مآلات سود تنتظر العنف الصهيوني

لطالما كان العنف متلازمة من متلازمات القهر والعدوان والإكراه، يقول شكسبير في مسرحية «ماكبث»: «ما الحياة سوى حكاية، يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء». لكن المستجد في عصرنا الحالي هو تعاضد السياسة والصحافة الغربيتين في تسويغ العنف عبر صنع غطاء يمارس تحته القتلة جرائم الإرهاب. ذلك أنَّ العنف صناعة سياسية مدعومة من قبل الدول الكبرى – عبر مؤسساتها السرية والعلنية، الاستخباراتية والإعلامية – ومموهة بوسائل شتى. وبهذا الشكل الماكر تختلط الحقائق بالأكاذيب، فيصبح الجلاد ضحية، والضحية جلادا، ويغدو الجاني مجنيا عليه.

ولقد جسَّدت رواية «العنف والسخرية»، 1962، للكاتب البير قصيري (1913-2008) هذا الدور الخطير للسياسة والصحافة في تمرير العنف وإظهاره بمظهر الدفاع عن النظام والقانون. وتدور أحداثها في مدينة حاكمها (المحافظ) لا يعرف غير الأفكار المدمرة، وله ثوار ماكرون متشددون مستعدون أن يموتوا من أجل (سيادة القانون) ولكن أي قانون؟ إنه قانون مطاردة المعدمين الذين لا يجدون قوت يومهم من الشحاذين والعاطلين عن العمل والباعة المتجولين وجامعي أعقاب السجائر الذين تطاردهم شرطة المحافظ بصفتهم مجرمين ولا بد من تطهير الشوارع منهم «ذلك الجنس المسالم والمتغلغل بشدة في الأرض الذي لم ينجح أي من الغزاة قبله في أن يجتثهم وكأنه أراد بذلك أن يخلص الصحراء من رمالها». وما أن يتم القبض على واحد منهم حتى يكون ذلك فرصة لمزاح وضحك المحافظ وربعه الأوباش. أما صحف المدينة، فتغنى (بأكملها في مدح الجوع.. وكأن المدينة ميدان معركة حقق فيها المحافظ نصرا حربيا بينا). وهنا تظهر شخصية الشرطي كريم وهو يقبض على شحاذ، تصرف كأنه بلا حياة، ما جعل الشرطي يظن أنّه قتله، فاستبد به الرعب. ومن شدة رعبه هزَّ الشحاذ هزة قوية، انفصل فيها رأسه عن رقبته بسهولة. فأطلقت الجماهير صرخة مرعبة واحتجت على هذا الامتهان بشتائم مقذعة. وهنا ينتبه الشرطي إلى ما يقوم به من عنف تحت مزاعم القانون، فيقرر تحطيم سلطة المحافظ «لا أود حكم العالم مهما كان فلا يوجد أسوأ من هؤلاء الذين يحكمونه»، وقارن بين المحافظ والاسكندر الأكبر، فوجد أن التعنت والعنف عندهما واحد «كان المحافظ أحد الوجوه المخادعة المعروفة وربما الوجه الأكثر إثارة للضحك.. فهو دائما في صالة الألعاب بكازينو البلدية، محاطا بأقرب أعوانه.. يحوم حوله الخدم، يبتسمون بمهابة وبلاهة». وبالفعل ينجح كريم بمساعدة المثقف هيكل والتاجر خالد عمر من إنزال القصاص بالمحافظ بعربة مفخخة، بيد أن مكر السياسة وزيف الصحافة سيعملان على تمويه الأمر ليبدو كأنه عملية اغتيال، فيصير المحافظ شهيدا ونموذجا للوطنية والفداء للأجيال القادمة. وتنتهي الرواية بهذه المفارقة الساخرة.

إن تمويه العنف وإظهاره بمظهر الدفاع عن النفس هو الذي يجعل الإرهابيين كما يقول جان بوديار «ينجحون حتى في فشلهم في تحقيق ما يتجاوز آمالهم»، وهذا ما ينبغي أن يُدان ومعه تُدان كل السياسات الداعمة للعنف والإرهاب. ذلك أن ممارسة العنف بحق المدنيين العزل أمر لا يجد له علماء الأخلاق تفسيرا سوى أنها الطبيعة الحيوانية.

ومنذ انطلاق عملية طوفان الأقصى وتداعيات الحرب على غزة تسير بوتيرة متصاعدة من العنف والإرهاب، ما يجعل مسلسل الإبادة الجماعية المنظمة مستمرا. ومع تنامي هذا العنف، فإن إدانة الصهاينة وشجب إجرامهم تترى بقوة على مدى الشهور الثمانية عشر من عمر طوفان الأقصى، وما يترتب على ذلك كله من مواقف أخلاقية رافضة للعنف وآثاره التدميرية.

