الفردية.. معضلة التجارب العربية و الإسلامية

زيد الوزير

نص محاضرة القاها الكاتب والمفكر اليمني زيد الوزير بندوة "مركز الحوار العربي"

(يوم الأربعاء 30-10-2013)

... ها أنا بين أيديكم أتحدث بما أحسبه نافعا، وأعترف مسبقا بأنني لا أحيط بكل الموضوع خبرا، ولكني سأعطي ما عندي وعليكم تصحيح خطأ وجد، أو تصحيح يفيد، واعترف ان البحث عن الكشف عما في  الزوايا المخبأة، والسراديب المظلمة، جهد لا يقدر عليه باحث واحد، وإذا تمكن من معرفة زاوية واحدة فأن ثمة زوايا كثيرة اجتماعية واقتصادية بحاجة إلى متخصصين.

       قبل كل شيء علي أن اشير إلى نقطتين، هما من الأسباب التي تحول دون الرؤية للتغيير المطلوب.

الأولى أن المعالجات للخروج مما نحن فيه، تتمحور حول التغيير السياسي ممثلا في شخص فرد، أو حزب فرد، بدون أن تسعى إلى تغيير البنية الفردية المتراكمة والمهيمنة على السلوك الجمعي. وبذلك نظل ونحن نحارب الفردية نحلق في أجوائها، وندور حول بنيانها، مع العلم إن الطريق إلى هذا التغيير  يأتي من البنية التحتية، لا من البروج المحصنة بالتراث السياسي الفردي. 

الثانية: أنني ضد فكرة ترك الحديث عن الماضي على ما كان عليه كشيء مقدس، لا يلمس بدعوى {تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يفعلون)، لأن هذا التحجج صناعة فقهية تداولها التمذهب دفاعا وتحصينا "لخلفاء الله" من أن ينالهم نقد لأعمالهم، وكشف لتصرفاتهم، وحتى لا نرى الينبوع الذي تفجر بكل الموبقات السياسية، والذي لايزال يتفجر باستمرار، وهذا التحجج  مخالف للمنهج القرآني نفسه، حيث قص علينا {القرآن الكريم} أخبار الأمم الماضية، داعيا للاتعاظ من أخطاءها لتجنبها، أما أننا لسنا مسئولين عن أعمالها، ولا نحاسب عليها، فذلك صحيح ؛ فكل نفس بما كسبت رهينة، لكنا مدعوون إلى التفتيش الدقيق عن نقطة الخطأ الخفية حتى نتمكن من معالجتها. أما الذين يتمسكون بظاهر الآية فأنهم يسهمون في ستر سلبيات الدول الماضية من أجل حجب العلة والعلل التي تضخ وباءها السياسي الفردي لتبقى تكرارا مقيتا لنظام انقلابات فردية. إن عملهم هذا فعل من يضمد الجرح بوبائه، وإذا ما اغمضنا العين على رؤية البؤرة التي يتصاعد منها المرض، فإنها ستبقى ننفث وبائها، وتظل تحصن الماضي براوفد قوية ضد ما هو خير ومفيد، وتقفله على اوجاعه بضراوة، ومن ثم يبقي المرض يقاوم عوامل الصحة السياسية بنجاح. في اعتقادي أن الوباء السياسي ممثلا في الفردية هو البؤرة الذي يجب أن تجفف، ولن يتم ذلك إلا إذا تعرفنا عليها من بداية ينابيعها الى مصباتها، وإلا فسيظل إدماننا على الوباء السياسي حائلا دون الشفاء. لقد ادمنا على الوباء حتى اعتبرناه هو الصحة نفسها. لقد فتحت الفردية أوتوسترادا طوله 1404 عاما قابلا للتمدد والاتساع، مالم نغير مساره ونفتح أوسترادا جديدا، وإلا فسنظل نخب مئات السنين في أوتوستراد لن ينتهي.

بعد توضيح هاتين النقطتين  أبدأ السلم من أعلاه، نزولا إلى آخره.

