الاستبدادُ ونظامُ الحكمِ في الإسلام
أبو الهَمّامِ الخليليِّ
"أنا الدولةُ والدولةُ أنا " عبارةُ الملكِ الفرنسيِّ لويس الرابع عشر، الذي حكمَ فرنسا 54 عاماً (1661- 1715)، العبارةُ التي صارت مثالاً للاستبدادِ السياسيّ، عندما تُقابلُ بعبارةِ "الدولةُ الاسلاميةُ هي خليفةٌ يطبقُ الاسلام" هكذا، بعبارةٍ مختصرةٍ الدولةَ في شخصِ الحاكمِ أو الخليفةِ،يقفزُ السؤالُ التالي:ما الفرقُ بين العبارتين؟أليسَ كلا العبارتين نصٌ في الاستبداد،بل تبدو العبارةُ الثانيةُ أخطرَ من الأولى،إذ تؤسسُ للاستبدادِ و تعطيه الشرعيةَ الدينيةَ؟!
موضوعُ هذه المقالةِ يجيبُ على ذلك، ويبحثُ في تفكيكِ العلاقةِ بين نظامِ الحكمِ في الاسلامِ و الاستبداد.
الاستبدادُ و الدكتاتوريةُ و الحكمُ المطلقُ و الحكمُ الشموليُّ مصطلحاتٌ متجانسةٌ متقاربةٌ، قابلةٌ للذوبانِ بعضُها في بعض،إذ هي تكاد تجتمعُ على معانٍ مشتركةٍ واحدةٍ، ملخصُها أن المستبدَّ مستفردٌ بالسلطةِ، منفلتٌ من كلِّ قيدٍ، فلا أخلاقَ ولا دينَ ولا قانونَ يقيدُه ،و إنما القانونُ ما هو إرادةُ إلا المستبدِ. فالمستبدُ فوقَ الدستورِ و القانونِ، وإن هما إلاعجينتُه،يشكلُها بأدواتِه كيفَ يشاءُ، يفعلُ ما يشاءُ غيرَ مسؤولٍ ويحكمُ بما يقضي به هواهُ، فكأنَّه فرعونٌ، أو إله فوقَ الناسِ، لا مُعقبَ لحكمِه ولا رادعَ للحدِّ من سطوتِه.
فالاستبدادُ إذاً، بعبارةٍ جامعةٍ مانعةٍ هو استفرادُ فردٍ أو مجموعةٍ أفرادٍ بالحكمِ بلا قيودٍ دونَ نظرٍ إلى رأسِ المحكومين.
إنَّ عبارةَ "أنا الدولةُ و الدولةُ أنا" عبارةٌ استبداديةٌ، لخلوِّها من أيِّ قيدٍ دستوريٍّ أو عمليٍّ للحاكم،أما عبارةُ " الدولةُ الاسلاميةُ هي خليفةٌ يطبقُ الاسلامَ "،هي عبارةٌ مضادةٌ للإستبدادِ،تختصرُ في داخلِها قواعدَ نظامِ الحكمِ في الإسلامِ الأربع ، حيثُ أولاً السيادةُ جُعلت للشرعِ و لم تُجعلْ للحاكمِ ،يحكم من رأسِه فيستبد،و كما لم تُجعلْ للشعبِ، والشريعةُ تحكمُ كلا الحاكمِ و المحكوم،فهما جميعاً تحتَ الشرعِ سواء، فلا حصانةَ لأحدٍ ولا حمايةَ لمستبدٍ متجاوزٍ للشرع ِكائناً من كان،و حيثُ القاعدةُ الثانيةُ: أن السلطانَ جُعل للأمةِ لا للحاكم، فهي تنصبُه بعقدِ مراضاةٍ و اختيار،و إلا لا شرعيةَ له، فهي تنيبُه عنها،بما هو واجبٌ عليها و حقٌ لها، تنيبُه و تُعِينُه و تحاسبُه إنْ قصرَ،و تأطرُه على الحقِ أطراً، لا تنصبُه و تديرُ ظهرَها وكأن الأمرَ بعدَ التنصيبِ لا يعنيها،فإنْ فعلتْ فلتتحملْ .و هكذا بِجعلِ السيادةِ للشرعِ قُيِّد الحاكمُ دستورياً و بجعلِ السلطانِ للأمةِ قيدَ الحاكمُ عملياً.
