المواطنة في مواجهة العصبيات
أ.د. أسعد السحمراني
خلفية إشكالية:
لقد ظهرت في الساحات العربية منذ سنوات وإلى يومنا هذا أطروحاتٌ فكرية في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي تعتمد المنطلقات الفئوية، وتضع في مقاصدها الانتصار للعصبيات الرديئة، والتعصّبات القاتلة، والغايات المرسومة لهذه المسارات الفكرية التي تحوّلت إلى مجاميع حركيّة تتغذّى من أجنبيٍّ طامعٍ أو من محتلٍّ غاصبٍ، كي تنشر التفكيك للوحدة الوطنيّة، ومن أجل أن تصبح الأمّة العربيّة كياناتٍ طائفيّةً أو مذهبيّةً أو عرقيّةً أو غير ذلك خدمةً للمشروع الصهيوأمريكيّ المسمّى: الشرق الأوسط الجديد.
إنّ المخاطر التي تولّدت وتتوالدُ تأسيساً على هذه المسارات الفكريّة أو الحركيّة نتج منها حالات من التخريب والفوضى والقتل والدمار نشرت الرعب ويسّرت السبيل لقوى التطرّف، وهذا كلّه ليس من طبيعة ثقافتنا العربيّة الأصيلة التي يشكّل الإيمان بلا تعصّبٍ نقطة الارتكاز فيها.
إنّ الخروج من هذه الحالة المأزومة لا يكون إلّا بأن يلتزم أبناء الأمّة المواطنة ضمن أقطارهم وفي رحاب العروبة الحضاريّة الجامعة التي تحتضن التنوّع بكلّ أطيافه، والتي تؤسّس للوحدة في مواجهة الفُرقة والانقسام.
وقفةٌ مع المصطلح:
إنّ الكلام عن مواجهة العصبيّات يحتاج إلى اعتماد المنهج الوحدويّ في إطار الروح الوطنيّة العروبيّة التي تجمع ولا تفرّق، وتوحّد ولا تبدّد، وتشدّ أزر الأحرار العرب لتردّ بهم وبجهودهم كيد الشرق أوسطيين والصهيوأمريكان وكلّ أعداء الأمّة.
الوطن كما عرّفه ابن منظور في "لسان العرب": "الوطن: المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحلّه. أوطنه: اتّخذه وطناً".
الوطن إذاً هو مكان ولادة الإنسان ومحلّ ترعرعه وإقامته، والإنسان بفطرته يتعلّق بوطنه الذي عاش على ترابه، وتغذّى من خيراته، وتنشّق هواءه، وحصّل ثقافته، وتمتّع بمنجزات حضارته، وعاش مع أهله الألم والأمل، والواقع والتطلّعات، فأصبح حنينه إليه راسخاً في ذاته، ونما حبّه في قلبه بحيث أنّه لا يرغب بالخروج منه إلّا لضرورة.
ومن مفردة الوطن كانت مفردة وطنيّة. فالوطنيّة هي نعرةٌ في نفس الإنسان، أو شعورٌ جيّاشٌ يحرّكه حبّ الإنسان لوطنه، واعتزازه بالانتماء إليه، كما أنّ الوطنيّة توجب أن يكون الفرد مستعدًّا للتضحية من أجل الوطن لحمايته أو لتحريره من محتلٍّ، وللدفاع عن أهله، وللعمل من أجل تنميته وتطوّره، وللنضال من أجل استقراره على أساس الحرّية والعدالة. والوطنيّة مواقف إيجابيّة تنتج عن وجدان ذاخرٍ بالمحبّة والولاء، فيقترن ذلك بالدوافع التي تحثُّ الإنسان الوطنيّ على الابتكار والاكتشاف والإبداع، وكلّ ذلك مقصده رفعة الوطن. والوطنيّة روحٌ فرديّةٌ وجماعيّة غنيّةٌ بالإيجابيات وبأشكال العطاء والبذل.