وفي البدء كان الحكم مدنيا يقوم على الانتخاب، والشورى، واستقلال القضاء، واستقلال بيت مال المسلمين- لا مال بيت الله ليستغله حليفة الله كما أصبح يسمى فيما بعد-، وبمدنية الحكم هذا قدم الإسلام نظاما جديدا كل الجدة لا يشبه النظامين العالميين آنذاك الكسروي والقيصري. إنه نظام الأمة {ولتكن منكم امه تأمر بالمغروف وتنهى عن المنكر} فهو اذا نظام مدني، ولأنه كذلك فقد لبث يتطور، ويحسن نفسه، خلال ثلاثين عاما فقط، وفي هذه الفترة القصيرة تطور العمل السياسي من انتخاب كان فلته، إلى ترشيح قبله الصحابة، إلى ستة مرشحين، إلى انتخاب تجاوز الصحابة إلى غيرهم من الوافدين اليها من بقية الأمصار ، ثم جاء "عمر بن العزيز"-الذي يمثل نظام الأمة- فكسر احتكار التعيين في أسرة واحدة، ووسع حصر الانتخاب من المدينة إلى الأمصار كلها، واصبح بهذا "خليفة المسلمين" بحق لا كما عمل "خلفاء الله" الضين اختزلوا النظام في انفسهم وقرروا هم من يحكم الأمة عن طريق التوريث و "ولاية العهد"، وما زال هذا النظام معمولا به حتى اليوم، سواء أكان خليفة، أم ملكا، أم سلطانا، أم رئيس جمهورية.

فما الذي حدث حتى انقلب النظام السياسي المدني، نظام حكم فردي قبلي؟ وقبل الجواب أريد أن اوضح  أن الانحراف الذي تم قد تكرس فينا وتراكم حتى أصبح نظامه يجري في عروقنا مجرى الدم، وكأنه قدر ليس إلى التخلص منه سبيلا؟، وإلى درجة بلغت هيمنته أن اصبح الحاكم وليس نظامه هو هدف التغيير وأننا نظن عندما نستبدل فردا بفرد، او اسرة بأسرة فقد تخلصنا من الحكم الفردي، وفي الحقيقة فإننا ما نزال واقعين في قبضته الفردية، نطالب بتغيير الرئيس، ولا نطالب بتغيير نظامه، إننا نمثل دور من يعالج مرض الشعر بحلاقته، لا بمرضه الكامن تحته، وتتكرر الحلاقة وينتصر المرض فينهكه.

وأعود إلى طرح  السؤال: ما الذي حدث حتى انقلب النظام السياسي المدني، نظام حكم فردي قبلي؟ هذا بالضبط موضوع هذه الحديث وقد سبق لي في مقالات وكتب أن تحدثت عن الحكم الفردي وأثره في النفس العربية والإسلامية ولن اعيد هنا تقريبا ما سبق وتحدثت عنه، وفي الوقت نفسه لا يمكن الإحاطة بها في الوقت المتاح لي في هذا المكان، بل ولا في استطاعة فرد واحد أن يحيط بها علما، لكن يمكن أن تتوزع دراسة العوائق على ذوي الخبرة، وعندئذ يمكن أن يتم وضع مجهر كشاف نتمكن من خلاله رؤية مكروباته الكبيرة والصغير، وطبيعته وأحجامه، ومن ثم وضع العلاج لاستئصال أضراره وأوجاعه. ذلك أنه لا يمكن أن يوضع علاج بدون تشخيص المرض.

سأحاول الإجابة على ضوء  الآية الكريمة {وفي انفسكم أفلا تبصرون} إذ أن المانع الرئيسي للتطور كامن في النفس، يصد بكل ضراوة أي جديد مفيد.

وأبدأ بتعريف الديني والتديني حتى لا نبقى نتخبط في التيه، فما المراد بالديني؟. إن الدين في جوهره علم وتفكير و {القرآن} ملئ بالدعوة إلى العقل والتفكير، وعلى هذا الأساس قامت "المعتزلة" وقام "علم الكلام"  وقامت "الفلسفة الإسلامية" وقامت "العلوم "الجغرافية" و "الفلكية" و "الطب" و"الكيمياء" و"الجبر" الخ فانتج الحضارة الإسلامية بكل فروعها وابداعاتها، وفي البدء كان القرآن كما قال أحد المستشرقين، وبما أن الإسلام دعوة عالمية فقد اسهمت في حضارته الفلسفة اليونانية والهندية والصينية والفارسية والمسيحة واليهودية والصابئة وحققت "صحيفة المدينة" المواطنة المتساوية التي اعتبرت المسلم واليهودي والوثني امة واحدة، ولعلي اعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى. أما التديني فباختصار قام على "الفقه السياسي" الذي تم اخراجه من مداره الاجتماعي إلى مدار سياسي بحه فاصبح مطية سهلة للقوة والغلبة.

