الشيعة وتحدي الخطر من الداخل
الشيعة وتحدي الخطر من الداخل
د. خالد عليوي العرداوي
مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
يوجد في الوقت الحاضر رأي خاطئ في الوسط الشيعي العام روجته ولا زالت تروجه أجندات الاستقطاب الطائفي المقيت التي ابتلي بها عالمنا الإسلامي، بسبب قوى سياسية محسوبة عليه أو بسبب قوى دولية متآمرة عليه، مفاده أن الشيعة كمذهب وأتباع مهددون بخطر يستهدف وجودهم السياسي والاجتماعي والعقائدي مصدره قوى اجتماعية وسياسية محسوبة على مذاهب إسلامية أخرى.
وعلى الرغم من أن هذا الرأي يجد ما يبرره نوعا ما في فكر وسلوك بعض الجماعات المتطرفة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتمثل امتدادا لفكر الخوارج وأشباههم، إلا أن استقراء تاريخ الأديان عموما، وتاريخ الشيعة بشكل خاص لا يدعمه بأي حال من الأحوال، فتاريخ الأديان يشير إلى أن الخطر الحقيقي الذي يواجه أي دين ويهدده في الصميم لم يكن أبدا الخطر الخارجي المسلط من قبل الأعداء الخارجيين الذين يسفرون عن عداوتهم للدين وأتباعه بوضوح وجلاء، فهؤلاء الأعداء على شدة بأسهم وبالغ خطرهم غالبا ما كانت عداوتهم الشديدة مدعاة إلى التمسك الشديد بالدين من قبل أتباعه، ومحفـزا لهم إلى نشر أحكامه وقواعده بين الناس، لأنهم يجدون ذلك دليلا على صحة عقائدهم، وصواب منهجهم، وظلم أعدائهم.
لذا يلاحظ أن الديانة الموسوية (اليهودية) على الرغم من المحن والابتلاءات التي واجهتها من فرعون وقومه إلا أن ذلك لم يزد أتباعها إلا تحديا لعدوهم، وتمسكا بديانتهم، والتفافا حول نبيهم المنقذ، حتى أنجاهم الله عز وجل من عدوهم ونصرهم عليه، لكن الخطر الحقيقي الذي واجهته هذه الديانة، وهدد وحدتها بالتفتت، وعقيدتها بالانحراف عن منهج الحق، جاءها من شخصيات نافذة داخلها كبلعم بن باعوراء، وقارون، والسامري، فالأول أراد أن يستغل معرفته الدينية لإبطال دين الله خدمة لإغراض دنيوية رخيصة، فوصفه الله بأقبح صورة يمكن أن يوصف بها إنسان عندما قال عنه (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث)، والثاني أراد أن يستغل المال والثروة لإغواء الناس وحملهم على الميل لصالح الظالم الجبار بحجة التمتع بالمباهج والملذات، والثالث أراد أن يستغل مهارته في التضليل والخداع لإضلال الناس وتشجيعهم على الميل لعبادة العجل الذهبي العاجز وترك عبادة الله الواحد القهار بحجة أن هذا العجل هو الله - تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا.
وفعلا نجح هؤلاء في إيقاع ضرر بالغ بأتباع الديانة الموسوية يفوق بأضعاف كثيرة خطر فرعون وقومه لا زال تأثيره فيهم إلى الوقت الحاضر، كما أن الممارسات المنحرفة التي قام بها حاخامات اليهود وقادتهم عبر التاريخ جعلتهم يقدمون على حماقات كثيرة جلبت لهم الكره والنبذ والتعرض للأذى المؤلم من الآخرين، فأوقعهم ذلك في دائرة الخطر المستمر، بشكل لم يكن ليحصل لو اقتصر الأمر فقط على خطر أعدائهم الخارجيين.
كذلك الحال بالنسبة للديانة المسيحية، فهي لم تتعرض للخطر الحقيقي من أعدائها الخارجيين غير المنتمين إليها، بل إن هؤلاء (باستثناء اليهود طبعا) في بعض الأحيان كانوا يتعاطفون مع نبيها عليه السلام وأتباعه في بداية دعوتهم، لكن المؤامرة الكبيرة الأولى تعرضت لها هذه الديانة من احد أتباع عيسى عليه السلام المقربين وهو يهوذا الأسخربوطي وهي المؤامرة التي أراد فاعلها أن تنتهي بقتل المسيح عليه السلام مقابل دراهم ذهبية معدودة، كما أن المؤامرة الثانية والكبيرة واجهتها هذه الديانة من قبل بعض تلاميذ المسيح الأوائل عندما حرفوها عن منهج الحق، وأشربوها بعقائد الوثنيين والكفار لتنتهي إلى نتائج تخالف منهج التوحيد، كما تخالف منطق العقل، وقد استمرت هذه الديانة العظيمة تتعرض لإخطار كبيرة متواصلة أثارت حفيظة المنتمين إليها، فضلا عن غير المنتمين كان قادتها وزعمائها رهبان وقسس في أعلى المراتب البابوية، أوصلتهم آرائهم إلى محاكم التفتيش سيئة الصيت ومجازر الصراع الكاثوليكي البروتستانتي الشنيعة وغيرها.
