إعلام يغيّب الحاضر والتاريخ!
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
خلال الأيام الماضية -التي أحاطت بالثامن والعشرين من رجب -ذكرى هدم الخلافة على يد أتاتورك عام 1924- شهدت العديد من الساحات العامة والميادين عبر بلاد المسلمين فعاليات جماهيرية ضخمة صدعت فيها الحشود بهتاف واحد: "الأمة تريد... خلافة من جديد"، ولولا أن فضاء الإنترنت قد بات يغلب كثيرا على فضائيات الأنظمة، لما سمع الناس بذلك كلّه، ولظنوا أن أخبار الشيخة موزة، وأخبار مفتي السعودية، وعلماء السلاطين هي التعبير عما يجول في خواطر الشعوب!
وهنا يبرز السؤال: لماذا يصر الإعلام العربي على صناعة الأخبار التافهة في مقابل التعتيم على الأخبار التي تعبر عن تاريخ وثقافة الأمة ومستقبلها؟
لا شك أن هذا السؤال لا يستقيم أن يكون استعلاميا، لأن جوابه معروف لكل من في عقله بقية من وعي على واقع الصراع الحضاري بين مشروع الأمة الإسلامي وبين مشروع الغرب الديمقراطي. وهو واقع يكشف اصطفاف الإعلام العربي مع المشروع الغربي، عبر تعليمات الحكام ممن يُملون على تلك الفضائيات. وعلى وقع هذا التساؤل، هذه وقفة إعلامية حول ذكرى هدم الخلافة وتفاعل الإعلام معها.
إن النظرة العامة السريعة لحجم تلك الفعاليات الضخمة تكشف حجم التعتيم الإعلامي الذي يمارسه الإعلام العربي: ففي أندونيسيا احتشد ما يقرب من 600 ألف مسلم في عدد من مدنها، وفي جاكرتا لوحدها احتشد ما يقرب من 120 ألف في المؤتمر العالمي. وفي فلسطين تتابعت النشاطات والفعاليات التي تنادى لها عشرات الألوف من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، وحطت رحالها في القدس رغم أنف الاحتلال اليهودي، وعرّجت على غزة. وكذلك الحال في تونس، وكانت هنالك سلسلة ندوات في تركيا وفي اليمن وفي مصر وفي بعض العواصم الأوروبية، وتطول القائمة ويتواصل الهتاف، ويتسمر التعتيم.
وفي هذه الأجواء الملتهبة بمشاعر الأمة الفيّاضة، يتفقد المتابع الإعلام المنتسب للعربية، فلا يجده إلا ما ندر ولرفع العتب، ليتأكد السؤال "استنكاريا" حول حضور المشهد في الإعلام العربي.
ويتجدد الحديث حول أجندة إعلام عربي يعاكس تاريخ الأمة ويناقض حاضرها ويتحدى مستقبلها، لأنه إعلام وصم أجندته بعار متابعة مظاهرات الشذوذ الجنسي في بعض العواصم الأوروبية، ومتابعة مشاهد تعرّي بعض الفتيات في تونس وفي باريس يتحدين ثقافة الأمة، ومشاهد التصفيق لحاكم قطر ينثر ملايينه في غزة، وبرامج الحوار السياسي للتهليل للديمقراطية ولدولتها المدنية العلمانية، والتفاف "ثوار الفنادق" حول طاولات "أعدقاء" سوريا في المحافل الدولية، وهم يتعاهدون على وضع الثورة في حضن الاستعمار، من أجل تكرار حالات الالتفاف على الثورة كما في اليمن وليبيا وغيرهما.
وأمام هذا المشهد المتناقض، تنكشف صورة الإعلام العربي: فهو لا شك يفهم حالة الصراع الحضاري بين ثقافة الأمة من جهة وبين ثقافة الغرب الديمقراطي من جهة أخرى، ولكن عدسته منحازة بكل وضوح مع ثقافة الغرب ومع مزاجه الإعلامي، وهيئات التحرير عنده "تفلتر" كل خبر يعكس القضايا التي تجتذب عقول وقلوب المسلمين، مما يزلزل أركان السلاطين.
لقد تضمن مؤتمر الخليل حدثا سياسيا خاصا تعلق بالإعلان عن ميثاق عشائري-سياسي تعاهد فيه حشد كبير من وجهاء ورجالات العشائر في فلسطين، على مناصرة تطبيق الشريعة وإقامة الخلافة، وهو حدث كان سيحتل ساحة كبيرة في كل الفضائيات، لولا أنه تضمن "كلمة سرّ" تبغضها الأنظمة، وعبّر عن مشروع الخلافة!
وقبل ساعات من عقد مؤتمر الخلافة في الخليل الذي ضم عشرات الألوف، قمت بالاتصال بكل من فضائية الجزيرة وفضائية الأقصى، وفضائية القدس، وفضائية معا، كعينة من المحطات التي تتابع المشهد "الفلسطيني"، وتغطي مشاهد إحياء الذكريات الأليمة والنكبات: وهنا أود الإشارة إلى ردين كعينة:
اتصلت بمكتب الجزيرة في رام الله، فتلقت المسئولة البلاغ مني باهتمام، وخصوصا عندما أعطيتها كلمة مفتاحية حول ما سيتضمنه المؤتمر من حدث سياسي خاص، فأكدت لي أنها ستنقل الرسالة للإدارة، ولكنها تعذرت بأن المراسل كان في "بيت أومّر"-إحدى قرى الخليل في ذلك اليوم... ولا أدري ماذا كان يفعل مراسل الجزيرة في "بيت أومر" في ذلك اليوم بينما كانت قرى الخليل ووجهاء عشائرها يوم المؤتمر في الخليل! أما فضائية القدس فأعلمني مراسلها "أنها تعطل يوم السبت"، كأنها تصوم عن نقل الأخبار.
هذا هو منطق الإعلام العربي، ويزداد المنطق انكشافا عندما نلاحظ أن فضائيات المقاومة تنشغل كثيرا في تغطية ذكرى النكبة والنكسة، وهي أليمة بلا شك، ولكنها بكل أسف تتعامى عن الذكرى الأشد إيلاما، وهي التي فتحت الباب لما تلاها من ذكريات مؤلمة، وتتعامى عن سقوط خلافة وقف سلطانها عبد الحميد في وجوه سماسرة اليهود الذين عرضوا عليه الذهب مقابل فلسطين فأبى في وقفة لن ينساها التاريخ، وإن تناستها فضائيات المقاومة.
ويزداد المنطق سخافة عند الجزيرة، التي تجاوزت خطوط الأمة الحمراء وأوفدت الإعلامية (الشهيرة) خديجة بن قنة من قطر عبر سفارات الاحتلال اليهودي لتغطية ذكرى النكبة في بث حي قبل أسابيع، ولكنها اختارت أن توفد مراسلها "المحلي" (المغمور) يوم مؤتمر الخلافة في ذكراها الأليمة إلى قرية "بيت أومّر"!؟
إن فضاء الأمة اليوم مملوء بأمواج التحرر من التبعية الغربية، وإن ثورة الأمة الكاشفة الفاضحة لا تبقي سترا لأي صاحب أجندة غربية إلا كشفته، فارتقبي أيتها الفضائيات هدير الأمة المجلل، وإن غدا لناظره لقريب.
وهي ثورة حتى الخلافة... وإن كره الإعلام العربي.