أما ثالثةُ قواعدِ نظامِ الحكمِ،فهي:نصبُ خليفةٍ واحدٍ فرضٌ على المسلمين، فلا خليفةَ إلا إذا ولّتْه الأمة،و لا يملكُ أحدٌ صلاحياتِ الخليفةِ إلا إذا تم عقدُ الخلافةِ له على الوجهِ الشرعيِّ،مستكملاً كلَّ شروطِ الانعقاد،كأي عقدٍ من العقودِ في الاسلام،فهذا يقتضي عدالةَ الحاكمِ بضرورةِ شروطِ انعقادِ البيعة، إذ هي شروطُ انعقادٍ و استمرار،و المستبدُ متجاوزٌ للشريعةِ تعمداً،فهو مجروحُ العدالةِ، لا يحقُ له الاستمرارُ في الحكم،فيُصطبر عليه،و لكن لا يُسكت عن منكره، فيعمل على اسقاطِه سلمياً أو ينعدل، إلا أن يكونَ استبدادُه قد تجاوزَ الخطوطَ الحمراء،فأظهرَ في الدولةِ أو في نفسِه الكفرَ البواح، فحيئذٍ، تجبُ الثورةُ المسلحةُ عليه لخلعِه.
أما القاعدةُ الرابعةُ من قواعدِ نظامِ الحكمِ:للخليفة وحده الحقُ في تبني الأحكامِ، فقد يجعلُها البعضُ تَكُؤَةً،يستند عليها،فيهاجمُ بها نظامَ الحكم في الاسلام، فكيف ، بزعمِهم، يُترك لشخصٍ هو الخليفةُ تحديدُ معانِ الاسلام، وبأيِّ اسلامٍ سيحكمُنا،إنه اسلامٌ على مقاسِه و هواه!أليس ذلك هو عين الاستبدادِ الديني الذي عرفتْه أوروبا،قلْتُ: لا،أولاً الاسلام ليس فكراً مطاطاً، غيرَ مُنضبِطٍ بأصولٍس،ييتسعُ لكلِ شيء ٍ و ضدِّه، و ليسَ فيه شيءٌ مخفيٌ،فهو يعيش في جماهيرِ الأمةِ و علمائِها، له أصولٌ تضبِطُه،يتبناها الحاكمُ و يظهرُها، معاهدا ً عليها الله تعالى و الناسَ ،فليس اسلاماً مفتوحَ العبارة، فإن انحرف الحاكمُ قامت عليه الأمةُ بما اختُزِن في وعيِها بقيادةِ علمائِها، فصوبتْه.
ثم إن الشارعَ راعى واقعَ كونِ الإمامِ شخصاً غيرَ معصومٍ،قد يأتي منه، عندَ ضعفِ الوازع الديني، ما يؤدي إلى الاستبداد، مستغلا ً في ذلك الصلاحياتِ الواسعةَ المخولةَ له، ولهذا جاءَ الإسلامُ بأحكامٍ و ضوابطَ شرعيةٍ تعالجُ هذا الواقع، و تحولُ دونَ حصولِ إساءةِ التطبيقِ من الإمامِ عندَ تبني الأحكامِ و سنِّ القوانين،و تضمنُ سيرَ الدولةِ والأمةِ ضمنَ الإطارِ الشرعيِّ،و يمكنُ ابرازُ أهمِ هذه الضوابطِ فيما يلي:
أولاً:حسمُ الشريعةِ للمسائل التشريعيةِ في المجتمعاتِ الإنسانية.
ثانياً: وجوبُ التقيدِ بالشرعِ في تبني الأحكامِ وسنِّ القوانين.
ثالثاً: قصرُ مجالاتِ سنِّ القوانينِ التشريعيةِ على رعايةِ الشؤونِ وأعمالِ الحكمِ الضروريةِ للدولةِ دونَ غيرِها،مثلُ ما يتعلقُ بوَحدةِ الدولةِ وجمعِ الزكاةِ أو فرضِ الخراجِ و عقدِ المعاهداتِ مَع الدولِ الأجنبيةِ وما شابه ذلكِ، فكلُّه يكونُ فيه التبني واجبا ً،لأنَّ الامامَ لا يستطيعُ أن يقومُ برعايةِ الشؤونِ و الحكمِ إلا عند تبنيه حكماً معيناً فيها.
رابعاً: قصرُ مجالاتِ سنِّ القوانينِ الإجرائيةِ على أمرين: على فروضِ الكفايةِ كتنظيمِ أمرِ الاكتتابِ للجهاد، وعلى تنظيمِ المباحاتِ المتعلقةِ برعايةِ الشؤونِ و تشملُ: منعَ ما يؤدي إلى الضررِ أو المحرمِ، وتنظيمَ الملكيةِ العامةِ ومرافقَ الجماعة، و تنظيمَ الشؤونِ الإداريةِ الخاصةِ بالدولة،بمعنى، ليسَ للدولةِ مثلاً إلزامُ الناسِ عن طريق سنِّ قانونٍ ينظمُ ألوانَ البيوت،أو يمنعُ تعددَ الزوجاتِ أو الطلاقَ،أو يمنعُ نكاحَ المسلمِ للمسلمةِ بسببِ الانتماءِ القبليِّ أو الاقليميِّ،لأن ذلك كله خارجُ عن مجالِ القوانينِ الاجرائيةِ من فروضِ الكفاية و تنظيمِ المباحات، فتَكونُ حقيقتُه تحريمٌ لما أحل الله.