والأن اسأل بعد هذا التوضيح هل يعني أن الحكم في الإسلام خلافة إلاهية نبوية؟، أو خلافة مسلمين؟ أو نظام حكم شوري؟ وعلى ضوء الجواب يتحدد المراد، وانا أذهب حسب دراساتي كما اثبت ذلك في أكثر من حديث أن النظام الذي قام عقب وفاة الرسول كان نظاما مدنيا، اقامه الصحابة بدون نص الهي، أو حديث نبوي، وإنما عن طريق حوار انتهى إلى انتخاب ومن خلال تطوره  كتجربة جديدة فلا بد أن يكون ثمة نقاط ضعف، ومن الطبيعي الا يخلو منها وهو نظام بشري يجتاز تجربته الأولى، لكن المهم هو انه كلن يصحح اخطاءه، ومن المؤكد أنه لو كان نظاما الهيا لما كانت بيعة "أبي بكر" فلتة وقال الله المسلمين شرها- كما قال عمر- لكنها كانت مدنية بشرية يكون فيها الخطأ ويكون فيها الصواب، وقد اخطاء الصحابة مرات لكن الصحابة كانوا يصححون أخطائهم لصالح الأفضل لعلمهم انهم مسئولون امام أمتهم وامام الله أيضا، أما عند ما تدين الحكم فقد تضائل الأفضل أمام عملقة الأسواء. والمؤسف ان المدافعين عن الملك العضوض يبررون ذلك الانحراف بمقتضيات الظروف الواقعية التي تتعامل مع الواقع لا مع المثال، ونسوا ان التعامل الذي تمّ قد شكل انتكاسة رهيبة للحكم المدني، وجاء بالسيء والأسواء. جاء بحكم اختزل الأمة وانتخابها وقضائها ومال بيتها في شخص الحاكم الفرد.

كانت فترة النبوة مضيئة مشرقة، ومن هداها استمد الصحابة خطاهم المدنيّة، ثم ما لبث أن غطى الساحة ظلام سياسي منذ أن قام "معاوية" اول خلفاء الله-  ونسج في خضم  التمويه والمكايد، حيلا ماكرة  دعمت حكمه الفردي الذي نتعامل به حتى اليوم، ومن المؤكد أننا لا نتعامل مع مبادئ الخلافة المدنية الراشدة وإنما بقوانين الملك العضوض وما نحن عليه من بؤس سياسي، والمراد بهذا الاستعراض هو محاولة كشفية داخلية نستضيء به ما بداخل أنفسنا من عتمة مانعة،  ومن كثافة حاجبة تمنع تسلل أي اشعاع جديد او تستنجد باشعة ما قبل ظهور الدولة الدينيّة. ومتى عرفنا هذا سوف يسهل تفكيك المعضلة وعوائقها وأغلالها لينفتح الفكر على رحاب فساح، وبالتالي يكون الحل ميسورا من خلال وضع خارطة طريق للتخلص من العوائق حتى نتمكن من استئناف الحضارة  التي فقدناها، من اجل استئناف العمل بمذخور كامن مع ايجابيات الحضارة المعاصرة.

سأكون صادقا مع نفسي وأن لامني الكثيرون. واستطيع بكل اطمئنان أن اقول أن أول عائق سياسي هو تحويل اسم الخالفة إلى اسم خليفة، وتغيير مفهومهما، ولو تأملنا وتعمقنا في النظر لوجدنا أن اسم "الخلافة والخليفة" يسهل ربطه بسرعة بحكم الله، وفي هذا الفخ وقعت المذاهب الكبرى كلها -بدون خلاف بينها وإن بتفاوت في تقديسها- فالخطأ اذن هو في مفهوم اسم "الخلافة" و "الخالفة" والفرق بين التسميتين أن "الخالفة" هو الذي يخلف السابق مجردا من صلاحياته، والثاني الخلافة وهوأن يخلف السابق مع صلاحياته. وقد قال "ابو بكر الصديق" أني "خالفة رسول الله"، ثم اضرب "الصحابة" عن استعمال لقب "الخليفة" أو "الخالفة" نهائيا، ولم يسم الخلفاء- باستثناء "ابي بكر" -إن سلمنا انه سمي خليفة وليس خالفة - باسم خليفة، بل بأمير المؤمنين.

