كيماوي النظام السوري وفبركاته
د. محمود نديم نحاس
تحدثت في مقالتي السابقة عن جرائم النظام السوري ضد الإنسانية والتي رواها أنور مالك، المراقب الجزائري الذي كان ضمن وفد المراقبين العرب الذين أرسلتهم جامعة الدول العربية لاستطلاع الوضع في سوريا في بداية الثورة. وما كاد حبر قلمي يجف حتى فجعنا الأسد بجريمة جديدة استخدم فيها السلاح الكيماوي المحرّم دولياً، في جرأة عجيبة على الإجرام ضد شعب أعزل، فارتقت أرواح أكثر من ألف وثلاثمائة شهيد إلى بارئها، وكانت نسبة الأطفال والنساء فيهم أكثر من الثلثين. يفعل هذا في الوقت الذي يستقبل فيه اللجنة الدولية للتحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية، لكنه حدد لهذه اللجنة الأماكن التي يمكن أن تزورها، وسيمنعها من زيارة مدن غوطة دمشق التي قصفها مؤخراً.
أما عن فبركاته فأكمل هنا سرد ما بدأتُه في المقالة السابقة عن ندوة أنور مالك الذي قال: ذهبنا لتوثيق حادثة مقتل ضابطين أحدهما متقاعد وابنه ملازم، فلما وصلنا لم نسمع إلا كلمات في سب الصحابة وأم المؤمنين عائشة. ولم نعرف ما دخل الصحابة وأم المؤمنين في الموضوع! واكتشفنا أن القتل تم برصاص من النوع الذي يتفجر عندما يخترق الجسم، وهو غالي الثمن، ولا يتوفر إلا في خلايا خاصة في الجيش متخصصة بالاغتيالات! يقول: فطلبت من الطبيب أن يوثق أن القتل تم بمثل هذا الرصاص، فاستأذن للذهاب للمكتب، ولم يعد، ولما سألت عنه أحد الضباط، أنكر وجود طبيب، وقال: أكيد أنك خلطت بين مشهد اليوم ومشهد آخر! يقول: فأريته الصور وفيها الطبيب، فقال: هذا مكان آخر، فأريته حتى صورته هو، فأنكر وقال: الأماكن تتشابه!
ويقول بأن محافظ حمص اتهم الثوار بأنهم جماعات إرهابية طائفية. فسألته: كيف عرفت؟ قال: قتلوا عسكرياً وكتبوا على صدره كلمة معاوية! فأجابه: حسب فقه الجرائم، فإن المجرم عندما يترك دليلاً عن عمد فإنه يريد توجيه التهمة إلى جهة أخرى! ويؤكد أنه سمع كلمة الطائفية من النظام، ولم يسمعها في الأحياء الثائرة أبداً. وفي باب السباع في حمص التقى شيخاً علوياً تكلم ضد بشار كلاماً سيئا وأخبره بأنه عندما يسافر لا يأتمن على بناته إلا أهل السنة. وأشار كذلك إلى أن المسيحيين في بابا عمرو كانوا مع المسلمين يدا بيد.
ويذكر أن البروتوكول الموضوع للمراقبين لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع. فمثلاً: لا يمكن لهم أن يتحركوا إلا بحراسة حكومية! وعندما وصلنا حي بابا عمرو الذي كان يسيطر عليه الجيش الحر، وجدنا أن الحراسة الحكومية لن تذهب معنا، بل قال لنا أحد المسؤولين الأمنيين: إذا أصابكم شيء من الجماعات الإرهابية فنحن غير مسؤولين. يقول: لكننا كنا مضطرين للذهاب للطرف الآخر للقيام بعملنا، فوجدنا أنفسنا أمام خيارين: إما أن نطبق البروتوكول وإما نقوم بواجبنا، فاخترنا الثاني وعلى مسؤوليتنا.
