ضرورة استراتيجية عربية لمواجهة تراجع اوباما

راغدة درغام

حان للمعارضة السورية وللدول الخليجية التي تدعمها لتغيير النظام في دمشق، العودة الى طاولة رسم الاستراتيجيات على ضوء التطورات الجذرية التي طرأت في الفترة الأخيرة.

فالرهان على الإخفاق في تنفيذ الاتفاق الأميركي – الروسي على تدمير الأسلحة الكيماوية السورية رهان سطحي لا يشكل سياسة. الحديث عن المؤتمر الدولي جنيف – 2 لإطلاق العملية السياسية الانتقالية في سورية بلغة اشتراط رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة في مطلع العملية وليس في آخرها انما هو حديث دفن الرؤوس في الرمال، ولا يشكل سياسة. الامتناع عن المشاركة في مؤتمر دولي عن سورية تشارك فيه الجمهورية الإسلامية الايرانية لأنها طرف مباشر في دعم النظام في دمشق يكاد يكون بمثابة «قطع الأنف انتقاماً من الوجه»، لا سيما في زمن صنع الصفقات الصغرى والكبرى برعاية روسية وشراكة ايرانية بامتياز.

أما الاعتقاد بأن سبيل اصلاح ما آلت اليه الأوضاع هو بالذات ما أفسدها – أي عبر اقناع الولايات المتحدة بالعودة عن الانعزالية في الشرق الأوسط – فإن ذلك أيضاً تكتيك بلا استراتيجية. لقد حان الوقت حقاً لجرعة من السم كتلك التي أشار اليها مرشد الثورة الإيرانية الأول آية الله الخميني وهو يوافق على تنفيذ قرار اطلاق النار مع عدوه آنذاك، العراق. ذلك ان المعطيات مختلفة الآن في أعقاب الوضوح التام ان لا مانع لدى الرئيس باراك أوباما ان يتولى محور الممانعة الذي تقوده روسيا مصير سورية حتى وإن كان هذا مرحلياً، أو أن كان في طيات التساهل الأميركي أكثر من حفرة ومطب لأقطاب محور الممانعة، الحاجة ماسة الى استراتيجية متكاملة ومتماسكة ترسم الخريطة الى العمل في حال ضرورة التصعيد العسكري، والعمل في حال البدء حقاً في صنع «الصفقة الكبرى» على مختلف الجبهات.

في البدء لا بد من الإيضاح ان كل من يقول ان بشار الأسد انتصر على باراك أوباما انما يجهل أو يتجاهل معنى خضوع الأسد لوضع الترسانة الكيماوية تحت الرقابة الدولية، ثم تدميرها. هذا خضوع وليس انتصاراً. انه إقرار بإخفاء ترسانة ضخمة قال النظام في دمشق انها جزء رئيس من المعادلة الاستراتيجية مع اسرائيل وأن هذا السلاح هدفه المقاومة. الآن، اضطر الأسد الى التخلص طوعاً من «سلاح المقاومة» فيما يتلقى دعم ايران و «حزب الله» باسم المقاومة.

ثانياً، ان إجبار رئيس روسيا فلاديمير بوتين بشار الأسد فتح الباب أمام المفتشين الدوليين سيكون مُلزِماً للإثنين، لأن قرار مجلس الأمن لتبني آلية تأمين الأسلحة وتدميرها سيكون ملزماً، وسيفتح الباب أمام عمليات تفتيش اضافية لكشف كامل الحقائق بما فيها تقصي إن كان هناك تهريب أو اخفاء للأسلحة.

غداً السبت هو الموعد الذي تقدم فيه الحكومة السورية اعلاناتها حول حجم ترسانتها الكيماوية. عبء الإثبات سيقع على أكتاف حكومة الأسد تماماً كما وقع عبء الإثبات على أكتاف حكومة صدام حسين لتبرهن مصير أسلحة بيولوجية وكيماوية أصرت بغداد على انها أتلفتها. مع حلول منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، يجب – وفق اطار التفاهم الأميركي – الروسي – ان يكون المفتشون الدوليون قد أكملوا مهمة التحقق من صدق الإعلانات الرسمية السورية حول الترسانة الكيماوية. وهذا سيفتح الباب على الكر والفر إذا كانت أنباء تهريب الأسلحة الكيماوية الى العراق والى «حزب الله» في لبنان أنباء صحيحة.