وفي زحمة الأحداث اثر انقلاب الملك العضوض على النظام المدني، تم الغاء الخالفة وفم إعادة صياغة مفهوم الخلافة والخليفة من خليفة المسلمين، إلى الخلافة رسول الله إلى خليفة الله حيث توحي الكلمة بصلة إلى الصلاحيات  النبوية، والإلهية؟ وجاء "الماوردي" -وهو يجسد رأي ما تعارف عليه بـ "أهل السنة" بتعريف يؤكد هذا المعنى فقال (الخلافة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)[1] وأكدت "الجعفرية" و "الإسماعيلية" بكل وضوح  أن الإمام يقوم مقام النبي وهو معصوم. ومن المؤكد أن هذا التفسير للخلافة التدييني: خليفة الله  وليعطي انقلابه العسكري شرعية دينية. وهكذا دفن المكرُ السياسي اسم الخالفة، وأحيا مفهم الخلافة والخليفة، واحتووا الاسمين، وافترسوا المعنيين، وكان احتفاظهما باسمهما لما توحيان من معنى ديني ليمرروا من خلاله حكمهم فرديا ظالما باسم الله واسم رسوله، واستهوى هذا الافتراس بقية الدول المتتابعة، فعمقوا التديين، وما من ثم اعتمدوا على التفسير المظلم والظالم في استباحة الدما والأعراض وأنزال المظالم بالناس كحق الهي من حقوقهم، وكلما جاء انقلاب مسلح عمق هذا التوجه وغرسه في الأعماق حتى أصبح ثقافة عامة ذات سلوك متحكم. روى "السيوطي" أن رجلا ذكر الوليد الأموي عند المهدي العباسي فقال عنه: كان زنديقا فقال المهدي: مه! خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق وضع ما شئت من خطوط تحت هذه الجملة. وحتى عندما تغلب البويهيون على العباسي واصبح خلفاءهم دمية بأيديهم احتفظ "عضد الدولة" بدينية الخليفة الأسمية ليتخذ منها وسيلة لفرديته . يقول الحافظ السيوطي: أن عضدُ الدولة  لما قابل الطائعَ ليأخذ منه التفويض المطلق لإدارة الأمة عقد الطائع احتماعا رسميا حصره الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين؛ ثم أذن لـ «عضد الدولة» فدخل ثم رفعت الستارة وقبل «عضد الدولة» الأرض؛ فارتاع "زياد" القائد لذلك وقال لـ" عضد الدولة": ما هذا أيها الملك؟ أهذا هو الله؟ فالتفت إليه وقال: "هذا خليفة الله في الأرض" وخرج "عضد الدولة" مزودا بكل صلاحيات خليفة الله.

أصبح "الخليفة- القيصر" بحكم تديين خلافته وتقديسه –في الغالب- هو الإسلام، هو الذس يشرع وهو الذي يرشد، وباعتباره ممثل الإسلام فقد أصدر الخليفة "القادر العباسي" ما يسمى بالاعتقاد القادري فـ (قرر مذهب المرجئة في هذا الموضوع باعتباره "اعتقاد المسلمين" ومن خالفه فقد فسق وكفر) وحرّم قراء كتب "المعتزلة" و الفلسفة فانثالت العامة وراءه إلا قليلا، والمهم في الأمر أن الخليفة السلطان او مفتي السلطان- الذي اخذ مكان الحاكم الجاهل-  أصبح هو الموجه وهو المرشد، فإن قال بالجبرية اتشرت الجبرية، وإن قال بالمعتزله تفتحت الأبواب للمعتزلة، وإن كره المعتزلة حارب الناس المعتزلة  وان ايد أهل الحديث توسع أهل الحديث، ولأن هؤلاء "الخلفاء- القياصرة"  رأوا في الجبرية والمرجئة ضمانة استمرار، فقد حاربوا بكل عنف حرية الإرادة، وتمكنوا من إضعاف دور الفكر لحساب الفقه- بدءا بحصرها في اربعة مذاهب بعد أن كانت21 مذهبا أو مدرسة متعاونة- فتضائل دور العقل حتى ضمر، وانتعش الفقه السياسي حتى ازدهر. صحيح أنه كان هناك مقاومة لهذا التوجه، وكان هناك استمرارية المقاومة، ولكن "الخلفاء- القياصر، تمكنوا- باعتبارهم يصدرون أوامرهم بأمر الله- من حصر تلك المقلومة الباسلة، في نطاق ضيق ودوائر محدودة.

إذا انتقلنا من هذه الناحية إلى الناحية الفكرية وجدنا كتب من يسمون بأهل السنة تطفح بالتأييد المطلق لخليفة الله حتى لو تغلب بالسيف، وأسال الدماء، وأزهق الأرواح مادام يقيم الصلاة، ووجدنا ما يسمى بالشيعة ترفع ائمتها إلى محل لا يبلغه البشر، ومن الغريب أن المذهبين مختلفان في نوع الإمام، ولكنهما متفقان على تديين خلافته، وعلى صلاحياته المطلقة، وتم سلب الحث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الحكم، وثبتوا القول بأن من قاتل الخليفة بسيفه فكافر  ومن سبه بقلبه ففاسق أو بهذا المعنى . وإذا ما طبقنا هذه نظرية الفصق على معظم المسلمين نحدهم فسقة، لأن الغالبية العظمى تكره حكامها  بسبب أنها- بكل بساطة- فقدت كل حقوقها، ودجنت، وتعودت على الصبر المذل، واللسان المقطوع، ولم يعد لها إلا ما يكنه القلب وتنطوي عليه الضمائر. وهو أضعف الإيمان.

