رسالة إلى من يهمه الأمر
ناديا مظفر سلطان
من يلم في علم السياسة ، يعرف أن حل القضايا السياسية يتناسب عكسا مع عدد العاملين فيها ، بمعنى أنه كلما ازداد عدد المشاركين على مسرح الحدث ، كلما تأخر حل القضية ،والعكس صحيح .
وفي المثل الشعبي إذا ازداد عدد الطهاة ، احترقت الطبخة .
وعلى مسرح الحدث السوري ولدى انبعاث شرارة الثورة قبل ثلاثين شهرا ، لم يكن هنالك إلا فريقين ، الثوار وأنصار النظام . أما اليوم فقد ازدحمت المنصة حتى لم يعد منا من يستطيع التمييز بين الخبيث و الطيب ، بين الخائن و المخلص ، بين العامل للثورة ، وبين العامل عليها ، بين بائع للدنيا وزينتها ، وبين مشتر لها .
وفي النهاية إنه اختيار المرء المطلق ، لدوره على مسرح الحياة القصيرة الفانية ...حتى " توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون"
وإذ حض القرآن على العمل "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون....إلا أنه أورد مصطلحا متلازما مع العمل وهو "حبط العمل " أو بطلانه
والعاملين اليوم في الساحة السورية تكاثروا وتوالدوا وتزايدوا في متوالية حسابية تكاد لا تحصيها أحدث التقنيات .
والقرآن كتاب "ما فرط في شيء " ، وقد أخبرنا عن أشكال من فرق العاملين ممن ضل سعيهم فكانت أعمالهم كسراب يحسبه الظمآن ماء .
فهناك فريق أنصار فرعون الذي علوا في الأرض واستكبروا استكبارا
"سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون"
وهناك فريق المتسللين من شيعة العراق و إيران ولبنان إلى بلاد الشام ، المؤججين لنار الفتنة ، في سعي خائب من خسران الدنيا والآخرة
والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
وهناك فريق المتفرجين المحايدين في الظاهر ، ولكنهم في حقيقة الأمر من النفعيين المتربصين لمن يكون له الفتح ، لينقلبوا على المغلوب وينتصروا للغالب
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد لإيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
وهناك فريق كانت له الثورة السورية مكسبا دنيويا فحسب وفرصة سانحة كي يغتنم تجارة ، أو يحتكر سلعة ، أو يسرق أموال اليتامى و اللاجئين ، أو يعمل لمجد سياسي ،أو يسعى لمنصب مرموق ، أو لإرضاء نزعة اللحاق بهوليوود ف يظهر متشدقا على شاشات الإعلام ، أو يتسكع في الصالات ليحضر مؤتمرات هزلية ، لا تسمن ولا تغن من جوع ، مستطيبا عيش الفنادق المرفهة ، ورواتب العملة الصعبة، أو كي ينكح ما طاب له من حرائر الشام القاصرات ، أو يتاجر بأعراض المحصنات. ...
"وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون "
وهناك فريق ظن أنه يحسن صنعا فزُين له سوء عمله ، وهو يشهر سيفه على الآمنين الغافلين ظنا منه أنه يقيم شرع الله بالإكراه ، إنهم الفئة التي وصفها الله بالأخسرين أعمالا ، لأنها أعطت مثالا منافيا لروح الإسلام ، بما أبداه أصحابها من تكفير ، وغلظة وجبروت وعنف لا يمت بصلة إلى" رسالة الرحمة " التي اأتى بها الإسلام . وبدلا من أن ينعم الناس بالحرية التي دفعوا من أجلها الكثير انتقلوا من ظلم باسم العبد إلى ظلم باسم الله .
لقد سرقت الثورة من يد أبنائها ، وأضلت قصدها ، وبعدت طريقها ،وكانت عونا عليها بدلا من أن تكون عونا لها ، فكلفتها المزيد من الدماء والآلام ،
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
.
.
والآن هل يمكن لمؤمن مخلص لدينه ، أن يحبط عمله دون أن يشعر ؟ سؤال خطير .
في الحقيقة أنني كلما وقفت على أعتاب سورة الحجرات يزداد وجيب قلبي هلعا !
لقد كاد أن يحبط يوما عمل " الصديق والفاروق " ، أخلص اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثرهما نصرة للإسلام ، لمجرد أنهما رفعا صوتهما في حضرة الرسول (ص) !
إذن المقياس الإلهي لقبول العمل ، مقياس راق ومرهف ودقيق ، يعتبر الرفق والأدب شرطا أساسيا ، من دونهما يمكن للعمل أن يحبط ، مهما بلغ إخلاصه وعظمته
"يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتكم لا تشعرون"
يا حسرة على العباد ! أكثرهم حبط عمله أو كاد .
أما الفريق العامل الصالح فتسبقه دوما لفظة إلا في استثناء يشير إلى أن الصالح حقا ، "قليل"
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلا ما هم " سورة ص
"إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..
اذكر فيما مضى تسجيلا للشهيد أحمد الأتاسي كان يقول فيه : (لقد تخرج زملائي من الجامعة ، ورحلوا عن البلد ، ولكنه اختياري أن أبقى هنا وأجاهد لإعلاء كلمة لا إله إلا الله ).
لم يبرح مخيلتي حديثه البسيط الصادق اللطيف ، ومحياه النبيل الذي كان مزيجا من وداعة تحفها التقوى ، وطيبة يكللها العزم والإخلاص ، هؤلاء هم أهل الثورة والمؤتمنين عليها ، هؤلاء هم شباب الثورة الحقيقيون "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " .
لقد نأيت في رسالتي هذه عن اطلاق النعوت والتسميات على الفئات ، فرب "عامل" مع الجيش الحر وهو خائن متواطئ مع النظام ، ورب "عامل" مع النظام يعمل سرا لأجل حرية بلاده من الظلم والعبودية ورب "عامل" قد رفع الاسلام شعارا ، وعمله لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين ...
ورب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره ...
والله وحده "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور"
أيها العامل على الأرض السورية ، أيها المتعامل مع قضيتها من قريب أو بعيد ، ومع أهلها مقيمين أو لاجئين ، اقرأ رسالتي فلابد أن تجد نفسك بين سطورها ، وأنت وحدك تعلم مع أي فريق أنت ، ولا تنس أن عملك مسجل في كتاب ينطق عليك بالحق " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون "
كتابك سوف تقرأه يوما بنفسك في محكمة فريدة ، ستكون فيها أنت الخصم وأنت الحكم
"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ".