امتحان الإسلاميين في سوريّا

لم يسبق لدولة عربية أن وصل فيها إلى سدّة الحكم تنظيمٌ إسلامي، باستثناء حركة الإخوان المسلمين التي وصل رئيسها المرحوم محمد مرسي من خلال الانتخابات في مصر، حكم خلالها لفترة ثلاثة عشر شهراً فقط، ثم جرى الانقلاب على الرئيس وشيطنة الحركة وإخراجها عن القانون وزجُّ عشرات الآلاف من أبنائها في السّجون.

مرّة أخرى يمرُّ أحد تيارات الإسلام السياسي في امتحان صعب، في بلد مركزي عربيّاً وإقليمياً، وله أهميته الدولية. لم يكن وصول هذا التّيار سهلا، فقد سقط في الطريق ملايين الضحايا من السّوريين، بين قتيل وجريح ومتشرّد، قبل أن يولي رئيس النّظام الأدبار ويهرب إلى روسيا.

يمرُّ التيار الإسلامي في طبعته السُّورية الحالية، بامتحان ستكون له إسقاطاته على المنطقة العربية كلِّها، فهل سينجح هذا التيار في إدارة البلد؟ وهل سيُخرجُ النّاس من حالة اليأس الطويلة، إلى فسحة من الأمل؟ هل سينجح في إدارة البلد ذي التعدّدية الكبيرة، وهل ستكون الفرص متساوية لجميع الناس! بلا شك أنَّ هناك من يسعى، وسوف يسعى إلى إفشال هذا التّيار، وهؤلاء كثيرون، من داخل سوريا وخارجها. هناك تخوّفات مشروعة لدى أبناء مذاهب وطوائف معيّنة، وهناك أصحاب منطلقات فكريّة لن يروا في حكم الإسلاميين إلا الشّر مهما حاول هذا النظام أن يبدي مرونةً. هناك عداءٌ متأصّل لدى بعض التيارات السّياسية مثل التيارات القومية والاشتراكية والليبرالية واليسارية للتّيارات الإسلامية، مثلما أنه متأصّل لدى التيارات الإسلامية ضد هذه القوى، ويرى فيها خصوماً أيديولوجيين يصعب ترويضهم ولا يؤتمن جانبهم. هنالك من لن يهدأ له بال ما لم تشتعل الحرب الأهلية في سوريا من جديد، ويروّجون ويبشّرون لهذه الحرب، ونستطيع أن نرى ذلك من خلال التجييش الطائفي، وإذكاء الصراعات والتخويف من المقبل.

نجاح التجربة السورية قد يكون نموذجاً للتقليد، بسبب تعطش الشّعوب العربية للعدالة ودولة جميع المواطنين، وهذا ما يخشاه كثيرٌ من الأنظمة التي تعمل ألف حساب للتيارات الإسلامية

هنالك فلول النّظام البائد التي لن تسلّم بهزيمتها، ومحاولة الانقلاب الأخيرة تشهدُ على أنّ الفلول ما زالت قوّة قادرة على التّخريب، وعلى إشعال نيران الفتنة، وليس لديهم ما يردعهم، ومستعدون للتضحية بعشرات آلاف أخرى من السوريين، إذا ما كان هذا يضمن لهم العودة إلى السُّلطة، وهم مستعدون لأية تحالفات ممكنة مع أي جهة كانت. فلول النّظام البائد من القيادات العسكرية الذين يتحملون مسؤولية عما كان يجري من انتهاكات ومجازر بحق السّوريين خلال سنوات الحرب الأهلية، يدركون أنّه لا سبيل لهم في النجاة من عقوبة قاسية قد تصل إلى الإعدام، إلا من خلال اختلاق الفوضى واستعادة زمام المبادرة، وسوف يحاول هؤلاء جرّ قوات النّظام الجديد إلى ردود أفعال قاسية، كي يثبتوا أنّه نظام عاجز عن إدارة البلد، وعن حماية المدنيين في وقت الأزمات، وقد يبادر هؤلاء لعمليات فظيعة بحق المدنيين وإلصاقها بالنظام الجديد. يحاول هؤلاء القادة الهاربون من العدالة ربط مصير الأبرياء من أبناء طائفتهم بمصيرهم هم، وإظهار أنفسهم كمنقذين لأبناء الطائفة، وبأنّ السُّلطة الجديدة تضمر شرّاً لجميع العلويين، ولا تميّز بهذا بين مدنيٍّ ومقاتل، حتى إنّها مستعدة لقتل وإذلال أولئك الذين رحّبوا بها في بلداتهم من أبناء الطائفة العلوية. من خلال الفوضى تسعى الفلول للحصول على شرعية ودعم عربي ودولي، معلن أو غير معلن لإفشال السُّلطة الجديدة. سوف يمارس هؤلاء أعمال التّخريب قدر الممكن، بالاعتداء على مؤسسات الدولة، والممتلكات العامة والخاصة، وتنفيذ اغتيالات لإثارة البلبلة وعدم الاستقرار.

