بوح آن آوانه
شادي الخش
لا يختلف إثنان من المراقبين للوضع السوري سواء على المستوى الداخلي أو العربي أو الدولي ، على أن المعارضة السورية تعاني من مشاكل رئيسية ومعقدة ، تبدأ من الانقسام والتفكك وعدم القدرة على التأثير الى عدم وجود شعبية مؤيدة لها في الداخل السوري ، الى تمترس الكثيرين من المخضرمين والذين يتولون الان مراكز قيادية فيها ، بمرجعيات انتماءاتهم السابقة ، والتي تؤثر سلبا وبشكل كبير على طريقتهم في معالجة المستجدات وتعاطيهم مع واقع دولي وإقليمي جديد ومتجدد.
ومن أكثر الإشكاليات بروزا وخطورة ، عدم قدرة المعارضة السورية بكل تشعباتها وانتماءاتها ، على الوصول الى صيغة عمل مشتركة ، او مشروع وطني جامع تتفق عليه كل الفرق ويكون خارطة الطريق التي يعمل الجميع وفق هديها ، لتحقيق الهدف المشترك الأول الذي من المفترض انه يجمعها ، وهو اسقاط نظام الاسد وإيجاد صيغة تفاهم موحدة حول المرحلة الانتقالية التي من المفترض ان تكون متفق عليها من الجميع ، للوصول الى وضع شبه مستقر تتحدد فيه شكل الدولة وماهيتها واسلوب إدارتها وفق إرادة جميع السوريين ، وبناء على أرضية ديمقراطية واضحة ونزيهة ، توصل السوريين الى مبتغاهم في دولتهم المنشودة.
من هنا يأتي الحديث عن المشروع الوطني الجامع ، الذي أضاعه السوريون في زحمة خلافاتهم وتسارع الاحداث حولهم ، وطبعا بإرادة البعض وعمله الدؤوب لدفن هذا المشروع ومضامينه.
هذا المشروع الذي كان نتيجة لأهم مؤتمر عُقد للمعارضة السورية ، والذي حظي بتأييد اغلب دول العالم وبرعاية الجامعة العربية والامم المتحدة والاتحاد الاوربي ، لما احتواه من رؤية ناضجة ومنفتحة واعتبره كثير من المحللين انموزج حقيقي لمشروع وطن ، يستطيع السوريون اذا ما التزموا به ان يعيدوا قيم التعايش السلمي ، وينقذوا انفسهم ووطنهم من مشوار طويل من الآلام والتشتت والحروب البينية التي لا يعلم احد اين منتهاها.
ففي الثالث من شهر يوليو من عام ٢٠١٢ اجتمع في القاهرة مايقارب من ثلاثمائة من المعارضين السوريين ، بحضور ممثلين عن اربعين دولة ، اضافة للمنظمات السيادية في العالم ، ليقروا وثائق هي الاهم بتاريخ الثورة السورية ضمت وثيقتين اساسيتين هما “ وثيقة العهد الوطني ووثيقة المرحلة الانتقالية “ وكانتا ناتج عمل لجنة تحضيرية ، مؤلفة من ثمانية عشر عضوا يمثلون أغلب التوجهات السياسية والفكرية والطائفية والمناطقية .
استطاعت هذه اللجنة أن تضع مشروع الوثائق التي عرضت على المؤتمرين ، الذين اطلعوا جميعا على فحواها وتم فتح نقاشات مطولة بمضامينها ، وبعد تشكيل لجنة لإعادة الصياغة تم تعديل بعض الفقرات التي لم يتم التوافق عليها ، ومن اهمها كان الموضوع الكوردي والخلاف الذي نشب بين بعض ممثلي القبائل السورية وبعض ممثلي الكورد ، وكانت نتيجته انسحاب ممثلي المجلس الوطني الكوردي وبعض التشكيلات السياسية الكوردية من المؤتمر ، رغم المحاولات والاجتماعات الجانبية الشاقة التي حاول فيها المجتمعون الوصول الى صيغة توافقية مرضية لكل الاطراف ، ولكن واثناء إنعقاد هذه الاجتماعات ، تم التوافق في القاعة الرئيسية على ان يتم الاقرار بكل ما أتى في الوثائق ماعدا عبارة “الشعب الكوردي” واستبدالها بعبارة ” القومية الكوردية “ وبعد التعديل توافق الجميع بإستثناء الممثلين السياسيين للأكراد على هذه الوثائق ، وتم اقرارها وأودعت لدى الجامعة العربية ، وسلمت لكل ممثلي الدول ، ومن ثم ترجمت ووزعت على كل الدول المعنية بالملف السوري.