عندما فقد الخليفة القرشي –التي تجمع عليه المذاهب باستثناء الخوارج- صلاحياته وأصبح دمية، يستخدمه "سلطان الله البويهي" أو السلجوقي ليتسلط السلطان كما تسط الخليفة على رعيته ويوجبون عليهم طاعته كما قال ابن طباطبا. ووبهذ التغلب انتقلت صلاحيات القرشي إلى البويهي والسلجوقي والأيوبي.

وفي عهد "المماليك" قال "ابن جماعة" (ت 733 هـ/ ) : (فإن خلى الوقت من إمام فتصدى لها من ليس من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو اختلاف انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصل. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده انعزل الأول وصار الثاني إماما لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم)[2] وليت شعري ماذا بعد هذا الفسق السياسي  إلاّ الضلال الكبير.

*

دعم هذا التوجه - إلى جانب مؤلفات علماء السلطة- إنشاء مدارس متمذهبة تصب في تعميق قداسة الحاكم خليفة كان أم سلطانا، وفي هذا الصدد أذكر اشهر المدارس في تاريخ الإسلام وهي "المدارس النظامية" التي أسسها وزير السلطان السلجوقي "نظام الملك الطوسي"(ت 408ه -485ه) عام 457ه/ لهذا الغرض، كان القصد منها محاربة المعتزلة والشيعة والإسماعيلية، وتكريس الفقه الأشعري- الحنبلي، وقد احيطت هذا المدارس بالحفاوة البالغة وبالضجيج المدوي، وقد ألف "نظام الدين" هذا كتابا سماه "سياسة نامة"  فماذا نجد في هذا الكتاب؟. وما سنجده فيه هو مفهوم "نظلم الملك" السياسي نفسه الذي طبقه في "المدارس النظامية" في أكثر من مكان.

حلل المستشرق الكبير "جيب" في كتابه القيم "المجتمع الإسلامي والغرب" ما جاء في كتاب "نظام الملك" فقال: (حاول "نظام الملك" أن يوفق بين آراءه وما نادى به فقهاء الشريعة من مبادئ دستورية، إلا ان لم يوفق في محاولته هذه إلا في ظواهر الأمور فقط، أما في لباب الموضوع وروحه، فإن الباحث لن يجد أمرا أكثر تناقضا مع روح "الشرع الإسلامي" من هذا الخليط من التقاليد الملكية الفارسية، والموروثات العسكرية التركية التي جاء بها هذا الكتاب؛ فهنا لا نجد نظاما إلهيا مرسوما لخير العباد، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ولا عقدا ثنائيا بين الحاكم والرعية، بل  نجد نظرية "الحق للقوة" في نظام يقوم على الغصب والفتك والاستيلاء، فهذه دون غيرها  وسائل اكتساب الحقوق، وبها تدوم وتستمر، فلا عجب إذا ما شاع الرعب والشك والريبة في كل مؤسسات الدولة، فـ "البادشاه" يخشى جيوشه التي يستمد منها سلطانه وقوته في إدارة البلاد والناس، ذلك لأن الإخلاص والولاء معدومان، ولا سبيل لاكتسابهما دوامهما إلا بحد السيف، أو خشية العقاب).( 68-69).

ولم تكن الحالة السياسية عند "العثمانيين" بأحسن مما كان عند "السلجوقيين"، يوضح "جيب" هذه النقطة ايضا: (باستثناء الالتزام بالحفاظ على شعائر "الشريعة"... فيمكن القول أن الفكرة العام السائدة عن وظائف الحكم وسلطانه في "الإمبراطورية العثمانية" لم تتأثر بالأفكار الإسلامية إلا قليلا، أما تأثرها الأهم والأوسع فكان بـ "السلجوقيين" الذين كانوا قد تشبعوا بالآراء والطقوس الفارسية التي لآمت  آرائهم، ووافقت نزعتهم "التركية" المنبثقة عن التنظيم العسكري للقبيلة التركية القديمة، فأورثوا كل هذا إلى خلفهم "العثمانيين"، فلا عجب أن تكون "الوظيفة" الرئيسية لخالق الكون "خنكار" وهو اللقب للسلاطين العثمانيين) (صص 74-75).

