من التزلف والشيتة إلى متلازمة لاربان
من التزلف والشيتة إلى متلازمة لاربان
عثمان أيت مهدي
يروى أنّ أحدَ ملوك الصين حين اعتلى العرش، تقدمت إليه جماعة صوتية ترحب به وتهنئه بهذا المنصب الكبير، ثمّ راحت تمجده وتثني على شجاعته وسعة صدره وصفاته النبيلة. أعجب الملك أيّما إعجاب بهذه الكلمات الجميلة، وطالب بمعرفة صاحبها ليكافأه. قالوا له: إننا نجهل صاحب هذه الكلمات، إننا نؤدي هذه الأغنية لكل ملك يعتلي هذا العرش.
كما يروى كذلك أنّ ملكا مات حماره فجأة، فجاء الخلق من كلّ مكان لتعزيته ومواساته لفقدانه الحمار. وعندما توفي الملك لم يحضر لجنازته أحد.
ومن الأمثال التي جادت به قرائح المتزلفين: مات القيصر يحيا القيصر، الذي يتزوج بأمي أناديه أبي، الدنيا مع الواقف..
صحيح أنّ الحياة لا تؤمن بالضعيف ولا تول له كثير الأهمية، فالدنيا تؤخذ غلابا، والتاريخ يكتبه الأقوياء، ودعاء الرسول (ص) بأنّ يعزّ الإسلام بأحد العمرين، دلالة شافية وكافية. وقد عبّر أبو القاسم الشابي على ذلك بتعبير جميل في قوله:
فلا الأفق يحضن ميْت الطيور === ولا النحل يلثم ميْت الزّهر
لكن، أن يتحول القوي إلى إلاه يعبد من دون الله، أو يخشى منه خشية العبد لربه، ويُتقرب إليه زلفا، فتلك مسألة دنيئة تحتاج إلى تصحيح وتوجيه حتى لا تطغى طبقة على طبقة، كما كان الحال قديما بين طبقة النبلاء والأسياد مع طبقة الفقراء والمحرومين.
يطغى على السياسة العربية التزلف والشيتة إلى درجة أنّها لم تترك قيما أخرى تبرز وتنمو وتتسع، مثل الكفاءة، الإخلاص للوطن، الصدق، الوفاء وغيرها من الأخلاق الكريمة التي لو توفرت في السياسة العربية لحملنا أنظمتنا فوق رؤوسنا، وقلنا لها السمع والطاعة، إنّنا لا نرى إلا ما يراه حاكمنا في السراء والضراء، لكن أن يصبح أهل التزلف والنفاق هم المقربون من الحاكم، ويتلونون تلون الحرباء بحسب المكان الذي يحيون في ظله، فتلك مسألة في غاية الخطورة لما لها من آثار سلبية على البلاد والعباد.
إلى جانب التزلف والشيتة اللتين استفحلتا في السياسة العربية، نجد كذلك ما اصطلح عليه بمتلازمة لاربان Le syndrome du larbin وهو سلوك مرضي يسعى اللاربان دائما للدفاع عن الطبقات الأكثر ثراء والأشدّ قوّة، على حساب الطبقة التي ينتمي إليها أو ينحدر منها. تُضعِف هذه المتلازمة قدرات صاحبها التحليلية، وتدفعه إلى تفضيل سلوك خدمة الآخرين الذين يستغلونه.
فرضيتان رئيسيتان تحاولان تحديد مصدر هذه المتلازمة، وهما: النظرية الوراثية والمرض العقلي.
ظهر اللاربانيون نتاج تزاوج بين الأسياد والعبيد بعد قرون من الإقطاع والعبودية، ما ولّد عندهم حبّ خدمة أسيادهم. وبحسب هذه الفرضية تكون عملية ظهور هذه المتلازمة أشبه بالتي نشاهدها عند بعض الحيوانات كالكلاب والبغال والخيول التي لديها القابلية لخدمة سيّدها.
أمّا المنادون بنظرية المرض العقلي، فيستبعدون الجانب الوراثي في الظاهرة، ويميلون إلى بعض الاضطرابات النفسية التي تطورت منذ الطفولة. تتعقد هذه الاضطرابات عند انتقال الطفل إلى مرحلة الرجولة واكتشافه للوضعية المزرية التي يحياها، فيحاول اللاربان أن يطوّر استراتيجيات وسلوكات دون شعور منه لإحداث توازن نفسي، فيتقبل طبقة الأسياد المستغلين لجهده وعمله ليشعر في قرارة نفسه بأنه منهم.
كم هم عدد المسؤولين العرب المصابين بهذه المتلازمة؟ الذين يحيون في ظل خدمات أسيادهم حبّا وتضحية. لا شكّ أنّ عددهم كبير جدا، أكتفي في هذه المقالة القصيرة بذكر أحدهم ارتبطت شخصيته بحصة تلفزيونية في قناة الجماهيرية "عشم الوطن" إنّه يوسف أمين شاكير الأرناؤوطي، الشهير بيوسف شاكير، صاحب السبحة الشهيرة التي لا تفارق يده، والمشعوذ الذي وظّف الجنّ للهتاف "الله، معمر، ليبيا وبس" هذا المشعوذ الذي أقنع نفسه ولم يقنع غيره بأنّ الجنّ أخبرته بأنّ هذه الثورة ما هي إلا لعبة أطفال، أو هي مخطط أجنبي تنفّذه الجرذان، والكلاب الضالة، مثلما كان يطلق القذافي على معارضيه.
أحضر شاكير معه في حصته "عشم الوطن"، أوراقا ومستندات لكشف من سماهم بالعملاء والخونة من المعارضين في الخارج، وتحدّث عنهم وعن عائلاتهم بالتجريح والقذف والسخرية. وقال عن سيّده وقائده معمر القذافي: إنّ الإنس والجن يحاربون تحت قيادته. ولم يكتف بهذا التضليل وتزييف الحقائق، بل أحضر في إحدى حلقاته أرواحا من أجل الخروج لتهتف: "الله، معمر، ليبيا وبس"، كما ادعى يوما بأنّ العواصف والأعاصير والكوارث التي تصيب أمريكا وأوروبا إنّما تأتي انتقاما للقائد وعائلته.
ما الذي حمل هذا اللاربان المثقف، للعب هذا الدور المضحك الذي أدخله مزبلة تاريخ الخونة والأنذال؟ ما الذي جعله يؤمن بانتصارات سيّده إلى آخر يوم من سقوط طرابلس؟ إذا لم يكن عامل الوراثة، أو اضطرابات نفسية عاشها في طفولته.