وعند الانتقال إلى الحديث عن التاريخ الإسلامي، تجد أن هذا الدين كان يتدفق حيوية، وإنسانية، وسموا، وفضيلة، طالما أن أعدائه كانوا يقعون في خارج دائرته ولا ينتمون إلى ملته، لكن في الوقت الذي تظاهر هؤلاء بالانتماء إليه، وانتهزوا ذلك للإجهاز عليه، اخذ الكثير من أتباع هذا الدين العظيم ينحرفون عن سيرة سيد المرسلين، وتنحط فضائلهم إلى مستوى يندى له جبين الإنسانية، فنتج عن ذلك أحداث دموية مروعة سببتها فتن بني أمية وبني العباس والخوارج وأصحاب الجمل وغيرهم، تلك الفتن التي لا زالت الشعوب الإسلامية تعاني وطئتها، وتأن من بأسها، فتضعف شوكتها، ويتسلط عليها شرارها، بحجج شتى غالبا ما تستغل الدين في دعم مقولاتها ومزاعمها. هذا على مستوى مختصر لبيان الخطر الحقيقي الذي واجه الأديان الكبرى في تاريخها.
أما على مستوى مذهب التشيع، فيجد الباحث اللبيب أن تعرض أتباع هذا المذهب إلى العنف العقائدي والسياسي المستمر من قبل الآخرين على مر التاريخ، لم يزدهم إلا تماسكا وقوة أثارتا إعجاب الجميع، بل إن ذلك مدفوعا بكمال منهجهم الذي أرسى أسسه الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليه السلام أجمعين، ساعد على امتداد هذا المذهب جغرافيا ليدخل فيه بشرا من أقوام شتى، وجدوا فيه السلوى عن الظلم الذي يتعرضون له بسبب قسوة الحكومات والدول الفاسدة، وعقائدها الفكرية المنحرفة، وكيف لا يكون ذلك والعدل أصل من أصول الدين حسب هذا المذهب، والكفاءة مقياس التولي، والنزاهة مقياس العمل، والرحمة أساس المعاملة، والإنسانية أساس الدعوة، ورضا الله أساس النجاح، والوحدة أساس البناء، والاعتدال أساس السياسة.. فهذه الفضائل والقيم والأحكام شكلت على مر الأزمان حلم الإنسانية المنشود ودليل سعادتها المبتغاة، صدحت بها حناجر الفقهاء والعلماء والفلاسفة، وثار من اجلها الفقراء والضعفاء والمظلومين.. جاءت الحضارة الحديثة في القرن الحادي والعشرين بتطورها التكنولوجي والمعرفي الشامل، وبحاجاتها الإنسانية الملحة، وبترابط شعوبها وتقاربها المستمر لتوفر لها بيئة مناسبة جديدة للتمدد والانتشار لتصل إلى كل أرجاء المعمورة، وأي عدو خارجي، أي من غير المنتمين إلى هذا المذهب، لن يزيد عدائه السافر المتطرف وضيق الأفق هذا المذهب إلا انتشارا وترسيخا وتجديدا.
لكن التحدي الحقيقي والخطر القريب، الذي يهدد الشيعة مذهبا وأتباعا، ينبع من داخل المذهب نفسه، ومن المتنفذين فيه من القوى السياسية والدينية والاجتماعية، تلك القوى التي تجد نفسها - في بعض الأحيان- ولأول مرة في التاريخ تقتحم مناطق نفوذ كانت محرمة عليها لأسباب عدة، لكنها بدلا من أن تجعل الظروف السانحة لها فرصتها التاريخية لإثبات أصالة منهجها العقائدي، وسمو فضائله الأخلاقية، وإنسانية أتباعه، تضرب بعرض الحائط كل ذلك، فتتكالب على السلطة والمال والنفوذ واللذة المحرمة، لأسباب شخصية وحزبية ضيقة، وبحجج دينية يزج المذهب فيها زجا بدعوى رفع المظلومية والغبن عنه، فتتصرف تصرفات الجبابرة وأتباع الهوى من الحكام الظالمين والقوى السياسية المنحرفة التي سبقتها، ولا تقدم للناس نموذجا جديدا في الإدارة والحكم يتناسب مع عظمة مذهب التشيع، والبلوى أن بعض هذه القوى كانت في يوم ما تلعن وعاظ السلاطين من رجال الدين السالفين الذين يزينون للحاكم الظالم فعله الفاسد، لكنها اليوم تعمل على خلق طبقة جديدة من أمثال هؤلاء تصبغ عليها الشرعية الدينية لخداع الناس وتضليلهم.