وفيما بعد تم نقاشها نقاشا علنيا على المستوى الدولي في مؤتمر اصدقاء سوريا في باريس ، والذي اتى بعد ثلاثة ايام فقط من انتهاء مؤتمر القاهرة ، وفيه اشاد جميع ممثلوا الدول بمضمون هذه الوثائق مع ابدائهم الاستعداد لدعمها ودعم العمل بها.
اثناء عمل اللجنة التحضيرية للمؤتمر واثناء النقاشات العلنية خلال المؤتمر ، كان هناك موضوع اشكالي هو قضية إقرار تشكيل لجنة لمتابعة مقررات المؤتمر وما سينتج عنه من تفاهمات ووثائق ، لتعمل على نشرها وتطويرها وقد كانت قيادة المجلس الوطني ممثلة بأعضاء إعلان دمشق اضافة للإخوان المسلمين من اكثر الرافضين لتشكيلها والتي اعتبروا وجودها سحب للبساط من تحتهم ، وبعد عمل وجهد شاقين استغرق اكثر من شهر ونصف بعد المؤتمر تم تشكيل هذه اللجنة ، وضمت ممثلين عن مجموعة من التشكيلات السياسية ، اضافة الى الجيش الحر ، وبعض التشكيلات الثورية ، وتمت كل الاجتماعات التحضيرية لتشكيل اللجنة بحضور عدد كبير لأعضاء قياديين في المجلس الوطني ، الذين وبعد موافقتهم واشتراكهم في وضع الاوراق الاولى لمحددات عملها واسمها وصلاحياتها ، عادوا ورفضوا الانضمام واكتفوا بصفة مراقب ، على عكس المجلس الوطني الكوردي الذي ابدى مرونة عالية خلال النقاشات ، واشتركوا فيها بأكثر من عضو والتي كان من احد اهم بنود عملها ، الوصول الى حل للإشكال الخاص بالقضية الكوردية والمساهمة في صيغة نهائية للمسألة.
وبعد تشكيل اللجنة ورغم كل العقبات ، عمل اعضائها بمثابرة وإصرار لإنجاحها ، والوصول بها الى ان تكون قادرة على نشر هذه الوثائق وتطويرها ووضع البرامج الخاصة لإيصالها الى كل سوري في الداخل والخارج ، ولكن كان هناك إرادة حقيقية لدى البعض لإفشال أي جهد يبذل ليس في سبيل عرقلة عمل اللجنة فحسب بل في سبيل انهاء العمل بالمشروع الوطني نفسه وعدم وصوله الى ابعد مما وصل اليه.
فكانت الضربة القاضية في الدوحة عندما تقرر وبشكل مفاجئ تشكيل الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ، والذي لم يكن قد طُرح سابقا على الاقل حسب الشكل الذي تم ، وإنما كان هناك مشروع تقدم به مجموعة من المعارضين السوريين على رأسهم الاستاذ رياض سيف ، ينص على تشكيل هيئة تشريعية للثورة السورية بذراع تنفيذية تستطيع العمل لاحقا على الوصول لتشكيل قيادة حقيقية ، ولكن المشروع كله تحول الى وضع مشابه تماما بكل شيئ للمجلس الوطني بما فيه اشكالياته وعطالته.
