ما عوامل إزاحة مرسي؟
د.غازي التوبة
ألغى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية في استانبول عام 1926م. وعم الحزن والغضب العالم الإسلامي، وقد عبر أحمد شوقي عن ذلك فنظم قصيدة مطلعها::
يا أخت أندلس عليك سلام ==== هوت الخلافة عنك والإسلام
وتحرك العلماء والدعاة والجماعات والمؤسسات لمواجهة هذا الحدث الكبير، فكتب رشيد رضا كتاب (الإمامة العظمى)، وأنشأ بعض الدعاة جمعية (الشبان المسلمين) عام 1927م في القاهرة، وأنشأ حسن البنا (الإخوان المسلمين) عام 1928م، وكان استرجاع الخلافة وإعادة تطبيق الإسلام في أرجاء الأرض الإسلامية أحد الأهداف الرئيسية التي أنشئ من أجلها الإخوان.
وقد استطاع الإخوان في مصر إيصال محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية بعد انتخابات ساعدهم فيها التيار الإسلامي في مصر، وبالفعل فقد استلم محمد مرسي رئاسة الجمهورية في 30 حزيران (يونيو) 2012م، لكنه أزيح في 3 تموز (يوليو) 2013م، فلماذا جاء هذا التعثر؟ ولماذا أزيح مرسي عن الرئاسة؟ وكيف أزيح عن الرئاسة؟ وما العوامل التي ساعدت على إزاحته؟ هناك عدة عوامل ساعدت على إزاحة محمد مرسي عن رئاسة الجمهورية، وهي:
1- العلمنة المبكرة للمجتمع المصري:
تعرض المجتمع المصري إلى علمنة مبكرة بدأت منذ القرن التاسع عشر، فقد أعلن اسماعيل باشا خديوي مصر في منتصف القرن التاسع عشر "أن مصر قطعة من أوروبا" وهو يعني بذلك أن مصر يجب أن تسير حسب النهج الغربي آنذاك.
كما جاء طه حسين في مطلع القرن العشرين ليعلن بأن على مصر أن تأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها إذا أرادت أن تصبح دولة متحضرة متقدمة، وقد دعت إلى ذلك كل عناصر النخبة الثقافية المعروفة في مصر من أمثال أحمد لطفي السيد واسماعيل مظهر ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد الذي كان مفتونا بالنهج السياسي الانجليزي إلخ....
وإن أبرز الحقائق التي كان يدعو إليها أولئك المثقفون متأثرين بالحضارة الغربية هي: فصل الدين عن الدولة، وحصر الدين في المسجد والكنيسة، ونقل التجربة الغربية التي تقوم على بناء الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية بعيدا عن الأحكام الدينية.
ثم جاءت ثورة 1952، وفرض جمال عبدالناصر في الستينات المبادئ الاشتراكية الشيوعية التي لا تحقق العلمنة التي تقوم على فصل الدين عن الدولة فحسب، بل تقوم على اقتلاع الدين من حياة الناس، والتشكيك في قيمه ودوره ومبادئه وحقائقه.
إن محاولات العلمنة الطويلة –تلك- واتي استعرضنا ملامحها بشكل سريع، أدت في مصر إلى تكوين جزء من الشعب المصري يتراوح موقفه من الدين الإسلامي بين إبعاده عن الحكم وقصره على المسجد، وبين اقتلاعه من عقول الناس لأنه خرافات وأوهام لا حقيقة لها، لكن معظم الشعب بقي إلى جانب الدين، مؤمنا بدوره ورسالته وضرورة تفعيل تشريعاته وبسط مبادئه على مختلف أمور المجتمع المصري.
لقد أظهرت الانتخابات المتعددة التي قامت بعد ثورة 25 يناير 2011 للبرلمان ومجلس الشورى والرئاسة والاستفتاءات المتعددة على الدستور المصري صحة الحقيقة السابقة، وهي: أن الشعب المصري مازال مع الإسلام، وأن محاولات العلمنة كسبت أقلية من المجتمع المصري، وأن الأغلبية استعصت على محاولات العلمنة، وبقيت على قناعتها بأن الدين الإسلامي يجب أن يسود مختلف مناحي الحياة، وهذا ما أكدته صناديق الاقتراع، وهي التي أوصلت مرسي إلى سدة الرئاسة.
لكن هذه القلة العلمانية هي التي تصدرت المشهد السياسي خلال الشهرين الماضيين، وهي التي رفعت عقيرتها بضرورة إسقاط مرسي وإبعاده عن سدة الرئاسة.
2- الدعوة إلى التغيير المبكر للهوية:
قامت دعوة مبكرة لسلخ مصر من انتمائها العربي والإسلامي، واعتبارها أمة مصرية منفصلة، تعود في جذورها إلى الفرعونية المصرية القديمة، وأن عليها أن تعي هذه الحقيقة وتتعامل معها، وقد جاءت هذه الدعوة بعد الحرب العالمية الأولى، وودعا إليها كبار رجالات مصر من أمثال سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى ولويس عوض إلخ......
