محاولة عن مفهوم العدالة الانتقالية وتحدياتها وأولوياتها في سورية
مهمة الإعلام القاصد في حياة الشعوب، نشر الوعي، وتوسيع دائرته، وتقديم الآليات العملية، لمواجهة التحديات، وتجاوز الأزمات..
لقد ظل عنوان "التضليل الإعلامي" موضوعا ثريا يكتب تحته الناصحون على مدى قرن من الزمان، قبل أن يكون لشعوب هذه الأمة فضائياتهم التي أخذت على عاتقها، التقليل من جرعة التمرير والترببع والتدوير..
ومع الشكر المحفوظ لدولة قطر، ثم لقناة الجزيرة، فإن حلقة "موازين" التي بثت أمسِ عن العدالة الانتقالية في سورية، فاتها النصح، كما فاتتها المصداقية والعلمية الواقعية..
ولعلي أستطيع في هذه المحاولة أن أخوض فيما ينتظره الشعب السوري تحت لافتة "العدالة الانتقالية.."
وأقول ابتداء إن مفهوم العدالة في كل ظلم يقع على الناس إنما يتم بعنصرين: جبر الضرر الذي وقع على المظلوم، ومساءلة الظالم، ومحاسبته..
ومهما امتدت مساحة الظلم، أو تعمق، أو تطاول، فإن مفهوم التعويض على المظلوم، يبقى ركنا أساسيا من مفهوم العدالة الانتقالية.والتعويض لا يكون ماديا فقط، ولا يكون في شخص المنتهك فقط، وجنايات العدوان على حقوق الإنسان لا تسقط كما يرددون بالتقادم..
العدالة الانتقالية لا تكون بتبويس الشوارب. والعدالة الانتقالية لا تكون باعتبار الظالم عجلا هندوسيا. يجب على المظلوم أن يظل يتبارك بمخرجاته ومفرزاته…
وكذا فالعدالة الانتقالية لا يمكن أن تكون وعدا طوباويا..ولا يمكن أن يُغطى بمادة مقننة في إعلان دستوري!!..
سيروا معي الهوينى في هذه السياق..
المعتقلات والمعتقلون الذين تم الإفراج عنهم منذ 8/ 12/ 2024، على أيدي هذه الثلة من الشباب السوري الحر النبيل..
خرجوا من سجونهم مدنفين نفسيا وصحيا وماديا..
تحكي واحدة على الهواء نقلا عن زميلة لها سجينة، في هذه الواقعة بالذات ومن أراد العنوان ربما أدله عليه:
تشكو الزميلة إلى زميلتها، بعد خروجها من السجن بأسبوعين فتقول: الزوج طلقني، والأب والشقيق قالا: لا نرينّ وجهك..
مثل هذه الشكوى ما زلت أسمعها- أنا زهير- منذ أكثر من اثني عشر عاما.
شكت لي أخرى في 2013 وكانت مقيمة في عينتاب، وقالت: الزوج طلقني، وحرمني من رؤية أولادي الذين ظلوا أملي في الدنيا، وقال هو يجاهد ليجعلهم ينسوني، والأسرة بكل من فيها تبرأت مني..
أظنكم تقرون معي أن تحقيق العدالة الانتقالية لهذه الإنسان لا يكون بمادة في الإعلان الدستور، ولا بقولنا غدا…
العدالة الانتقالية بالنسبة لهؤلاء ومع اعتذاري لكل الأكاديميين والحقوقيين، ودارسي القانون الدولي، تكون بمبادرة سريعة بتأمين السكن لهذه المنتهكة، أستخدم لفظ السكن بآفاقه وليس بدلالته المبتسرة. السكن، والكفاية، والطبابة النفسية التي تعينها ومثيلاتها وهن في فضائنا أكثر من أن أقول عنهن كثيرات، على تجاوز المحن، واستعادت الكرامة التي يزعم الأب الجاهل والشقيق الخامل أنها قد لوثت!!
العدالة الانتقالية بالنسبة لهؤلاء، وما زلت ألهج بهذا منذ 2012 وأن يصدر مجلس الفتوى، بيانا يقول عنهن: إنهن الأطهر والأعز والأشرف…
ثم كيف نؤمن العدالة الانتقالية لرجل سوي أخرجناه من سجنه مدنفا معطوبا كسيرا فخرج إلى ذل وحاجة وفقر وانكسار، وربما كانت سياط الانكسار المعنوي أشد على المرء، من حبال الشبح والتعليق.. هل العدالة الانتقالية لهـؤلاء أن نقول لهم أسسنا لكم مادتين في الإعلان الدستوري!!
على من يضحك هؤلاء؟؟
هل العدالة الانتقالية بالنسبة لشهيد ثار لكي نفرح نحن الذين بقينا بهذا الانتصار، أن يظل طفله ابن السابعة أو العاشرة يطر حافيا في الشوارع يجمع نفايات المعادن والبلاستيك، ينشأ أميا حافيا شبه عار ونحن نحدثه عن مادتين في الإعلان الدستوري..؟؟
شكا إلي أخ كريم، ومجاهد قديم، من خريجي سجن تدمر، دخل سجن تدمر يافعا وخرج منه كهلا…وهو قد يقرأ كلماتي هذه: قال تخرج عندي شابان في الثانوية العامة، وبدرجات علمية تقترب من الكمال، فألحقت أحدهما عاملا في مطعم، والآخر عاملا لعله قال عند بقال!! ويظل يقول لي: هي لله.. هي لله..
ولو أردت أن أستمر في الهلهلة لصرت مثل المهلهل الذي قالوا إنه أول من هلهل الشعر أي أطاله..
لا شك أن الجرح السوري بئر عميق ومظلم!!
وأنا لا أشك أن الثغرة أكبر من الطاقة، ولكنني أؤكد أيضا أن هناك حالات إسعافية، يجب أن يبادر إليها كل المجتمع، فما أكتبه ليس تثريبا على الحكومة، وإن كانت هي محل المبادرات المدروسة، وما لا يدرك كله، لا يترك جله..
ثمة عراقيل كثيرة تقف في وجه العدالة الانتقالية في سورية، ونحن هنا بحاجة إلى أفكار المبدعين لتجاوزها..
العائق الأول: اتساع دائرة الظلم والجناية مساحة وعمقا وارتفاعا، وامتدادها على مدى ستة عقود..
ثانيا- عجز الذين وقعت عليهم الجناية عن إثبات مظلوميتهم على طريقة القاضي الذي لا يقبل دعوى إلا أن تثبت له من؟؟ وأين؟؟ ومتى؟؟ وكيف؟؟
ثالثا كون العدالة الانتقالية مطلب. فإنه اليوم يقع في عنق مجرم فار ومحمي، ثم قائم هو بحد ذاته ضحية لذلك القاتل المتسلسل بلا حدود..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: ستجدون بعدي أثرة.. وموعدي معكم على الحوض..
وحسبنا الله ونعم الوكيل
وسوم: العدد 1120