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة في السابع من أكتوبر من عام ألفين وثلاثة وعشرون ميلاديا، من ممارسة أبشع الجرائم والمجازر بحق الشعب الفلسطيني بقطاع غزة، من خلال استراتيجيات العقاب الجماعي وانتهاك كافة قواعد القانون الإنساني دون استثناء، فمن استخدام القوة العسكرية المفرطة والتي اشتملت ضمن عتادها على أسلحة محرمة دوليا، إلى سياسات وممارسات غير مسلحة مثل التهجير والنزوح القسري للسكان، وتدمير المرافق الصحية والتعليمية والخدماتية الأخرى، وكذلك الحصار وإغلاق المعابر أمام البضائع والمساعدات والمستلزمات الطبية والصحية، وصولا لسياسة التجويع والقتل البطيء نتيجة عدم توفر الخدمة الصحية اللازمة لعشرت الآلاف من المرضى والمصابين، ولا يلبث الاحتلال من التخفيف من سياساته العقابية السابقة، حتى يبدأ بسياسات عقابية أخرى أبرزها "التطبيع الاقتصادي القسري".
ويشير اصطلاح التطبيع القسري في السياق الاجتماعي والسياسي إلى عملية فرض ظروف ما على مجموعة من الناس لا يرغبون بها واجبارهم بشكل قهري على قبولها، مثل اجبار دول وكيانات سياسية ما على عقد اتفاقيات وفرض علاقات في غير صالح شعوبها نتيجة لغطرسة قوى أكبر لديها مصالح متناقضة مع الدول الأضعف منها. أما في السياق الاقتصادي فإن التطبيع القسري يدل على إقامة علاقات اقتصادية غير عادلة بين طرفين بحيث يستفيد منها الطرف الأقوى القادر على فرض تلك العلاقات بينما لا تكون في صالح الطرف الآخر ولا يرغب بها، نتيجة لضغوط سياسية وعسكرية كما في حالة الحروب، وهذا تحديدا ما حدث وما زال في الحالة الفلسطينية بقطاع غزة خلال حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد ما يزيد عن مليوني من السكان المدنيين العزل، ولم تنتهي بعد.
فمنذ اليوم الأول للحرب أعلن الاحتلال عن إطباق حصاره على قطاع غزة المحاصر فعليا منذ العقدين تقريبا، فاصبحت البضائع تشح تدريجيا من الأسواق، حتى باتت بعد أقل من شهرين على انطلاق الحرب خاوية إلا من السلع التموينية التي يتم توزيعها على السكان من قبل "الأونروا" وبعض المنظمات الدولية الأخرى، التي تصل بدورها ليد التاجر بطرق مختلفة منها ما هو غير قانوني، ليضاعف سعرها الحقيقي أكثر من مرة –قد تصل عشرين ضعف سعرها- فمثلا بلغ سعر كيس الدقيق 25 ك 300 $ بعد أن كان سعره بالسابق لا يتجاوز العشرة دولارات فقط.
في أيار من العام الماضي سمحت قوات الاحتلال للمرة الأولى بدخول بعض السلع التجارية المصرية عبر منفذ كرم أبو سالم التجاري، حيث تدفقت البضائع بشكل متقطع ومحدود إلى الأسواق جنوب وادي غزة دون شماله، فتوفرت بعض أنواع اللحوم المجمدة والفواكه والخضار بالإضافة للسلع التي تتوفر من خلال المساعدات، لكن هذا الأمر لم يبقى طويلا فسرعان ما منعت قوات الاحتلال دخول البضائع المصرية، وعوضا عن ذلك سمحت بإدخال سلع ومنتجات "إسرائيلية" محددة، معلنة بذلك بدء العمل بسياسة التطبيع الاقتصادي القسري والقهري وفرضه على السكان الذين عانوا لأشهر عديدة من سياسات الحصار والتجويع.