إن وجود طبقة فاسدة من السياسيين ورجال الدين وأصحاب النفوذ الشيعة ستلحق الخطر الأعظم بمذهب التشيع، وستزيف أصوله ومبانيه الحضارية والإنسانية، وستوصل إلى العالم صورة مشوهة عنه وغير حقيقية، تضعف فاعليته العملية في حياة الناس، فتنفرهم منه، ولن ينظر إليه والى أتباعه سوى أنهم مظهر جديد لنظام حياتي وسياسي إسلامي فاسد ومنحرف وظالم.
كيف نواجه هذا الخطر؟
إن مواجهة الخطر الذي يهدد مذهب التشيع، ويتسبب به بعض المنتمين إليه من الطبقة النافذة المذكورة آنفا، يلقي عبئا ثقيلا على المرجعيات الدينية الشيعية الرشيدة لتبادر بسرعة إلى نزع الغطاء الديني عن هذه الطبقة، وتهديدها باللجوء إلى تحريك الشارع الشيعي خصوصا والإسلامي عموما لإسقاطها وإيجاد البديل عنها في حالة استمرارها على سلوكها الفاسد، فهذه المرجعيات طالما كان همها سمو الذين والمذهب، وحمايتهما من التشويه والتسقيط والتضليل، فإذا كان تهديم قبة العسكريين عليهما السلام استدعى من هذه المرجعيات أن تهب إلى الاجتماع لاتخاذ الموقف الصلب الواضح، فان وجود هذه الطبقة يشكل تهديدا صريحا يهدم مذهب أهل البيت عليهم السلام من الداخل، ويلقي بأتباعه صيدا سهلا بيد المفسدين، لينهبوا أموالهم وثرواتهم، وينتهكوا حقوقهم وحرياتهم، ويفسدوا عقولهم وضمائرهم، لذا تتطلب الضرورة أن تهب هذه المرجعيات إلى نزع القناع الزائف عن هذه الطبقة، وتوجيه الناس لاختيار البديل الأصلح حتى لو اقتضى الأمر ذكر أفراد هذه الطبقة بالأسماء والصفات، كما يتطلب الأمر إعادة الحيوية إلى المساجد لتكون منابر وعي وإرشاد ليس في أمور الدين فقط، بل وفي أمور الدنيا، فـ "من لا معاش له لا معاد له " كما قال نبي الرحمة والإنسانية، بل من المفيد لهذه المساجد أن توضح من على منابرها للناس من هو المسؤول عن بؤسهم وألمهم وضياع حقوقهم، والمسؤول الأول والأخير هو وجود هذه الطبقة وأمثالها في حياة الناس، فيتطلب الحال توجيه الناس ليقولوا لهذه الطبقات ما قاله أبو ذر الغفاري رحمة الله عليه لعثمان بن عفان عندما خاطبه قائلا: " يا عثمان أنت السبب في فقر الفقراء وغنى الأغنياء ".
هذا الدور النازع للأقنعة، والمرشد للناس، والضاغط من اجل الحق الذي يتطلبه الواقع من المرجعيات الدينية الرشيدة، ستكون له نتائج عملية مثمرة ومفيدة تمنح الحماية للشيعة والتشيع. كذلك تتطلب مواجهة هذا الخطر تحمل المسؤولية كاملة من المثقفين والأكاديميين والسياسيين الشرفاء والمكلفين الشيعة عموما، لمنع الانزلاق في فخ الطائفية السياسية الذي يبشر به بعض السياسيين من الشيعة وغيرهم لتحقيق مآرب سياسية ضيقة وغايات دنيوية رخيصة، فالعمل من اجل حياة أفضل، ومستقبل سعيد، وحكم عادل رشيد، وتوزيع عادل للثروة، وإدارة فاعلة نزيهة.. هو مطلب الشيعة كما هو مطلب غيرهم من أبناء الشعب الواحد والبلد الواحد، وان تحقيق ذلك بنجاح لن يكون بعزل مكون اجتماعي عن مكون اجتماعي آخر، بل لا بد من نضال أبناء جميع المكونات لتحقيق هذه الغاية، وهذا يقتضي نزع أسافين الفرقة والنفور والعداوة بين هذه المكونات، وتعزيز أواصر المحبة والتعاون والتعايش والاعتدال، فبهذه القيم وأمثالها تقدمت الشعوب، ولأجل هذه القيم وغيرها ضحى وعانى أئمة الهدى عليهم السلام أجمعين، فمطلوب تكثيف الجهود لبناء دولة مدنية معاصرة متماسكة أخلاقيا، يتعايش فيها الجميع بصرف النظر عن القومية والدين والمذهب، ولا يكون للفاسدين تأثير على مؤسساتها وقوانينها وسلوكياتها.