وأشار إلى عقلية الفبركة عند النظام. فقال مرة لمحافظ حمص بأنه رأى أطفالاً قُتلوا، فقال: هم يقتلون أولادهم ليسيؤوا إلى الحكومة! فأجابه: لماذا لا تقتل أولادك لتسيء إليهم؟ وأنا مستعد لأخذ الصور وإرسالها إلى مجلس الأمن؟
قيل لهم بأن ثمانمائة معتقل أُطلق سراحهم، لكن خلال وجوده لم يُطلق سوى خمسة أشخاص وجثتين! وكان ذلك في عملية مقايضة مع الثوار. ويضيف: كانوا يأخذوننا إلى السجون ثم يطلقون مساجين غير المساجين الذين أسماؤهم معنا في قائمة الأهالي وعددهم أكثر من 1500 معتقل. فهم يطلقون نوعين من المساجين: إما شبيحة يتم التمثيل علينا بأنهم معتقلون، أو من المجرمين المحكومين بجرائم، يطلقونهم ليكونوا شبيحة.
ويضرب مثالاً على الفبركات ما حدث معه في الأمن السياسي حيث قابل شخصاً يبكي، فسأله عن حالته: فقال أنا إرهابي ومن القاعدة وتورطت وقتلت سبعين شخصاً وأخطأت بحق الرئيس وعملت متفجرات... فأكد الضابط القصة، ثم طلب من الجنود أن يأتوا بالأسلحة التي أمسكوها معه، فكان ثلاثة منهم يذهبون ويأتون بها على عدة دفعات، فسألهم: كيف استطاع أن يحمل كل هذا السلاح؟ فقالوا عثرنا عليه في مركز وكان معه سيارات. ثم أخذ الضابط يقرأ الجرائم التي قام بها المعتقل وهي: الانتماء إلى جماعة إرهابية، والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، والإبادة الجماعية، والاختطاف، والاغتصاب... يقول: في اليوم التالي ذهبنا إلى أحد الأحياء الموالية للنظام فرأيت الرجل الإرهابي نفسه في مظاهرة مؤيدة. ولما واجه المحافظ بهذه المسرحية أجابه: يبدو أن عندك مشكلة مع النظام السوري! فلما أراه الصور قال المحافظ: يخلق من الشبه أربعيناً. يقول فأجبته: أصدّق أن الله يخلق أربعين متشابهين في الوجه، لكن أربعين في البنطلون وأربعين في الجاكت وأربعين في السترة، فهذه مائة وستون! ولما عاد للأمن السياسي ليقابل الإرهابي مرة أخرى، أتى الضابط بشخص آخر وحاول إقناعه بأنه هو الذي قابله بالأمس.
وتحدث عن امرأة كانت تتسول منهم وتقول بأن أولادها قتلتهم الجماعات الإرهابية، ثم ذهب إلى مستشفى فرآها هي الطبيبة، ثم رأها في مكان آخر وكانت صحفية... إلى آخر ما هنالك من أدوار. وكلها تمثيليات كان النظام يحاول أن يخدعهم بها ليأخذوا روايته عن الحوادث.
وفي أحد الأحياء الموالية كان هناك مظاهرة مؤيدة للنظام راحت تشتم المراقبين وتقول لهم إنكم من الجامعة العبرية، وعليكم أن تقفوا حتى تسجلوا قصة الحلاق لتوصلوها إلى الأمم المتحدة. فسألوهم: وما قصته؟ فقالوا: هو فلان كان يركب سيارته فاعترضته جماعة إرهابية من بابا عمرو وذبحته بالسكين! ثم في حي آخر طلب منهم متظاهرون أن يكتبوا قصة الحلاق! كان الاسم نفسه، لكن كان نائما مع زوجته، فسقط عليه صاروخ من الجماعات الإرهابية فقُتل! وفي مكان ثالث كانت قصة الحلاق نفسه مختلفة، فقد كان في محله يحلق لطفل فتسللت جماعة إرهابية وأعدمته أمام الطفل! وهكذا كان للحلاق نفسه سبع روايات. وبعد عدة أيام جاءه الحلاق يحمل الاسم نفسه واشتكى له من قصة أخرى!
وفي مكان آخر جاءه شخص مع صورة ضابط يدّعي بأنه ابنه وقد قتله الزعماء العرب الذين يدعمون الجماعات الإرهابية، وأعطاه محاضرة لمدة ساعة في العروبة والوطنية وبأنه يجب أن يقف مع الحق... وبعد يومين جاءه شخص آخر ومعه الصورة نفسها ويشتكي شكوى مماثلة! فأخبره بأن أباً آخر قد أعطاه هذه الصورة، فراح يؤكد أنه ابنه. فقال له المراقب: ابحث عن ضرتك ثم تعال لنعرف الأب الحقيقي لصاحب الصورة.