أمّا المواطنة -وهي موضوعنا- فإنّها الهويّة الثقافيّة للفرد ولأهل مجتمع الأمّة التي تميّزه بسماتٍ وخصائص عن مواطني أمّة أخرى. فالمواطن العربيّ يستمدُّ من خصائص شخصيّة أمّته مكوّناتٍ ثقافيّة تتمثّل بالإيمان والفكر والآداب والإجتماع والفنون والأعراف وغير ذلك، وهذه الخصائص للمواطن العربيّ تميّزه عن مواطن آخر من قوميّةٍ أخرى. والمواطنة في أساسها التعدّدية؛ أي أنّ المواطنين في أمّة يكونون متنوّعي المعتقد والاهتمامات والفكر السياسي والمفاهيم الاجتماعية، ولكنّ هذه التعدّدية تجعلهم يتكاملون في إطار المواطنة الصالحة، وبذلك يكون في مرتكزات المواطنة قبول الشريك في الوطن والتأسيس لعيشٍ مشترك.
نصل من ذلك إلى القول إنّ المواطنة هي وحدة الولاء ووحدة الانتماء من قبل كلّ المكوّنات السكّانيّة لأهل البلد أو الأمّة رغم اختلافهم وتنوّعهم في الانتماء الدينيّ أو المذهبي أو في الأصل العرقي، فالوطن يحتضنهم جميعاً، وتقضي المواطنة الصالحة أن يتعاونوا من أجل بناء الوطن في كلّ مقوّماته على أسسٍ سليمةٍ في كلّ الميادين والمجالات، وعليهم العمل أيضاً من أجل تنميته والحفاظ عليه وحمايته من أيّ عدوان ينتقص من سيادته أو حقوقه، يُضاف إلى ذلك أنّ المواطنة تقضي بالتوافق والتعاون بين المواطنين كي يعيشوا حياةً كريمةً أساسها الاحترام، وتوافر الفرص المتكافئة أمام الجميع على قاعدة الحرّيّة والعدالة. والمواطنة تقضي كذلك التزام منظومة القيم الأصيلة في الأمّة وهذا معناه عدم قبول أيّ وافدٍ لا يتناسب مع شخصيّة الأمّة، كما أنّ المواطنة توجب الالتزام والمسؤولية، والاستعداد لأداء الدور من قبل الأفراد والجماعات بما يُعلي من شأن الوطن، ويشيّد بناءه على أساس العزّة والكرامة.
إنّ الدعوة للوحدة الوطنيّة والوحدة العربيّة تستلزم فهم المواطنة فهماً حقيقيًّا، والتزام نهجها بعيداً من كلّ ما هو فئويّ أو تعصّبيّ أو متطرّف، لأنّ كلّ هذا يقود إلى حالة من التنكّر والارتداد الذي هو شكلٌ من أشكال الخيانة للوطن والأمّة.
حبُّ الوطن فطرةٌ إنسانيّة:
إنّ كلّ إنسانٍ سويّ يولد مفطوراً على حبّ وطنه والتعلّق به، لأنّه تربّى بين جنباته، وتقوّت من ثمراته، وروى ظمأه من مائه وتشبّعت شخصيّته بمنظوماته القيميّة، وحمل هويته الثقافية.
أمّا إذا وجدنا متنكّراً لانتمائه الوطنيّ فإنّما يكون ذلك لفسادٍ في الفهم أو لانحرافٍ في الالتزام، أو لاختراقٍ معادٍ لمثل هذا الإنسان الذي يكون قد وقع في الخيانة الوطنيّة.
حبّ الوطن تعبيرٌ عن الوفاء عند الإنسان وهو موقفٌ حكيمٌ يعبّر عن شخصيّةٍ مستقيمةٍ صالحةٍ تعلم أنّ الوطن هو الكرامة وفي رحابه تتوافر للإنسان الحرية والعدالة والعزّة. ولقد عبّر المؤرّخ العربيّ المسعودي خير تعبيرٍ عن الوطنيّة، حين قال في كتابه: "مروج الذهب": "وقد ذكّرنا الحكماء – فيما خرجنا إليه من هذا المعنى – أنّ من علامة وفاء المرء، ودوام عهده، حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه، وأنّ من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقةٌ وإلى مسقط رأسها توّاقةٌ، وللإلف والعادة قطع الرجل نفسه لصلة وطنه.
وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منه بأوطانهم.
وقال بعض حكماء العرب: عمّر الله تعالى البلدان بحبّ الأوطان.
وقالت الهند: حُرمة بلدك عليك كحُرمة والديك، لأنّ غذاءك منهما وغذاؤهما منه.
وقال آخر: أولى البلدان بصيانتك بلدٌ رضعتَ ماءه وطَعِمْتَ غذاءه.
وقال آخر: ميلك إلى موضع مولدك من كرم محتدك.
وقال ابقراط: يداوى كلّ عليلٍ بعقاقير أرضه؛ فإنّ الطبيعة تتطلّع إلى هوائها، وتنزع إلى غذائها.
وقال أفلطون: غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها.
وقال جالينوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه كما تنبت الحبّة ببلل الأرض."
هكذا نرى أنّ المسعوديّ قد حشد مجموعة أقوالٍ في الحنين إلى الوطن وفي المناسبة معه في حالي الصحّة والسقم، ويبيّن ذلك أنّ الإنسان لا بديل له عن وطنه ولا عناصر لمكوّناته الجسميّة والعقلية خارج حدود الوطن الأصليّ، لذلك كان ارتباط كلّ إنسانٍ بوطنه من الفطرة ومن الاكتساب وعكس ذلك هو من الخيانة والانحراف.
إنّ مراجعة دعوات الأنبياء والرسل صلوات الله تعالى عليهم تبيّن أنّ كلّ واحدٍ منهم كان يبدأ من قومه وأبناء وطنه في مَهمّته الرسالية وفي دعوته لينطلق بعد ذلك إلى الأوطان الأخرى والأقوام الأخرى. وفي النصّ الإنجيليّ: "ولمّا أتمّ يسوع هذه الأمثال ذهب من هناك وجاء إلى وطنه، وأخذ يعلّم الناس في مجمعهم حتّى دُهشوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟... فقال لهم يسوع: لا يُزدرى نبيٌّ إلّا في وطنه وبيته". (إنجيل متّى، الإصحاح 13). وفي نصّ إنجيليّ آخر: "وبعد انقضاء اليومين مضى من هناك إلى الجليل. وكان يسوع نفسه قد أعلن أنّ لا يُكرّم نبيٌّ في وطنه". (إنجيل يوحنّا، الإصحاح الرابع). وتتبيّن الروح الوطنيّة حين يأتي النصّ الإنجيليّ متحدّثاً عن تعلّق المسيح عليه السلام بأورشليم القدس حيث ورد: "ولكن يجب عليّ أن أسير اليوم وغداً واليوم الذي بعدهما لأنّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يهلك في خارج أورشليم. أورشليم أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرّةٍ أردتُ أن أجمع أبناءكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا." (إنجيل لوقا، الإصحاح 13).
الوطن أرض الآباء والأجداد ومكان النشأة ولذلك أظهر المسيح عليه السلام واجب الإنسان تجاه وطنه وأبناء وطنه حيث اعتنى بهدايتهم وإنقاذهم ممّا هم فيه ولو أنّهم لم يبستجيبوا له، أو أنّ بعضهم قد أساء إليه.
وإذا انتقلنا إلى الإسلام فإننا نجد الأمر نفسه حيث عملَ النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم لنشر الهُدى ودين الحقّ بين قومه متحمّلاً أذاهم وتنكّرهم له، وكان الأمر مشيئة إلهيّة وأمراً ربّانيًّا وفي الآية الكريمة: "وأنذر عشيرتكَ الأقربين. واخفض جناحك لمن اتّبعكَ من المؤمنين. فإن عَصَوكَ فقُل إنّي بريءٌ ممّا تعملون." (سورة الشعراء، الآيات 214، 215، 216).