أما الشيعة فقد اراحوا واستراحوا بعد أن غاب الإمام "المهدي" وغابت المعصومية معه، وانفتح الباب لوجود حكم سلطاني ملكي لا يختلف عن السلطاني الملكي "العثماني" بما يحمل من فردية شرسة، ولكنهم في الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني تخلصوا  منه بولاية الفقيه غير المعصوم، وكانت نقلة هائلة من إمام معصوم إلى فقيه يحاسب ويعزل.  وبالرغم من أنهم يسمون ما يجري في ايران حكما دينيا فأنا لا أرى هذا، وانما هو حكم يطبق مذهبا، على نحو ما من حزب يطبق مبادئه، إذ لا يمكن أن يكون حكم الفقيه معصوما ومنصوصا عليه من الله فالانفلات من معصومية الحاكم في حد ذاته ثورة، والحق يقال أنه متقدم على ديمقراطية العرب بمراحل فهو عمليا اقرب الى الحكم المدني منه إلى الديني. واتمني لو ان بقية المذاهب أدخلت أئمتها كلهم في سرداب لأراحوا واستراحوا، وعندئذ يمكن الحديث مع أناس ليسوا معصومين أو مقدسين من حاربهم بقلبه فباغ، وبلسانه ففاسق الخ السمفونية المضللة.

ثم جاءت حكاية البطل المحرر حكاية طويلة لتكرس الفردية، فلما بدأت الدواة الفردية القوية في الاضمحلال برز البطل، محمود الغزنوي فاتح الهند، نور الدين زنكي ، صلاح الدين الأيوبي. سيف الدولة الحمداني، فاسترجعوا اراضي اعتصبت، وقاتلوا واحسنوا، ولكن تم ذلك على حساب حقوق الأمة، ومظالم داخلية لا تنتهي. والحق أن اول تخلي عن الحقوق كان على يد الإمام "الحسن بن علي" عندما صحى بحقوق الأمة من أجل وخدة الأمة كانت النتيجة الا وحدة بقيت ولا حقوق حفظت، ومن السخرية بمكان ان يكون اول من سلخ الوحدة  "أموي" فابتز الأندلس من جسم الوحدة.

ثم جاء المحتل الغربي ومعه نظامه الديمقراطي وتقابل مع حكم سياسي فردي  ودخلا معا في معركة خرج منها الموروث منتصر بدعم من المحتل الذي وحد في بقاءه مع رتوش ديمقراطية، فلغم الديمقراطية بألغام ناسفة نسفها من داخلها و مهد  للانقلابات العسكرية الفردية.

وأنا ازعم  أن الديمقراطية" التي جاء بها "الغرب" لامست المظهر، واستبقت الجوهر، ولم تكن سوى صبغة براقة لنظام عتيق. ولأنها ابقت للسلطان فرديته في جل مجلس النواب المنتخب ومجلس الوزراء المنتخب، ومن ثم لم تتغلغل الديمقراطية في سلوك الناس ولا انظمتهم، فكان الملك الدستوري يملك اقالة الوزارات، وإلغاء البرلمانات، وكان الرئيس الجمهور يحكم مدى الحياة بفرديته، ثم استيقظت "القبيلة" في شكل العسكرية، فذففت على المظهر الديمقراطي أيضا، وبينا كان النظام القديم قائما على القوة- منذ "معاوية- جدد العسكريون هذا النظام، وبينما كان النظام القديم يقون على "بني" لم تخرج الديمقراطية من نظام "البني" هذا(ولبنان مثلا).

صحيح أن الوافد الديمقراطي شكل صداما بين موروث متأصل، وبين وافد متأمر، تغلب فيه المتأصل على الوافد بحكم رسوخه وتأمر الوافد أيضا، وعندما جاءت الديمقراطية الغربية حملت معها طلاء يخفي تآمرا،  كانت المأساة السياسية حاضرة ففي ظلالها مزقت الوحدة العربية وضاعت فلسطين، فكان رد الفعل هو التطلع من جديد إلى البطل المحرر، لتوحيد الأمة واسترجاع فلسطين وكانت البداية العسكرية من دمشق غير أنها ظلت داخل محورها وحكمت بقبضة الزعيم  والعقيد، ثم جاء البطل يحمل عسكريته، وتراثه  الفردي معه، وكان  عبد الناصر هو المحرر وهو الفردي، كان بطل مشروع القومية العربية القوي بلا شك، لكنه بحكم تراثه السياسي الطويل، وبحكم عسكريته الصارمة، وبحكم صعيدته المحافظة، كان فرديا مطلق الصلاحيات، لكنه تفوق على معاصريه بنظافة اليدين، وراحت الأمة بعد وفاة جمال تبحث عن بطل جديد فصفقت لـ "صدام حسين" زمنا ولكن "صدام" لم يكن صاحب مشروع وأنما صاحب أطماع، وكان حاكما فرديا، وهكذا بقيت الأمة على امتداد التاريخ الإسلامي تضحي بحقوقها لتصفق لكل بطل تخاله فاتحا فيعيد توحيدها.