فالمعارضة السورية طلبت توسيع رقعة التأكد مما ستتقدم به دمشق حول ما تملكه من أسلحة كيماوية لتشمل مواقع «حزب الله» في لبنان زاعمة انها تملك معلومات تفيد بأنه تم حقاً تهريب أسلحة كيماوية الى «حزب الله». وعلى رغم ان الرد على الطلب ليس واضحاً بعد، ومع ان تدمير الأسلحة سيكون أسهل من التحقق من تهريبها أو اخفائها، إلا ان سورية اليوم تحت المجهر الدولي يدخلها مفتشون من مختلف أنحاء العالم ليتأكدوا من صدق كلام حكومتها ويطالبوا بالمزيد.

انه، إذاً، شبه انتصار موقت ومرحلي للرئيس السوري يتداخل معه الانصياع والخضوع لقرار مجلس الأمن ومراقبة دولية. هذا «الانتصار» قوامه ان نظام الأسد هو اليوم شريك في تنفيذ الاتفاق الروسي – الأميركي لتدمير أسلحته الكيماوية ضمن رزنامة تزامنت عمداً، مع موعد إجراء الانتخابات الرئاسية السورية. هكذا يبقى الأسد في السلطة – تماماً كما أصرت روسيا وإيران منذ البداية – حتى الانتخابات المقبلة. لكنه يبقى مكبلاً بعبء المراقبة والإثبات والانصياع.

فـ «الصفقة الصغرى» نحو الترسانة الكيماوية تأخذ الأسد شريكاً كحكومة، فيما بالأمس القريب كان الأسد نظاماً يجب زواله وفق المواقف الأميركية منه. لكن «الصفقة الكبرى» «Grand Bargain» ستستبعد الأسد في الوقت المناسب. والأرجح ان نضوج تلك الصفقة سيتزامن مع الانتخابات السورية. هذا إذا نضجت.

وكما ان «الصفقة الكبرى» ليست ممكنة من دون الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلاعب اقليمي مباشر في سورية وعبر حليفه «حزب الله» الذي يقاتل علناً إلى جانب نظام الأسد، ان تلك الصفقة غير ممكنة من دون مجلس التعاون الخليجي، تحديداً المملكة العربية السعودية.

اللاعب الروسي يتولى دفة القيادة وينسق كلياً مع حليفه الإيراني في سورية. وهو حريص جداً على إثبات صلابة وتماسك شراكاته وتحالفاته ليكون النموذج والمثال المعاكس للشراكات والتحالفات الأميركية مع الدول العربية وقوامها الاستغناء بلا إنذار والتملص من التعهدات. لذلك ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحرس موقع ايران في أي صفقة كبرى قد تكون آتية (وهو تشاور معها في شأن الصفقة الصغرى كي لا يبدو انه يهملها).

الرئيس باراك أوباما لا يفعل بالمثل مع حلفائه في الشرق الأوسط باستثناء اسرائيل. انه يفاجئ ولا يشاور. يتراجع من دون أن يُنذِر. ولذلك، فهو لن يحرص على حراسة موقع مجلس التعاون الخليجي في الصفقة الكبرى لأنه لن يخطر على باله ذلك بصورة استراتيجية. فقد سبق وتصرف بصورة لافتة نحو الحليف الخليجي عندما تجاهل محورية المملكة العربية السعودية في خريطة المنطقة. باراك أوباما لا يفكر من منطلق المحور، لا سيما انه عقد العزم على التحوّل الى الشرق، بعيداً من الشرق الأوسط. فلاديمير بوتين يبني استراتيجية استعادته النفوذ الدولي عبر تبني سياسة المحاور من «البريكس» الذي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية، الى محور الممانعة الذي يضم روسيا والصين وإيران ومعهم النظام في دمشق و «حزب الله».

هذا الواقع يتطلب من المملكة العربية السعودية ان ترسم موقعها في «الصفقة الكبرى» عبر محور عربي أساساً وليس عبر البوابة الأميركية. أوضاع اليوم لا تسمح بالاستمرار في التغيب عن المؤتمرات إذا حضرتها ايران وفي الامتناع عن الانخراط في صنع الصفقة الكبرى ما دام النظام في دمشق قائماً. فلا روسيا حليف لها في هذا المسعى، ولا الولايات المتحدة سند يمكن الاعتماد عليه. هذا وقت صوغ موقع مستقل عن الولايات المتحدة. وهذا يتطلب اعادة النظر في العلاقة الخليجية – الإيرانية.