إذاً الدعوة تبدأ بين أهل الوطن فإن لم يقبلوا يواصل صاحب الرسالة دعوته إتماماً لمَهمّته ولا يعنيه فعل المنحرفين أو موقف المتنكّرين، هذا ما كان في المسيحيّة أو في الإسلام.
وعندما اشتدّ الأذى على الرسول عليه الصلاة والسلام في مكّة المكرّمة، أمر عدداً من صحابته أن يهاجروا إلى بلاد الحبشة حيث هي أرض صدقٍ وفيها النجاشيّ المسيحيّ الذي لا يُظلم عنده أحد، وكانت الهجرة الثانية للنبيّ عليه الصلاة والسلام وصحبه إلى المدينة المنوّرة وعندما أُخرج من مكّة المكرّمة خاطبها قائلاً: "ما أطيبكِ من بلدةٍ، وأحبّكِ إليّ، ولولا أنّ قومكِ أخرجوني ما سكنْتُ غيركِ". (أخرجه الترمذي في السنن والحاكم في المستدرك).
هذا الحنين إلى مكّة يعبّر عن مستوى رفيع من الحنين إلى الوطن ومن التزام خطّ المواطنة الصحيحة وقد جاء نصٌّ آخر يبيّن كيف أنّ الإنسان قد يشدّه الحنين إلى الوطن وهذا النصّ حديثٌ نبويٌّ فيه: "اللهمّ إمضِ بأصحابي هجرتهم التي هاجروها من مكّة إلى المدينة ولا تردّهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم. قال ابن عبد البرّ: "قوله ذلك لئلّا يتذرّع أحدٌ لأجل حبّ الوطن".
إنّ هذا الدعاء للصحابة كي يثبتوا على هجرتهم إلى المدينة مردّه أنّ من موجبات الانتماء وحبّ الوطن ما قد يدفعهم إلى العودة إلى مكّة المكرّمة.
ولقد ورد في النصّ القرآنيّ وعدٌ للرسول عليه الصلاة والسلام يطمئنه من خلال بشارةٍ بأنّ الله تعالى سيعيده إلى موطنه الذي أحبّ؛ أي مكّة المكرّمة. والنصّ قوله تعالى: "إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّكَ إلى معاد قُل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلالٍ مبين." (سورة القصص، الآية85) وعند القرطبيّ في تفسير الآية: "ختم الله تعالى السورة ببشارة نبيّه محمدٍ عليه الصلاة والسلام بردّه إلى مكّة قاهراً لأعدائه، وقيل: هو بشارةٌ له بالجنّة. والأوّل أكثر، وهو قول جابرٍ بن عبدالله، وابن عبّاس ومجاهد وغيرهم".
هذا الارتباط بالوطن الذي تترجمه وطنيّةٌ مشبعة بمفاهيم الإيمان والوفاء، والقيم والحضارة، والالتزام السليم، ظهرت كذلك عند أتباع الإسلام منذ عهد النبوّة حيث انتسب الكثير منهم إلى بلده فقيل: بلال الحبشيّ، وصهيب الروميّ، وسلمان الفارسيّ. أو انتسب بعضهم إلى قومه حيث قيل: أبو ذر الغفاريّ. وعندما يسير الباحثُ مع التاريخ العربيّ والإسلاميّ متابعاً يجد أنّ العلماء من اختصاصاتٍ عدّةٍ قد انتسبوا إلى موطنهم وبلدانهم ولم يعب عليهم أحدٌ ذلك، فهناك مثلاً: الحجازيّ، والمصريّ، والمغربيّ، والأندلسيّ، والدمشقيّ، والبغداديّ، والأصفهانيّ، والرازيّ، والبخاريّ...