دولة الاحتلال الإسرائيلي من جانبها تتدخّل في محاولة لرسم الخريطة السّورية الجديدة، وتدفع باتجاه الحرب الأهلية والانقسامات، لأنّ تقسيم أي بلد عربي يعود عليها بالفائدة، وتستطيع تجييره لصالحها، والعكس صحيح، فوحدة أي بلد عربي واستقراره تزعجها، خصوصا إذا كان بلداً تحتلُ أجزاءً منه، ولها أطماع في أجزاء أخرى. إسرائيل تصف السُّلطات السّورية الجديدة كمجموعة إرهابيين، بهدف ابتزازها، ودفعها إلى تغيير موقفها ولهجتها تجاه الاحتلال، والسّير في ركب التطبيع، مقابل مساعدتها في رفع العقوبات الأمريكية والغربية عنها، وشرعنتها. وأهم من جميع أعداء الإسلاميين، يتعلّق نجاح التجربة بهم هم أنفسهم، بقيادتهم التي يقف على رأسها أحمد الشّرع. هل تستطيع القيادة الجديدة أن تطبّق الدستور الجديد المقترح، وأن تفي بالبنود، التي جاءت فيه كما نُشر في المُسوّدة، خصوصا في موضوع حرية التعبير والحرّية الشّخصية وحرية العبادة! هل ينجحون بالفعل أن يُشعروا جميع السُّوريين بأنّهم يعيشون في ظلّ قانون واحد يطبّق على الجميع من غير تفرقة! هل سيمنحون الحريّات الشّخصية مساحة كافية ليشعر الناس فيها بأنّهم تحرّروا بالفعل من دولة المخابرات المُزمنة، وأنَّ المواطن قادرٌ على انتقاد السُّلطة وأن يدلي برأيه المعارض والنّاقد وأن يبوح بأفكاره، من غير التعرّض إلى المساءلة أو المسّ بمصدر معيشته! هل سيُشعرُ السُّوريون كلُّهم بأنهم تحرّروا من أحكام الطوارئ التي لاحقتهم جيلا بعد جيل! وهل ستعود خيرات بلدهم عليهم ويحظون بحياةٍ كريمةٍ بعد سنوات، بل عقود عجاف! هل ستنجح في أن يكون القرار السّوري متحرِّرا من التأثيرات أو التدخّلات الأجنبية، كما يليق بالدولة السُّورية.

نجاح التجربة قد يكون نموذجاً للتقليد، بسبب تعطش الشّعوب العربية إلى العدالة ودولة جميع المواطنين، وهذا ما يخشاه كثيرٌ من الأنظمة العربية التي تعمل ألف حساب للتيارات الإسلامية، لقدرتها على التنظيم والانتشار لأسباب عقائدية وتاريخية وإمكانيات تنظيمية، ورغبة في تجربة مختلفة عن تجارب الأنظمة، التي تعيد إنتاج نفسها، تحت مسميات مختلفة ولكنها واحدة في جوهرها القمعي. تعرّضت التيارات الإسلامية إلى هجمات مستمرّة وقاسية، وتصعب إزالة ما علق بها من تشويهات وشيطنات، بعضها تتحمّل هي مسؤوليته، بسبب ممارسات بعض فصائلها، كذلك فإنّ الكثير منها فبركات، والذكاء الاصطناعي تطوّر وقادر على ما هو أخطر. أعداء هذا التيار كثيرون من خارجه، وكذلك وفي أحيان كثيرة، بل والأخطر يأتي من بين صفوفه. أحد أهم البنود التي جاءت في مسودة الدستور هو، استقلال القضاء، واعتباره هيئة فوق جميع الهيئات وهذه قضيّة جوهرية، في دولة قانون. الدستور المقترح كما نُشرت مسوّدته، يعتبر جيداً جداً في ظروف سوريا وما نجم عنها بعد الحرب الأهلية، ولكن يبقى التطبيق هو الأهم، فهنالك دولٌ تتغنّى بالدّيمقراطية في دساتيرها، ولكنّها فاشلة في التطبيق، وهناك من يعطّلون الدستور في أقرب فرصة. حتى في دول عريقة في الديمقراطية، لا يطبّق القانون على جميع الناس بصورة متساوية، خصوصاً في القضايا السّياسية، مثلا في تعامل الشّرطة الألمانية مع مناصري فلسطين، أو في تعامل السُّلطات الأمريكية مع الطالب العربي محمود خليل من جامعة كولومبيا.

هنالك تساؤل عن دور الفرد في التاريخ وما هي قدرته على التأثير في مساره، في الحالة السّورية الراهنة بمقدور القائد الحالي أحمد الشّرع، أن يغيّر مسار تاريخ المنطقة، وأن يدحض ما بنته الدعاية والتحريض ضد الإسلاميين على مدار عقود، إذا ما حقّق أحلام السوريين كلهم في الوحدة والكرامة والعدل، فيصبح نموذجاً يحتذى، ولكنه إذا فشل بسبب داخلي من خلال إساءة إدارة السّلطة، ممّن هم حوله، أو من خلال تقوقع فكري أو طائفي، فستكون هذه خيبة كبيرة، وربّما آخر محاولة للتيارات الإسلامية في الوصول إلى السّلطة والقيادة.

وسوم: العدد 1120