ومن أهم المنجزات التي قام بها هذا لإئتلاف في اليوم الاول لتشكيله ، هو رفض وثائق القاهرة وعدم اعتبارها من الوثائق الاساسية للإئتلاف ، وكان الشيخ معاذ الخطيب الذي انتخب حينها رئيسا لهذا الإئتلاف رأس الحربة التي نُحر بها المشروع ، مع العلم بأن اثنا عشر عضوا من اعضاء اللجنة التحضيرية للمشروع الوطني تم اختيارهم من ضمن اعضاء الإئتلاف ، اضافة الى اعضاء اخرين كانوا من ضمن لجنة الصياغة الثانية ، إضافة الى أن الغالبية العظمى من اعضاء الإئتلاف كانو من الحاضرين لمؤتمر القاهرة والمُقرّين بالوثائق والموافقين عليها ، ومع ذلك لم يتمكن أو لم يرغب احد في الدفاع عن المشروع ، إلا عدد قليل جدا من الأعضاء الذين استسلموا بعد نقاش طويل ، وتدخُل لبعض ممثلي الدول لإرجاء الموضوع لما بعد إعلان الإئتلاف ، واسقط من يد الجميع وأعُلن عن قيام الإئتلاف بدون مشروع متفق عليه او خارطة طريق يتم العمل بمقتضاها.
واستمر الائتلاف ومن خلفه كل التشكيلات المعارضة تمضي ، كلٌ بفكر وطريقة في كثير من الاحيان ليس فيها شيء متفق عليه الا عبارة “ اسقاط النظام “ ، وفيما عداه كل شيء قابل للإختلاف حتى اسلوب اسقاط النظام مختلف عليه بين فصيل وآخر حتى بين اعضاء التشكيل الواحد لا تجد فكرة موحدة بما فيهم وعلى رأسهم اعضاء الإئتلاف الوطني انفسهم.
من هنا نجد وبعد تسارع المستجدات التي اصبحت تهدد كيان الدولة السورية ، سواء على المستوى الجغرافي او على المستوى الإجتماعي ، وبعد انتشار فوضى عارمة عسكرية وسياسية ومدنية وانسانية وغيرها من تنسيقيات وفرق عمل اغاثية ، بدون اي فكر جامع يسيرها او يكون منطلق لعملها
وبعد التهديدات الامريكية بضربة عسكرية للنظام في سوريا ، والتي لم يُعرف بعد حجمها او تأثيرها سواء على نظام الاسد او على سوريا ككل او على مستقبل الثورة السورية بعدها.
وفي ظل الخواء الذي اشرت إليه سابقا بخصوص عدم وجود مشروع وطني جامع يشكل ركيزة للبدء بالعمل الحقيقي ، في البناء وإصلاح الأضرار الكارثية الناتجة عن همجية النظام ، وتفكك روابط العقد الاجتماعي في كثير من المناطق السورية ، إضافة الى الإنهيار الاقتصادي والبنيوي ومشاكل ما بعد الحرب ، من عودة اللاجئين الى معالجة الاشكاليات النفسية والجسدية للشعب السوري الى انهيار كثير من البنية التحتية والوسائل المساعدة للتعليم والصحة والنقل وغيرها الكثير الكثير من التحديات ، التي تستلزم وجود خطة عمل متكاملة ومتفق عليها سابقا للبدء الفوري بالعمل بها ، سواء لمرحلة ماقبل السقوط او للمرحلة التي تلي سقوطه مباشرة.
كل ذلك يدفعنا الى ضرورة العودة للمشروع المتفق عليه ، وإعتباره ارضية ننطلق منها لإيجاد صيغة نهائية للمشروع الوطني ، يتم التوافق عليها وإعتبارها خارطة طريق لجميع السوريين ، تستطيع ان تضبط الفوضى الحاصلة والتشرذم الواضح بين كل الأطراف وتمهد الطريق لعمل مؤسساتي واضح يُعبّر عن عقلية قادرة على إدارة الدولة ومواجهة تحديات المستقبل.
وأنا أدعو الجميع من أعضاء الإئتلاف الوطني ، الى أعضاء المجلس الوطني ، الى كل التشكيلات الوطنية ، والسوريين القادرين الغيورين على مستقبل هذا الوطن والشعب ، للبدء الفوري بالعمل للوصول الى ، إعادة تشكيل لجنة للمتابعة والدراسات تنطلق بعملها من أرضية التفاهمات السابقة والمُجمع عليها في مؤتمر القاهرة ، لتطويرها ومراجعتها بمشاركة الكل للوصول لصيغة نهائية متوافق عليها ، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتفادي كوارث حقيقية واضحة آتية لامحالة اذا لم يتم العمل الآن وبدون تردد.
وآمل ان تلقى صرختي هذه تجاوبا قبل فوات الآوان.