تأسيساً على ما تقدّم يكون الانتماء إلى الوطن أصلاً وفطرةً في كلّ إنسان ولا يُنكره إلّا معاندٌ أو أحمقٌ أو متنكّرٌ خائنٌ لانتمائه.
المواطنة والعروبة:
لقد أكّد كثيرٌ من العلماء والمفكّرين على الانتماء الوطنيّ، وعلى أنّ المواطنة ضروريّة لتستقرّ شبكة العلاقات الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد. والوطن جغرافيا وشعب وحضارة ولغة وتاريخ ومصير وقيم وإيمان وأعراف وآمال وآلام يحياها الناس معاً، والوطن إطارٌ جامعٌ لأبنائه، دونما التفاتٍ إلى تنوّعاتهم عقديًّا أو عرقيًّا، لأنّ الانتماء إلى وطن وإلى أمّة إنّما هو انتماءٌ إلى اجتماعٌ بشريّ، وإذا خصّصنا الخطاب بالأمّة العربيّة، فإنّ الأمّة العربيّة وطن لكلّ أبنائها سواء كانوا من أصل عربيّ أو ممّن استعربوا لغة وثقافة وقيماً.
وممّن تحدّثوا في الموضوع المفكّر محمّد المبارك الدمشقيّ الذي قال: "تتفاعل أجزاء الشعب الواحد أو القوميّة الواحدة خلال عصور التاريخ بسبب الاشتراك في الأرض والأصل واللغة والمصالح والتاريخ والمعتقدات والعادات، وكلّما كانت عوامل الاشتراك هذه أكثر شمولاً وامتداداً وأعمق وأقوى وأدوم على الزمن، كان ارتباط أبناء الشعب وتضامنهم أقوى، وكان ظهور هذه القوميّة بمظهر الجسم الواحد ذي الحياة الواحدة أجلى وأوضح"
هذا المفهوم للقوميّة ولدورها في صناعة الوحدة والاستقرار في المجتمع بين أبناء وطن الأمّة، يقترن به مفهومٌ للوطنيّة طرحه الشيخ محمّد الغزالي المصري قائلاً: "والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفراً مستوحشاً، وحبّ الوطن غريزة متأصّلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه ويحنّ إليه إذا غاب عنه، ويدفع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتُقِص."
وقد بيّن الشيخ الغزاليّ مخاطر الفُرقة بين أبناء الوطن التي زرعها الاستعمار كي يمزّقه ويحقّق أطماعه فيه، فقال: " والأجزاء التي يتكوّن منها الوطن يكمّل بعضها بعضاً، وتكفل له كلّ حاجاته، كأنّها جميعاً ما تجمل قسماته إلّا باستوائها، أو مشاعر جسمٍ وأعضاؤه، فما يستطيع السعي ولا الحسّ إلّا بتعاونها وائتلافها.
وعندما قطّع الاستعمار هذه الأمّة أمماً، فرّق بين اليد وأختها، فما تستطيع أحدهما أن تصفّق وباعد بين السمع والبصر، وبينهما جميعاً والقلب فكان هذا التمزيق إبطالاً لكلّ مصلحةٍ مرتقبة".
الوطنيّة والقوميّة أساس انتماء الإنسان وفيهما تتحقّق المواطنة، والتنكّر لهما تنتج عنه العصبيّات بشتّى أنواعها من طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وعرقيّةٍ وجَهويّةٍ وأيّة عصبيات أخرى. وقد بيّن العلاقة بينهما ساطع الحُصريّ حيث قال: "إنّ الوطنيّة والقوميّة من النزعات الاجتماعيّة، ويجب أن نلاحظ فوق ذلك، أنّ كلّ واحدةٍ منهما – مثل سائر النزعات النفسيّة – تولّد بعض العواطف وتؤدّي إلى بعض الأفعال: إنّها تولّد في نفوس الأفراد بعض العواطف، وتحملهم على القيام ببعض الأعمال.