ولا يقتصر أمر الشجب على الجمعيات والمنظمات الدولية الرسمية منها والشعبية حسب، بل ثمة إدانات تأتي من أعلام مفكرين وفلاسفة تجمعهم أصول دينية وعرقية واحدة تندرج في المنظومة الغربية، لكن ذلك لا يحول دون أن يعلنوا رفضهم للعنف والإرهاب في غزة، ويكشفوا دور السياسة الإمبريالية العالمية في إعطاء الضوء الأخضر للكيان الصهيوني لأن يمارس أفعاله الإجرامية في إبادة السكان الأصليين. ومن الفلاسفة الذين قدموا رؤى فكرية تدين العقل الغربي في عقر داره، جوديث بتلر التي ترى أن اليهودية ليست نفسها الصهيونية، ولذلك يكون واجبا نقد عنف دولة إسرائيل صراحة وعلى نحو عام كمطلب أخلاقي إلزامي من داخل الأطر اليهودية الدينية وغير الدينية. غير أن أمر النقد كما تذهب بتلر ليس باليسير، كونه ينطوي على تحديات ومخاطر والتزامات في آن واحد؛ فهو قد يُفهم على أنه نقد للدولة اليهودية على الأسس نفسها التي يمكن أن يعتمدها المرء في نقد أية دولة أخرى تقوم بالممارسات ذاتها من احتلال وغزو وتدمير للبنية التحتية لحياة السكان الأصليين. وقد يُفهم على أنه نقد للدولة اليهودية مع تأكيد على يهودية الدولة وإثارة سؤال إن كانت الدولة تُنتقد لأنها يهودية.

وتفرق بتلر بين ثلاثة أنماط من الانتقاد: 1/ نقد الصهيونية والاحتلال غير الشرعي والمدمر 2/ نقد الأعمال العسكرية بمعزل عن الصهيونية والاحتلال كأن تنتقد جرائم الحرب في غزة. 3/ نقد عام لأشكال عنف الدولة التي تسعى إلى إدامة الشخصية اليهودية من خلال حرمان السكان الأصليين من حقوقهم وتدميرهم بالاحتلال والعدوان والقيود القانونية.

وما من طريقة تراها بتلر للخروج من دوامة العنف في قطاع غزة والضفة الغربية وسائر المدن الفلسطينية سوى بالتعايش وحسن الجوار والتعددية السياسية؛ ولكن كيف يكون التعايش حاصلا بين طرفين أحدهما (صهيوني استيطاني) قام بتجريد الآخر (العربي الفلسطيني) من ملكيته في أرضه واستولى على مقدراته، ويقاتله اليوم من أجل إبادته بالكامل؟

من الفلاسفة الذين أدانوا عنف الصهيونية الفيلسوف كورنيل وست المعروف بمواقفه الناقدة للغرب الامبريالي بكتبه «أهمية الديمقراطية» و«الانتصار في المعركة ضد الامبريالية» و«الأخ الغريب: العيش والعشق بصوت عال». وهو الذي فضح ماضي الولايات المتحدة المخزي، وكيف قام على العنف ضد الشعوب الأصلية بدءا من الإبادة الجماعية للهنود الحمر وانتهاء باستعباد الزنوج. وتنبأ وست بمستقبل أسود ينتظر العالم الرأسمالي، مؤكدا أن «إمبراطورية الولايات المتحدة في أفول.. وإمكاناتها الديمقراطية تتراجع.. تصاب بجنون الجشع والتقمص الضيق والمخيلة المبتورة.. في ظل نخب المدراء التنفيذيين والأوليغاركية المالية مع تصاعد جنون الجشع إلى أقصاه ونهب الملايين من الدولارات بينما واحد وعشرين بالمئة من أطفال أمريكا يعيشون الفقر. تلك جريمة ضد الإنسانية، سيقول الناس ذلك بعد مئة وخمسين عاما من الآن».

وحذَّر الفيلسوف إدغار موران من استشراء أمر الإرهاب العالمي، ورفض أعمال العنف والإهانة المنظمة التي يتعرض إليها الفلسطينيون، مبينا أنَّ هذا السرطان إذا بقي بلا علاج ولم يعترف بحق الفلسطينيين في بناء دولتهم، فإن الوضع العالمي سيزداد خطورة.

وربط المفكر كولن ولسن العنف بالسياسة، مؤكدا أن أسوأ أنواع الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياء، بل يرتكبها المتحضرون الأذكياء باتخاذهم قرارات يوفرون لها المبررات والدوافع الكافية. وضرب مثلا بالمذبحة التي قامت بها القوات الإسرائيلية حين سمحت لحزب الكتائب اللبناني أن يدخل إلى مخيمات صبرا وشاتيلا ويقتل الفلسطينيين اللاجئين من النساء والأطفال «مذبحة جرت على قدم وساق داخل المخيمات. أرسل مبعوث الأمم المتحدة رسالة إلى شارون قال فيها: لا بد أن توقف هذه المذبحة البشعة. أنت تسيطر على كل المنطقة، ولذلك أنت مسؤول عما يجري». ولكن الذي صدم العالم «أن اليهود الذين كانوا ضحايا معسكرات الإبادة النازية هم الذين رتبوا هذه المذبحة للفلسطينيين»، «سيكولوجية العنف البشري»، ص 80-81.

إن مأسسة العنف (تصفيات / اغتيالات/ إرهاب) هو الذي عليه أقام الصهاينة ما يسمونه (دولة إسرائيل) ومن تكن بدايته عنفا، فإن نهايته لا بد أن تكون مخيبة لآماله. ولنا في الاستعمار الاستيطاني خير مثال، فلقد أقام ترسانته العسكرية على ممارسة العنف والإرهاب، وانتهى بفشله الذريع أمام إرادة الشعوب الحرة.

وما من شك في أن مسلسل العنف في غزة سيؤثر بالتأكيد على مجريات الوضع الإمبريالي العالمي، وسيؤدي إلى إفلاس الاقتصاديات البيروقراطية لا محالة.

وسوم: العدد 1123