ثم جاء عبدالناصر عام 1952م، ونادى بالقومية العربية، وأعاد مصر إلى انتمائها العربي، لكن السادات وبعد أن وقع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 فقاطعه العرب، رفع حدة الولاء إلى مصر الفرعونية، ثم جاء حسني مبارك ليسير على نهج السادات، ولتنكفئ مصر إلى شؤونها الداخلية، ويصبح دورها محدودا في المجال العربي.
إن كل تلك المحاولات جعلت قسما من الشعب المصري يعتقد أن مصر (أمة فرعونية) ولا علاقة لها بالعرب ولا بالإسلام، ولكن هذا الكلام غير حقيقي، لأن الإسلام متغلغل في كل مجالات الحياة المصرية من اجتماع وثقافة وفكر وتربية وفن وأخلاق وقيم إلخ.....، ولا يمكن فهم الظواهر الإنسانية التي تقوم عليها حياة الشعب المصري من عادات وتقاليد ولباس وطعام وأذواق وتطلعات وآمال إلخ.... إلا من خلال مبادئ الإسلام وتعاليمه وقيمه وأفكاره.
لم تنجح محاولات سلخ الشعب المصري من انتمائه العربي والإسلامي لأنها دعوة غير واقعية، لذلك حدث تراجع عن الفرعونية في خمسينيات القرن الماضي، فكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعمر وكتب عن منزل الوحي إلخ...، وكتب طه حسين إسلامياته، وكتب العقاد عبقرياته إلخ....، وأصبح صوت انتماء الشعب المصري إلى الإسلام أقوى صوت.
ومع ذلك فإن محاولة سلخ الشعب المصري من هويته العربية والإسلامية نجحت في اقتطاع جزء من الشعب المصري، وهو الذي وقف في وجه مرسي، وهو الذي لا يتقبل توجه مرسي الإسلامي، ولا يقبل صبغه لمصر بالصبغة الإسلامية.
3- الجيش المصري:
لقد لعب الجيش المصري دورا فاعلا في قيادة الشعب المصري بعد انقلاب عام 1952م، واستلم السلطة بشكل مباشر في عهد جمال عبدالناصر، واستمر ذلك خلال عهدي السادات ومبارك، وقد اهتم أولئك الحكام بالجيش اهتماما كبيرا لأنه أهم مؤسسة بيدهم، وهو عماد الدولة وحافظها وراعيها، وقد اهتموا بأن يكون منسجما مع تفكيرهم، ولما كان الحكام علمانيي التوجه جعلوا الجيش علمانيا مثلهم، ومنعوا أن تدخل أية تأثيرات أخرى إلى الجيش من الإسلاميين وغيرهم.
وقد أصبح الجيش المصري ذا علاقات وثيقة بالجيش الأمريكي بعد أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 مع إسرائيل، والتي كانت أمريكا ضامنة لها، وقد التزمت أمريكا بتزويد الجيش المصري بالسلاح، كما التزمت بدفع مليار ونيف دولار كمساعدة سنوية، وقد فتحت هذه المعاهدة قناة اتصال بين قيادة الجيش الأمريكي والجيش المصري، ومن المؤكد أن قناة الاتصال تلك ستدعم الاتجاه العلماني في الجيش المصري، لأن ذلك سيخدم السياسة الأمريكية وتوجهاتها.
ومن المرجح أن يشتمل التعاون العسكري بين مصر وأمريكا نقل الخبرات، والتشاور، وإعطاء النصائح حينا، والأوامر حينا آخر.
وعندما تحركت المعارضة في مصر ضد مرسي وسياساته واتهمته بأخونة الدولة، تحرك الجيش بقيادة عبدالفتاح السيسي، وطلب من الطرفين الاجتماع لحل الخلاف، ثم حشدت المعارضة الحشود في 30 حزيران (يونيو) من أجل دعوة مرسي إلى الاستقالة، وقدر الجيش عدد المتظاهرين بأربعة ملايين، لذلك أعطى الجيش 48 ساعة لمرسي من أجل فض النزاع مع المعارضة وإلا فإنه سيتدخل، وبالفعل أعلن عبدالفتاح السيسي يوم 3 تموز (يوليو) 2013 خارطة طريق تضمنت عزل مرسي، فلماذا فعل عبدالفتاح السيسي قائد الجيش المصري ذلك؟
فعل ذلك لأن الجيش علماني التوجه، وهو يلتقي مع المعارضة في توجهها العلماني القطري، وبهذا أصبح الجيش المصري يلعب دور الحامي والراعي للعلمانية والعلمانيين في الدولة المصرية، كما يفعل الجيش التركي ذلك في الدولة التركية.
الخلاصة: تضافرت ثلاثة عوامل على إزاحة مرسي عن كرسي الرئاسة، وهي: التيار العلماني، والتيار الفرعوني القطري، والجيش المصري، وقد تبلورت هذه العوامل خلال القرن الماضي، وكان العاملان الأولان محدودي العدد والقوة، لكنهما عوّضا ذلك بتدخل الجيش المصري الذي أصبح راعيا للعلمانية.