حسناً فعل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في حرصه على الترحيب بالرئيس الإيراني الجديد الدكتور حسن روحاني الذي يشن بدوره حملة استقطاب الود والإعجاب عالمياً، لا سيما عبر زيارته الأسبوع المقبل لنيويورك للمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. الفارق بين الأسلوبين السعودي والإيراني هو ان طهران تشن حملة علنية لكسب المودة «Charm offensive» بانية على ما أسفر عنه الاتفاق الأميركي – الروسي من انعاش لها. أما الأسلوب السعودي، فإنه تقليدي بسرّيته بعيداً من الانفتاح.

العلاقات الثنائية السعودية – الإيرانية أو الخليجية – الإيرانية ليست على درجة عالية من السوء، بل يمكن وصفها بأنها بعيدة من التوتر والمواجهات المباشرة. حسناً، هذا جيد، انما لا يجوز ان تبقى العلاقات طبيعية ثنائياً وخليجياًَ وأن تستمر معها حروب يخوضها الطرفان بالوكالة في سورية الآن، العراق بالأمس، وربما في لبنان لاحقاً. هذه بلاد عربية تُدمر، وقد حان الوقت لاستراتيجية جديدة تمنع التدمير بدلاً من الاستمرار في الحروب بالنيابة. فهذه الحروب لا تقع في بلاد الفرس أو في اسرائيل. انها حروب على حساب الأرواح العربية.

فلا عجب في ان الرأي العام الغربي يعارض التدخل في سورية، لأنه ينظر الى الأمر من ناحية «عرباً يقتلون عرباً» غير مبالين إن كانت ايران أو روسيا وراء دعم طرف عربي دون الآخر. اسرائيل بالتأكيد لا تمانع. اسرائيل بالتأكيد عادت الى طاولة رسم السياسيات في أعقاب سلسلة تراجعات الرئيس أوباما. وهناك معلومات تفيد بأنها هي أيضاً لا تثق بالسياسة الأميركية الجديدة، وأنها باتت اليوم تنظر الى الرئيس السوري ليس كضامن لاستقرارها عبر الجولان وإنما تنظر اليه بأنه أصبح عنصر عدم استقرار لأنه فقد السيطرة وبات محرِّكاً لصعود التطرف الموالي له والمتطرف المعادي له.

نزول الرئيس أوباما عند املاءات الأمر الواقع لاستراتيجية محور الممانعة جعله يبدو حائطاً من السهل تسلقه على نمط المثل اللبناني القائل «حائطه واطي». الغاء رئيسة البرازيل زيارتها الى البيت الأبيض أتى بحجة الاحتجاج على التنصت والاستخبارات غير اللائقة بين الأصدقاء. لكن هذا ما كان ليحدث لو لم يكن أوباما اليوم في نظر البرازيل، ودول «بريكس»، ودول أخرى في العالم رئيس أميركا الذي يمكن القفز على «حائطه الواطي».

لعل الرئيس أوباما مقتنع بأن أسلوبه هو الأكثر حكمة لأنه سيتخلص من أسلحة سورية الكيماوية وأن تلك الأسلحة لن تُستخدم من الآن حتى تدميرها. لكن هذا ليس كافياً لأنه بذلك يكون حقاً اختزل مأساة الحرب السورية الى الأسلحة الكيماوية. فالشعب السوري لم يخرج في تظاهرات سلمية قبل سنتين ونصف السنة مطالباً بانضمام دمشق الى معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية. بل خرج مطالباً بالإصلاح والحرية – مبادئ قال أوباما انها تستحق الدعم لأنها عالمية – وعندما لاقى القمع والقصف لم يلاقِ سوى الانعزالية الأميركية والبريطانية بابتعاد كامل عن التصدي لانتهاكات القيم ومبادئ حقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية.

الاندهاش بهذا القدر من الازدواجية ليس سياسة. الاتكال على تغيير الرئيس الأميركي رأيه أو نهجه ليس سياسة ايضاً. الإصرار على ان نهج ايران الجديد ليس جديداً سوى في الحملة الدعائية ليس سياسة بل انه يتطلب بناء استراتيجية تمتحنه حقاً وفي صلب القرارات هذا يتطلب انخراطاً من نوع آخر لا يكتفي بتفاهمات ثنائية خليجية وإنما يدخل في حديث جديد نوعياً قوامه ليس الحروب بالنيابة وإنما التفاهمات الجذرية. فالامتناع عن الانخراط ليس سياسة. والحروب بالنيابة قد تنقلب على أوليائها.