متعة الموضوعية والاتزان
عمر بن عبد المجيد البيانوني
1ـ آفة الكلام سطوة الهوى، ونشوة النفس بالتميُّز والترفُّع على الأقران، فإذا اجتمع إلى ذلك نقد أفكار الآخرين وأقوالهم، وكشف أخطائهم كان لذلك متعة للنفس، تزيد من غلوائها، وتتجاوز حدَّها إلى التجريح والتسفيه والاتِّهام..
وقلَّ مَنْ ينتبه لآفات النفس في ذلك، ويقف بها عند حدِّ الشرع وأدب الحوار والقول.. ومن يجاهد نفسَهُ، ويتجرَّد عن تلك الآفات يثمر حواره، وينتفع الناس بكلامه، ويعوِّضه الله بفضله متعة أعظم، ألا وهي متعةُ الموضوعيةِ والاتِّزانِ!
2ـ لقد ضاعتْ كثيرٌ من الحقائق بين المبالغين في المدح والمجاملة وبين المبالغين في الذم والانتقاص..
أصبحتُ لا أثق بكثير مما يقال في تراجم الناس وسِيَرهم.
فبعضهم لمحبته لشيخه لا يترك فضيلة إلا وينسبها إليه ويجعله عالماً متفنناً في أكثر العلوم. وفي المقابل إذا كان بينه وبين غيره خلاف أنكرَ فضلَهُ وجحدَ علمَهُ..
رَحِمَ اللهُ المحدِّثين أصحابَ النزاهةِ والدقةِ في الحكم على الرجال.
3ـ إنَّ الذي يريد أنْ يصلَ إلى الحقيقة عليه أنْ يبتعدَ عن كلِّ أشكال التعصب، فتكون غايته هي الوصول إلى الحقِّ، فلا يهمه من أيِّ شخص جاء هذا الحق، ولا في أيِّ مذهب أو جماعة أو اتجاه وُجِد.
4ـ إنَّ الحقَّ ليس محصوراً في شخص أو فئة واحدة، فما معنى أنْ يزعم أحدهم أنه يبحث عن الحقِّ ثم لا تجده إلا منتصراً لشخص واحد أو طائفة واحدة في كل اجتهاداته، ويبالغ في الرد والتعنيف على كلِّ من يخالف ذلك!
5ـ وكثيراً ما يكون الحق موزعاً بين طرفين أو أطراف، فيكون هناك جزء من الحق عند طرف وجزء آخر عند الطرف المقابل، وقد يكون عند كلا الطرفين شيء من التطرف، وكلاهما متطرف في اتجاهه، فالباحث عن الحقيقة عليه أنْ يأخذَ الحقَّ من كلا الطرفين، ويترك الخطأ والتطرف من كلا الطرفين.. ولا يكون همه منصرفاً إلى الدفاع عن اتجاه معين فيلوي النصوص والأدلة، ويتكلف في الاستدلال له بأدلة بعيدة، وكل هذا فقط ليوافق الاتجاه الذي هو عليه!
6ـ إنَّ الحماسَ للحقِّ، لا يبرِّرُ الخروجَ عن الحقِّ.
من العجيب أن تجد من يريد الدفاع عن الحق، فلا يتورع من الوقوع في أباطيل كثيرة في سبيل الوصول إلى غايته من الحق! عجباً له، ألم يعلم أنَّ الغايةَ لا تبرر الوسيلة، وأنَّ الحقَّ لا يحتاج في إثباته إلى باطل يقوِّيه، فالحقُّ يستمدُّ قوَّته من ذاته، والباطلُ ضعيفٌ في نفسه، يكفي أنْ تدحضه بكل حيادية وموضوعية، فلا يلبث أنْ ينكشفَ زيفُه وعوارُه، وتُمحَى معالمه وآثارُه، فهي مبنية من خيوط العنكبوت الواهية..
إن الحماسَ للحقِّ، لا يبرِّرُ الخروجَ عن الحقِّ، فلا يصح لمن يبيِّن الحقَّ أنْ يعتذر لشدته وقسوته في كلامه أنه مع الحقِّ؛ لأنَّ الحقَّ يقتضي منه أنْ يدافع عنه بمنهج الحقِّ فيكون هادئاً بعيداً عن الإساءة والتجريح لمن يختلف معه.