إنّ الإنسان يحبّ أمّته – تحت تأثير النزعة القوميّة- ويشعر نحوها بارتباطٍ قلبيّ شديد، ويعتبر نفسه جزءًا منها، فيفرح لكلّ ما يزيد مجدها، ويتألّم من كلّ ما يقلّل قوّتها. إنّه يصبو إلى رؤيتها قويّةً ناهضة، ويفتخر بأمجادها، ويتألّم لمصائبها وينزع إلى عمل كلّ ما يستطيع عمله للدفاع عن كيانها وعن كرامتها.
كما أنّ الإنسان يحبّ وطنه – تحت تأثير النزعة الوطنيّة – فيشعر نحوه بتعلّق قلبيٍّ عميق، فيفرح لسعادته، ويتفجّع عند نكبته، ويسعى لخدمته. حتّى إنّه لا يتأخّر عن التضحية في سبيله إذا اقتضى الحال."
إنّ المواطنة في أقطارنا العربيّة في إطار العروبة الحضاريّة إنّما تقوم على مقوّمات الوحدة التي نسجت شخصيّة الأمّة، وهذه المواطنة والعروبة لا مكان فيها لعنصريّة أو لعصبيّة أو لنزعةٍ فئويّة وممّن تحدّثوا في هذا الموضوع سمير طرابلسي الذي قال: "إنّ العروبة رابطةٌ حضاريّةٌ قوامها اللغة والثقافة، والأرض المشتركة، والمصالح الواحدة. والعروبة ترفض العنصريّة والطائفيّة، وتعتبرهما تمزيقاً لوحدة النسيج العربيّ، والعروبة لا تفرّق في الانتماء إليها بين مسلمٍ ومسيحيّ إلّا بمقدار التمسّك بروابطها والعمل وفق مصالحها."
وإذا كانت الأمّة العربيّة قد خضعت للاستعمار الغربيّ الذي قسّمها ضدّ إرادتها، وسلّم عقدة الوصل بينها فلسطين إلى الكيان الصهيونيّ الغاصب، فإنّ المطلوب أن يتّجه العمل الوحدويّ في وطن الأمّة العربيّة مراعياً ما حصل خلال المئة السنة الأخيرة؛ أيّ أن تكون المرونة سيّدة الموقف في الصيغة الوحدويّة وأن لا يكون هناك شكلٌ بعينه ولا أن يذهب الأمر إلى الضمّ القسريّ كنموذجٍ وحيد. وقد تحدّث في ذلك كمال شاتيلا(رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني) قائلاً: "يجب أن لا يوضع شرط الاندماج، فإذا ما قبل الشعب العربيّ الاندماج فليكن، أمّا إذا لم يقبل فعلينا أن نراعي ذلك وأن لا نفرض الاندماج بالقوّة، لذلك يكون الحديث على أنّ الوحدة يجب أن تكون اندماجيّةً ليس بمكانه، لأننا في هذه الحالة نصعّب الأمور، فالوحدة تكون بمضمون اتّحاديٍّ تكامليّ... وأصبح هناك شبه وطنيّة للأقطار سواءً بإرادتها أم بغير إرادتها، وعلينا أن نكون واقعيين، وأن نعتبر الوطنيّة جسراً للقوميّة، وليست القوميّة نفياً للوطنيّة".
هذه المفاهيم للوطنيّة والقوميّة تؤسّس لرابطة الوحدة وهي عامل القوّة الحاسم في مواجهة مخاطر مشاريع التفتيت والتجزئة التي تهبّ رياحها باسم الشرق أوسطيّة كي يمعن مشروع التقسيم في نشر الفتن والعصبيّات، ويؤسّس لكياناتٍ هزيلة يهيمن عليها العدوّ الصهيونيّ وشركاؤه الغربيّون.