أما ما يجري الآن في الساحة من حوار حول الخروج على الديمقراطية والانقلاب عليها  فخارج عن ميدانه، لأننا -فيما أرى- لا نتعامل مع ديمقراطية حقيقية، وإنما مع شعارات حتى اعتلينا سدة الحكم انثينا فأكلناها، وإذن فلا توجد ديمقراطية عملية، وإنما وهم ديمقراطي، ولماذا بقي وهما؟ لأن  الطريق الى تحقيقها لم يأخذ طريقه الصحيح، لعدة أسباب؛ أهمها أننا نتعامل معها بدون فقهها، وأننا لم نصل اليها عبر نضال فكري، واما جاء شكلها إلينا كمكرمة من حاكم  جسور، أو محتل محتال.

بالنسبة للحاضر فمن السخف أولا بعد هذا كله أن نتحدث عن وجود ديمقراطي يُمارس، ثم نحِاكم على هذا الأساس، أي على اعتبار ما يجري في بلادنا هو نظام ديمقراطي. اننا بهذه الادعاءات نظلم الديمقراطية نفسها، ونحملها جريرة العبث بها وتشويهها،. وما بين أيدينا هو الحكم الفردي وإن تلبس وتزين بأسماء، وسواء أكان حكم" الإخوان" أم حكم "العسكر"؟ أم حكم "الطوائف"، ومن ثم علينا-وقد فقدنا أي أثر للنظام الشوري المتناغم مع الديمقراطية- أن نعترف بالموجود الفردي واستمراره لا من اجل استبقاءه، ولكن من اجل تبديله لأن القول بوجود ديمقراطية في الشعوب العربية والإسلامية وهم كبير يعيق الخطى نحو ديمقراطية صحيحة  او شورى ملزمة.

إن الخطأ الذي وقعنا فيه هو أن "الديمقراطية" التي جاءت هبة حكومية هي اسم لديمقراطية لا فقه لها، ولا تعريف بها-كما سبق القول- وفي ظل ضجيج إعلامي ضخم لبّس الوهم ثيابا خادعة ، اعتقدنا أننا نمارسها، وما نمارسه في حقيقة الأمر هو وهم خلب، وهكذا بقي هذا الوهم يواصل خداعه بأننا نعيش عصرا ديمقراطيا. ونحن أبعد ما تكون عن "الديمراطية".

هذا هو "التراث السياسي" المثقل بقدسية نظامه المتمذهب، وبما طراء عليه من طلاء تتبعناه باختصار منذ أول انقلاب قام به "معاوية إلى أن غزته "الحضارة الأوربية" بأنظمتها الحديثة، مطعمة بعناصر تفجير من الداخل. وهذا التراث السياسي وهذه الطلاء- رغم جدته-  يحمله كل فرد منا في البيت في المدرسة في أي تعامل.

فما هو الحل لهذه المعضلة؟

الحل هو مدنية الحكم. و لكي نصل إلى حكم مدني حقيقي فعلينا أن نبدأ رحلة العود بالسلم من أوله حتى اعلاه، كما كان عليه في البداية قبل تديينه، لا تكتفي به بل لنطوره وننطلق من مدنيته وصحيفته بحيث يتناغم الينبوع مع المصب فيستمر النماء والخصب، وبذلك سيخصب ويتطور كما كان يتطور في بدايته،

وللمزيد من البحث ثمة جملة عوامل ساعدت الحكم الفردي على تغلغله يجب الكشف عنها والتخلص منها عبر التحديق في النفس والتاريخ والفقه من أجل تنظيفها، ومن أجل اتضاحها حتى يمكن التعامل معها. وسأطرح جزءا منها في هذا الحديث:

1.    أول خطوة هو الاعتراف بالكمية الهائلة من الانحرافات السياسية استوطنتا وملكت علينا أمرنا زمنا طويلا شقيا، وملأت أقطار أنفسنا حتى التخمة بحيث نظن ظنا متجذرا أن لا مكان فيها لجديد فما عندنا في غيبوبة اعتزاز متخاذل- خير وأبقى، وما يملأ القلوب والأسماع والبصائر في الحقيقة هو غثاء فقه سياسي محبط، من الصعب إذا ما استمر أن تتفتح النفس المقفلة لتقبل الجديد.