خامساً: الشورى و خضوعُ الدولةِ لمحاسبةِ الأمةِ فيما يتعلقُ بسنِّ القوانينِ و تبني الأحكام.
سادساً: هيمنةُ القضاءِ الشرعيِّ على حقِ الإمام في التبني.
إن الممارساتِ الاستبداديةَ التي ارتبطت بتاريخِنا السياسيِّ، بعد العصرِ النبويِّ و الخلافة الراشدة، مردُّها ليس إلى نصوصِ الاسلام، بل مردُّها إلى الخروجِ عن هذه النصوص، فلم يكنْ هذا الخروجُ طبيعا ً،حتى ينسبَ إلى الاسلام، وثورةُ الحسينِ عليه السلام و ثورة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أكبر دليلٍ على ذلك.فلم تكنْ النقلةُ المستبدةُ نحوَ الملكِ العَضوض نقلةً سهلةً انحنى أمامَها الفكرُ السياسيُّ الاسلاميُّ و سلمَ بها.
إن الملكَ العاضَّ، الذي عضَّ على الأمةِ بالوراثةِ مسيئاً لعقدِ البيعةِ، ليس على منهاجِ النبوةِ بكلِّ تأكيدٍ ،ولكنَّه حُكم بالشريعة، على أية حال، في كلِّ مجالاتِ الحياةِ، و السُّنَّة السيئةُ في أخذِ البيعةِ أيامَ الملكِ العَضوض، لم تنتجْ بالضرورةِ حكاماً سيئين مستبدين، فقد كانَ الملكُ العضوضُ إذا ً خيراً فيه دَخَن، وأما الملكُ الجبري، الذي حلَّ بعدَ الملكِ العضوض، فحكمٌ بوليسيٌ ،فرغَ قوانينَ الحكمِ من كلِّ معاني الإسلام، و حكَم َالناسَ بالقهرِ والبطشِ و السجونِ وأقبيةِ المخابراتِ، فالملكُ العاضُ، على سوءِ أخذِ البيعةِ فيه، ليس بالضرورةِ استبداداً، بخلافِ الملكِ الجبريِّ،فهو مستبدٌ بامتيازٍ.و ليسَ هناك من استبدادٍ يُترحمُ عليه ، لأن الاستبدادَ بتجاوزِه الدستورَ و القانونَ يتنافى معَ العدالةِ، فلا يُوجدُ إذاً "مستبدٌ عادلٌ" يستحقُ الدفاعَ عنه.
إنَّ النقدَ الذي يوجَّه إلى التجربةِ التاريخيةِ لنظامِ الحكمِ في الاسلامِ نقدٌ ظالمٌ،ليس لأن تاريخَنا نظيفٌ من الأخطاء، بل لذاك التعميمِ لتلك الأخطاءِ و آثارِها حالَ وجودِ الاستبدادِ على المجتمعِ والدولة، ، و لعل تلك المقابلةَ الحادةَ بينَ واقعِ الدولةِ في عصرنِا الحاليِّ وبينَ واقعِ الدولةِ الاسلاميةِ ساعدَ في الوقوعِ في شَركِ هذا التعميمِ الظالمِ،فالدولةُ اليومَ تتمتعُ بتحكمٍ مركزيٍّ كبيرٍ على مفاصلِها، بينما لم تكنْ تلكَ القبضةُ موجودةً بهذا الشكلِ في تاريخِ الدولةِ الاسلاميةِ، فرغمَ مركزيةِ الحكمِ، كانت الأمورُ فيها أقربَ إلى التبعيةِ و الولاءِ منها إلى السيطرةِ المطلقةِ والاخضاع، فقد كان المجتمعُ و أجهزةُ الدولةِ مسيرون ذاتيا ً بدستورٍ و قانونٍ عرفيٍّ هو الإسلام، و قد كانَ الحاكمُ يُنيبُ عنه الولاةَ و القضاةَ و غيرَهم بصلاحياتٍ واسعةٍ، بعدَما يطمئنُّ إلى طريقةِ حكمِهم، فيتركهم يجتهدون في ذلك ثمَّ يتابعُهم. وعليه، فإنْ استبد الحاكمُ لم يمتدْ إستبدادُه بحكمِ طبيعةِ التحكمِ إلى أجهزةِ الحكمِ و أجهزةِ القضاءِ ومصالحِ الناسِ في الدولةِ المتراميةِ الأطراف، بخلافِ استبدادِ الحاكمِ في الدولةِ الحاليةِ،ذاتِ التحكمِ المركزيِّ الشديدِ، فإنْ استبدادَه منعكسٌ بالضرورةِ في مفاصلِ الدولةِ و المجتمع.