إنّ كلّ دعوة ٍ للانفصال أو لإقامة كيانات سياسيّة على أساسٍ طائفيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ أو تحت أيّ مسمّى في الوطن العربيّ إنّما هي دعوة تخدم أعداء الأمّة. إنّ النداء: الوطنيّة هي النزعة السليمة، وحبّ الوطن هو معيار الصدق والوفاء، والمواطنة هي التي تؤمّن تحت سقف الوحدة عيشاً كريماً وتؤسّس للحرية والعدل والكفاية، وتصنع الاستقلال والتحرير والعزّة والكرامة.
خاتمة:
بعد هذا التطواف مع المفاهيم والنصوص يخلص الكلام إلى التوصيات الآتية:
1- إنّ المطلوب من الجميع أن يعزّزوا في وجدانهم حبّ الوطن، والروح الوحدويّة التي تقترن بالمسؤوليّة دونما استهتارٍ أو تهاونٍ في مواجهة كلّ وافدٍ أجنبيٍّ مسموم.
2- إنّ المواطنة تحتاج من كلّ مكوّنات البلد والأمّة التزام الحريّة بكلّ تجلّياتها مع الروح المسؤولة، ومعها العدالة لأنّ الظلم سببٌ في الضعف والتخاذل أو في صناعة الاتجاهات غير السليمة.
3- إنّ الوحدة الوطنيّة تعني أن يكون الجميع ملتزمين كلمةً سواءً وأن يكونوا معاً كالبنيان المرصوص لا أحد يسعى للهيمنة على أحد، ولا أحد ينازع لإلغاء آخر، بل المواطنة يعيش في رحابها الجميع بلا تمييز ولا تسلّط.
4- إنّ تنشئة الأجيال يجب أن تكون على أسسٍ تربويّة أصيلة تلتزم هويّة الأمّة ثقافيًّا، وتصون خصائصها، وهذه الأصالة تكون معها مواكبةٌ للعصر ومنجزاته دونما قبولٍ لأيّ تطاولٍ على منظومة الأمّة القيميّة، ولا تفريطٍ بالموروث الأخلاقيّ الذي يحصّن الأجيال استناداً إلى النصّ الديني الذي وضع الأسس لذلك.
5- صيانة الوحدة الوطنيّة من كلّ أشكال الانقسام والفرقة، ومواجهة كلّ طرحٍ فئويّ بأيّ اسمٍ تسمّى.
6- إنّ صنّاع الخطاب بكلّ مستوياته وأنواعه واجبهم هذه الأيّام أن يعمدوا إلى الحكمة ونشر التراحم والسماحة والألفة، وأن يتجنّبوا في الخطاب كلّ طرحٍ تحريضيٍّ أو كلّ دعوةٍ للتطرّف والغلوّ.
-- -----------------------------------------------------
المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، م2، بيروت، دار الفكر، ط5، سنة 1393هـ - 1973م.
الزرقانيّ، محمد بن عبد الباقي بن يوسف، شرح الزرقانيّ، ج4، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، سنة 1411هـ، ص82.
القرطبيّ، أبو عبدالله محمّد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، ج16، تحقيق أ.د. عبدالله عبدالمحسن التركي وآخرين، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ط1، سنة 1427هـ-2006م، ص329.
المبارك، أ.د. محمّد، الأمّة والعوامل المكوّنة لها، بيروت، دار الفكر، ط3، سنة 1395هـ-1975م، ص28.
الغزالي، الشيخ محمّد، حقيقة القوميّة العربيّة، القاهرة، دار نهضة مصر، سنة 1998م، ص86.
الغزالي، الشيخ محمّد، م.س.، ص119.
الحُصري، ساطع، أبحاثٌ مختارة في القوميّة العربيّة، ج1، بيروت، دار القدس، بدون تاريخ، ص32.
طرابلسي، المهندس سمير، دراسات في العروبة والإسلام، بيروت، المركز الوطني للدراسات والنشر، ط1، سنة 1998، ص33.
شاتيلا، كمال، العروبة في المواجهة، القاهرة، أوراق عربيّة للنشر، سنة 2010، ص21.