2.     بما أن التمذهب كان داعما للفردية وعائقا للحضارة، قينبعي اعادة صياغته ليظل يعمل في صالح الأمة، وفي البدء كان "المذهب" مدرسة فكرية أو فقهية. كانت "مدرسة أبي حنيفة" تسمى مدرسة الرأي، ومدرسة مالك مدرسة الأثر، و مدرسة المعتزلة مدرسة الفكر، وكان بينها سباق إلى الأفضل، ولكن الساسة المقدسون تمكنوا من تحويل المدرسة إلى مذهب، والمذهب إلى تمذهب، والتمذهب إلى تعصب، وبدلا من الاتجاه إلى الإبداع انصرفت المذاهب إلى التجميد ومن الاجتهاد إلى التقليد، وغدن فيما بينها وبين السلطة محالفا مزرية مستنجدة بالسلطة السياسية في صفقة مغبونة تقر هي بفردية وقدسية الحاكم، في مقابل حمايتها ضد معارضيها من المذاهب، وانقسمت المذاهب بشكل رئيس إلى شيعة وسنة، وكان هذا الإقسام اوجع ضربة نزلت بالعرب والمسلمين. وإذن فنحن أما شرخ واضح علينا اعادة الالتحام بينهما، والطريق إلى تحقيق ذلك من ناحية هو الغاء كلمتي شيعة وسنة في أدبياتنا، والحديث عن مدارس حنفية مالكية جعفرية زيدية الخ ومتى اعادنا التمذهب إلى مذاهب- مدراس تكون قد جففنا جانبا من عوامل الفردية المهيمنة؟ لأن الفردية لم تدعم ولن تعش إلا من خلال المذاهب التديينية- السياسية، فتفكيكها إذن يسهل علينا النظر إلى باقي جوانبها، ومن ناحية أهم هو الإيمان بالحرية الكاملة، في التعامل مع الآخر، وعدم احتكار الصواب.

3.    إن توضيح المصطلحات الكائدة يأتي على رأس القائمة فهي التي صاغت تاريخ الحكم الفردي، ومن ثم يجب تفكيكها واعادتها إلى حقيقتها، فالشورى أصبحت استشارة ذليلة، ولم تعد  شورى ملزمة فعالة، والطاعة لولي الأمر أصبحت نوعا من العبادة، مع انها طاعة القانون لا الفرد. وولى الأمر حلت محل أولي الأمر، أي القيادة الجماعية التي أمرنا بها ، والصبر على الظلم حل محل الصبر على مقاومة المظالم لا على الرضوخ للمظالم

4.    تصحيح مفهوم ما يسمى "إسلام سياسي" وحكم ديني، والتركيز عليهما في حين أنه لا وجود لحكم ديني ولا اسلام سياسي في العالم العربي والإسلامي، ولكن هناك وجود مكثف لحكم مذهبي يدعي تمثيل الإسلام البرئ ، وكل مذهب يدعي تمثيل الإسلام، وأنه الفرقة الناجية والبقية في النار.وكل يدعي وصلا بليلى    وليلى لا تقر لهم بذاكا

5.    إذا فهمنا ن ذلك فإن الطريق ينفتح امامنا وندل في البديل الفضل وهو:

§        العمل على قيام مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها الأساس لقيام حكم مدني رشيد، وهذه المؤسسات هي الطريق الصحيح الموصل إلى "ديمقراطية" حقيقية أولا، أي أن نبدأ من القاعدة لا من القمة، أي من مؤسسات المجتمع المدني، لا من عطاء رئيس دولة فردي، ومتى وجدت مؤسسات المجتمع المدني" ستصبح الديمقراطية سلوكا ثقافيا وسينفتح  الطريق لاحبا نحو قمة السلم. وما ذلك على من أراد بعزيز.

§        وهنا تقع المسؤولية على عاتق "المثقف العربي" للخروج به من حالة التوصيف إلى حالة الإبداع، وعدم الاكتفاء بفهم ما يجري بل بوضع وسائل للخروج مما يجري. أي بوضع مشروع مستقبلي واضح القسمات والسمات. ومن ثم  إنشاء مراكز للبحوث العلمية لإعادة النظر في قراءة التاريخ السياسي والفقه السياسي واستخراج برنامج مستقبلي على ضوء المستجد النافع.

وبهذا نكون قد تحللنا من عوائق ثقيلة وتفتح أمامنا أوستراد جديد يوصلنا إلى الحكم المدني الذي بدأ ذات يوم خطوته الأولى ثم توقف. وعليه فأنا اطرح كل هذا لنتبين طبيعة المعركة كما هي، حتى نركز عليها، ولا نتيه حولها كما يتيه الثور الهائج حول الخرقة الحمراء فتسيل الدماء الحمراء، وتنزع القلوب، وتقضم في مباهات فاقت أي تصور رهيب، وفاقت وصف امرئ القيس لمصرع أباءه:

فلو في يوم معركة أصيبوا     ولكن في ديار بني أبينا(الأصل :بني مرينا)

ولم تُغسل جماجمهم بغسل     ولكن في الدماء مرملينا

تظل الطير عاكفةً عليهم     وتنتزع الحواجب و العيونا

والسلام عليكم، وغفرانا من أي تقصير في هذا الحديث