حكم الانسحاب من المدن وجبهات القتال
السؤال:
نريد الاستفسار عن حكم الانسحاب من المدن والقرى التي يقتحمها الشبيحة، ونخشى من وقوع المجازر بين النساء والأطفال والمدنيين، وهل هو من التولي يوم الزحف؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا يزال أعداء الله يحاربون المسلمين بكل طريق وسبيل ليصدوهم عن دين الله أو يخرجوهم منه، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ } [البقرة: 217]، ومن حربهم إخراج الآمنين من ديارهم، كما فعل أسلافهم، قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40].
وقد قامت العصابات النصيرية والرافضية في بلاد الشام -ضمن ما قامت به من جرائم كثيرة- بالضغط على إخواننا بالمجازر المروعة، والانتقام من الآهالي الآمنين بأبشع الطرق، بقصد تهجيرهم من ديارهم، ضمن خطة خبيثة لإفراغ قرى السُّنة من أهلها وخاصة في مناطق حمص وبانياس والساحل عمومًا على طريقة الصهاينة المجرمين في فلسطين المحتلة، ومن أجل ذلك نقول:
أولاً: يجب على المسلمين عامة أن يقفوا سدًا منيعًا أمام هذا العدوان الآثم بكل السبل المادية والمعنوية، القتالية والسياسية، ومَدِّ إخوانهم المجاهدين في بلاد الشام بكل عون من رجال وسلاح.
كما يجب على المجاهدين في بلاد الشام الدفع عن الأهالي الآمنين، والثبات والصمود في تلك المناطق قدر الإمكان؛ حماية للأنفس والأعراض، وإفشالاً لهذا المخطط الخبيث الذي سيكون خنجرًا في خاصرة المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وقد جاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين دفاعًا عن المدينة في غزوتي أحد والخندق، وكان هذا هدي صحابته من بعده، وعليه عمل المسلمين طوال القرون الماضية.
والدفاع عن الدين والنفس والأهل والمال والبلاد وأهلها من الجهاد المشروع، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد) أخرجه الترمذي.
ثانياً: نظراً لطبيعة الجهاد في سوريا، من وجود كتائب متعددة تعتمد في قتالها للنظام على مبدأ "الكر والفر"، فنرى أنَّه من الخطأ تطبيق أحكام الفرار والانسحاب التي ذكرها الفقهاء في جهاد الدفع بحذافيرها على هذا الجهاد، فلسنا أمام جيشين متقابلين بحيث يترتب على هزيمة جيش المسلمين ذهاب بلاد الإسلام.
ولذلك: يجوز -والحالة هذه- الثبات في الموضع، أو الانسحاب منه وتغييره؛ خداعًا للعدو واستدراجًا له، أو التحاقا بجبهات أو كتائب أخرى وفق ما تقتضيه مصلحة القتال.
ويجوز للمجاهدين الانسحاب إذا لم يكن في الصمود أو التمسك بالمنطقة كبير فائدة، أو إذا عَظُمَ القتل والخسارة في صفوفهم، كما فعل خالد بن الوليد –رضي الله عنه- في الانسحاب بجيش المسلمين في غزوة مؤتة، وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على فعله، وسماه سيف الله.
ومهما كانت الأرض مقدسة فإنها ليست أكثر قداسة من حرمة المسلم، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: "لَزَوَالُ الدُّنيا أَهْونُ على الله مِن قتلِ رجل مسلم"أَخرجه النسائي والترمذي.
ونظر ابنُ عمرَ يوما إِلى الكعبة فقال: "ما أعْظَمكِ وأَعظمَ حُرمتكِ، والمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منكِ" أخرجه الترمذي.
ولكن لا بد عند الانسحاب من مراعاة جملة من الأمور:
1- لا يجوز الانسحاب من المعركة بأي حال من الأحوال إذا كان سيترتب عليه انتهاك النظام لحرمات المسلمين.
قال ابن تيمية رحمه الله- في "الاختيارات الفقهية": "قتالُ الدفع: مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين ، فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا.
ونظيرُها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب".
2- لا بد أن يكون قرار الانسحاب بالتنسيق مع بقية الكتائب المجاهدة، وألا يكون مفاجئاً بحيث يضر ببقية بالكتائب، أو فيه تخلٍ عن جبهة قتالية وفتحها أمام العدو.
وكذلك لا بد قبل الانسحاب من إخلاء السكان الآمنين أو إخبارهم قبل مدة كافية للانسحاب.
ثالثًا: إذا خشي المستضعفون من النساء والولدان والشيوخ القتلَ واستباحةَ الحرماتِ والأعراضِ فيجوز لهم النجاةُ بأنفسهم إلى أماكن آمنة؛ فالحفاظ على الدين والعرض والنفس مقدم على الحفاظ على الأرض.
فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتركوا الديار والأموال من أجل الحفاظ على دينهم وأنفسهم، مع أن مكة هي أحب البقاع إلى الله قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحشر: 8].
رابعًا: لا ينبغي التوسع في توهم أن الانسحاب من المدن والقرى يحول دون وقوع المجازر بين النساء والأطفال، فيُفتح الباب للانسحاب وإخلاء الحصون والثغور والمواقع المهمة إيثارا للسلامة ، لاسيما وأنّ النظام المجرم يسعى اليوم إلى إخلاء بعض المدن الهامة من المدنيين والمقاتلين تمهيدا لمشروع الدولة النصيرية، أو الالتفاف على المناطق المحررة وحصارها.
وأخيرًا: نوصي إخواننا المجاهدين والسكان الآمنين بالأخذ بأسباب الثبات والتمكين، من إعداد العُدة، واحتساب الصبر في سبيل الله، وذكره والتقريب إليه بالدعاء والذكر والمناجاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، واليقين بنصر الله تعالى على هؤلاء المجرمين: : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
نسأل الله عزّ وجل أن يرد كيد المعتدين وأن يجعل أهلنا من الصابرين المحتسبينِ، والحمد لله رب العالمين.