عمد الاحتلال من خلال هذه السياسة العقابية إلى عدة أهداف منها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، تضمن له في نهاية المطاف تعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية على قطاع غزة، كجزء من استراتيجية طويلة الأمد يسعى الاحتلال من خلالها قطع الطريق على أي إمكانية لاستقلال الاقتصاد الفلسطيني لاحقا، من ضمن هذه الأهداف ما يلي:
- دمج الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد كيان الاحتلال:
من خلال توسيع دائرة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية على اقتصاد الاحتلال، فكلما زاد اعتماد السوق المحلي الفلسطيني على العلاقة التجارية مع الاحتلال، يجعل من الصعب على الفلسطينيين مقاطعة بضائع الاحتلال ويقوض فاعلية حملات المقاطعة الاقتصادية المحلية للمنتجات والسلع "الإسرائيلية".
- التحكم والسيطرة على كميات وأنواع البضائع الواردة للقطاع:
دائما ما كانت تتحجج دولة الاحتلال بأن منعها لإدخال البضائع والمواد الأساسية إنما تهدف من ورائه منع السلطة المحلية بالقطاع وكذلك المقاومة الفلسطينية التحكم بعائدات تلك الواردات، وليس بهدف التجويع والضغط على السكان، لذا فإنها ترى بتلك السياسة ضمانة أكبر لعدم حدوث ذلك، وفي ذات الوقت فإنها تتحكم بالكميات الواردة للقطاع، وكذلك الأصناف التي تريد إدخالها والأخرى التي تمنعها ثم التحويل بينهما فتسمح بإدخال ما منعت وتمنع ما سمحت به سابقا حتى لا تتوفر جميع السلع بالقدر الكافي، وبذلك تظهر امام الرأي العام والجهات الدولية المختلفة وكأنها لا تمارس ضد السكان الفلسطينيين التجويع والإبادة.
- الإيهام النفسي:
حيث يسعى الاحتلال من خلال التطبيع الاقتصادي القسري لإيصال بعض الرسائل السياسية للفلسطينيين، مفادها أن لا جدوى للمقاومة الفلسطينية في تغيير الواقع الاقتصادي، وبأنه وفي كل الظروف قادر على فرض هيمنته وفرض التبعية الاقتصادية على الفلسطينيين.
- تقويض دعوات المقاطعة العالمية للاحتلال:
فبسبب الحرب وما رافقها من ممارسات بشعة لقوات الاحتلال ضد الفلسطينيين، تنامت حركات المقاطعة العالمية والعربية والمناهضة للاحتلال، بهدف التضامن مع الشعب الفلسطيني، والضغط على الاحتلال وعزله وكذلك مناهضة الكيانات التجارية العالمية التي تدعمه، لذلك رأى الاحتلال من خلال سياسة التطبيع الاقتصادي القسري الذي يفرضها على القطاع، وإظهار الفلسطينيين الغزيين على وجه التحديد على أنهم يطبعون بإرادتهم اقتصاديا مع الاحتلال، أداة لتقليل من فاعلية تلك الحركات اقتصاديا وسياسيا على كيان الاحتلال وشركائه، وصعوبة تحفيز الجمهور على المقاطعة الاقتصادية.
لا يقتصر تأثير التطبيع الاقتصادي القسري على الأوضاع الاقتصادية فقط، بل يتجاوز ذلك للضرب عميقا في الجوانب النفسية والاجتماعية للفلسطينيين، الذين يضطرون لتقبل مثل تلك السياسات والأوضاع القهرية غير العادلة والتي لا تتماشى مع أهدافهم وتطلعاتهم بالحرية والاستقلال، مما يزيد من شعورهم بالإحباط والعجز والتبعية الاقتصادية للكيان الاحتلالي الغاشم الذي يمارس ضدهم أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
وفق ما سبق، فإن التطبيع الاقتصادي القسري سياسة إجرامية ترقى لمستوى جرائم الحرب، تتكامل وتتداخل بشكل منهجي مع سياسات الحصار والمنع والتجويع، ضمن استراتيجية الاحتلال في محاولته لتصفية القضية الفلسطينية، وتقويض كل الفرص امام الشعب الفلسطيني للحياة بكرامة وحرية على أرضه وتحت سيادة دولته المستقلة.
وسوم: العدد 1119