أما من يجعل اهتمامه بالشخص أكثر من اهتمامه بالفكرة، ويسيء إلى مَنْ يختلف معه ويلمزه وينتقصه، فعليه أن يعلم أنه صاحبُ هوى وأنَّ نيَّتَهُ غيرُ خالصة وإن ادَّعى الإخلاص والنزاهة!
7ـ منهج (لَيْسُوا سَوَاءً). عندما تحدَّثَ الله تعالى عن أهل الكتاب الكافرين بما أُنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وذمَّهم بقوله سبحانه: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
قال تعالى بعد ذلك: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ).
ما أجملَ هذا الإنصاف، وما أحسنَ هذا العدل! فأهل الكتاب لم يجعلهم الله في مرتبة واحدة ولا أطلق عليهم حكماً واحداً، وإنما بيَّن أصنافَهُم وأنواعَهُم وحَكَمَ على كلِّ صنف بما يستحق، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَداً..
فهل يتعلَّم من هذه الآيات من يطلق الأحكام على من لا يحبه من الناس أو الجماعات والمذاهب والطوائف ويعمم في كلامه ويجعلهم كلهم في مرتبة واحدة.
8ـ ليس هناك مانع أن ينتمي المسلم إلى أي مذهب من المذاهب الإسلامية، لكن المصيبة أن بعضهم يتعصب لمذهبه تعصباً يُبْعِدُه عن العقل والحكمة، فيوالي ويعادي من أجلها، ويقوم بالتقليل والانتقاص من المذاهب الأخرى، فيكون سبباً في تفريق المسلمين وفي إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، ويخدم بذلك أعداء الإسلام من غير أجر يتقاضاه منهم.
إنَّ الاختلافَ في الفروع والظنيَّات وليس في الأصول والقطعيَّات، وتعدُّدَ المذاهب الإسلامية هو من الاختلاف المحمود الذي يثري الفكر الإسلامي، ويوسِّع على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم، ولا يصح أنْ يكون سبباً للعداوة والبغضاء بين المسلمين.
إنَّ الأعداءَ يعلمون أنَّ غايةَ المسلمين واحدةٌ وهدفَهُم واحدٌ، فلذلك يعادونهم جميعا، فعلى المسلمين أن يتحدوا ويتعاونوا جميعا، كما يعاديهم أعداؤهم جميعا.
9ـ وجِّه نقدك ونقضك للفكرة، ودعك من الحكم على قائلها، كيلا تقع في هوَّة الخصومة الشخصيَّة، والتكفير والتبديع لمعيَّن بغير حقٍّ.
إنَّ تكفيرَ المسلمِ يعني الحكمَ عليه بالخلود في النار، ويعني بطلانَ زواجه من المسلمة، وأنه ليس له حقوق المسلمين فلا يتوارث منهم ولا يدفن في مقابرهم، ويعني جراءةَ البعضِ على استحلال دمه وقتله، بل والتقرُّب إلى الله بذلك.
10ـ إنَّ الذي يربِّي أتباعَهُ على التعصُّب والإقصاء وانتقاص الآخرين، غالباً ما يشرب من نفس الكأس التي ملأها وربَّى الناس عليها، فالجزاء من جنس العمل، وكم هي الحالات التي انقلب فيها السحر على الساحر! فمَنْ يزرعِ الشوكَ فلنْ يَحصدَ إلا ما زرع..
ولأنْ تعلِّمَ الأتباع على الإنصاف واتباع الحقِّ الذي يظهر لهم، فيوافقوك في رأيك واجتهادك مرةً ويخالفوك أخرى وهم يحكِّمونَ دينَهُم وعقولَهُم، خيرٌ من أن ينقادوا لك بعاطفةٍ مَبنيَّةٍ على شفا جُرُف هارٍ، لا يضبطها عقلٌ ولا عِلْمٌ، ولا تَثْبُتُ على حال، فسرعان ما تتحوَّل وتنقلب من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وعندها قد يصبح الصديق عدواً، والعدو صديقاً، فتنقلب هذه العاطفة وتصبح معادية لمن كانت له موالية.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.