حركة التنوير في الوطن العربي!!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 53

حركة التنوير في الوطن العربي!!

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

ــ 1 ــ في نهار الأحــد 26/ 5/ 1434هـ الموافق 7/ 4/ 2013م، كان جمهور المهرجان الوطني للتراث والثقافة في المملكة العربيَّة السعوديَّة على موعد مع ندوة مهمَّة، تحت عنوان «حركة التنوير في الوطن العربي.. وإخفاق النهضة»، وكان صاحبنا موكلًا إليه إدارة تلك الندوة. احتفل للأمر منذ أشهر، وأعدَّ له عدَّته، وتحرَّى السِّيَر الذاتيَّة للمتحدثين في الندوة، لتقديمهم بما يستأهلون من تعريف وتشريف.  عبَّأ البيانات المتطلَّبة في مثل هذا الخطب الجَلل. اعتذَر عن عمله في ذلك اليوم الموعود؛ لأن موعد الندوة كان صباحًا.. استيقظ مبكِّرًا جدًّا ذلك الصباح؛ فقد كان موعد الندوة (9:45 ــ 12:00 ظهرًا).  قطعَ مشواره الطويل ليصل إلى حيث الفندق المخصَّص لإقامة الضيوف، وإقامة الندوات الثقافيَّة والفكريَّة. وَصَلَ إلى المكان، وهو يحسب الدقائق والثواني.. سأل: أين القاعة؟  قال الحارس الأسمر: قف هناك!  نَظَر إذا هناك ساحة عريضة مترامية في العراء..

- هناك؟

- نعم، هناك!

- وأين الفندق؟

- هناك!

- أليس «هناك» موقف أقرب، لو قليلًا؟

- لا...

ذهب إلى «هناك»، إلى الساحة العريضة المكشوفة.  حَمِد الله أن المواقف شِبْه فارغة.  ثم حَمِده أخرى لأنه رأى لوحةً مكتوبًا عليها اسم القاعة المحدَّدة لإقامة الندوة، مع سهمٍ يشير إلى اليسار.  إذا مبنى منفصل عن مبنى الفندق ولكن بطرازه نفسه.  فظنَّ أنه مكان مخصَّص لتلك الندوات.  اتَّجه إلى «هناك»، يُغالب الرِّياح العاصفة في ذلك الصباح، كيلا تطير «غترته» في يوم التنوير والنهضة المخفقة.  وَصَلَ إلى «هناك»، فسأل عسكريًّا:

- أين القاعة؟

- هناك!

- أين هناك؟

- أترى أولئك النفر من العساكر الذين يمشون؟

- نعم.

- هناك!

- ولكن كيف جُعلت لوحة تشير إلى عكس الاتجاه؟

لم يُجب.  عاد صاحبنا أدراجه إلى «هناك»، حيث أشار العسكري، يُغالب الرياح، كيلا تطير «غترته» في يوم التنوير والنهضة المخفقة.  ووَصَلَ، بحمدالله وحفظه، إلى المكان، عند الساعة التاسعة صباحًا بالضبط.  سأل عساكر آخرين، قالوا: ها هي تلك القاعة. خاوية كانت على عروشها، إلا من بعض الفنيِّين من الفلبين، كما بدا، كانوا يُصلِحون بعض كمرات التصوير، وشاشات العَرض.  بعد قليل جاءت سيِّدة من إحدى دول الخليج، لتسأل أحد الموظَّفين عن موعد الندوة؛ فقد سمعتْ- كما قالت- أنها ستقام لدى التاسعة والنصف، فقيل لها: كلَّا، بل التاسعة وخمس وأربعين.  انتظَر صاحبنا «هناك».  تسليةً، تناول حلوى كانت على الطاولة.  حضرتْ بعض السيِّدات في مكانٍ مقابل، في انتظار الندوة.  استغرب صاحبنا، أين الرجال؟! أين جمهور التنوير؟! لماذا النساء فقط حضرن؟! الساعة التاسعة والنصف، لا حِسّ ولا خَبر.  حَضَرَ رجلٌ غربيٌّ، فيما يظهر، أشمط الشعر، حيَّا وجلس.  وجعل يُتمتم بكلامٍ غير مفهوم بينه وبين نفسه! وأخيرًا عَلِم صاحبنا، وقبل موعد الندوة المحدَّد بدقائق، أنها قد أُلغيت:

- لماذا؟

- اعتذر ثلاثة متحدِّثين «تنويريين» من الأربعة الذين أُعلن عن مشاركتهم؛ فلم يكن بُدُّ من إلغاء الندوة، وضَمِّ المشارك «التنويري» الوحيد، الذي التزم بالحضور، إلى ندوة أخرى «تنويرية» بعد الظهر.  نأسف شديد الأسف لما حدث!

- لا، عادي!

- أعلنَّا بالأمس هنا، ووزَّعنا أوراقًا، و...

- أعلنتم، لكن أنا لم أكن هنا.  لا بأس، حصل نهضة.. قصدي: حصل خير!

بعد قليل جاءت إحدى النِّسوة، تسأل عن السالفة، ولماذا لا أحد «هناك»؟!

- انتظِروا، يا جماعة، هناك ندوة بعد الظهر، وستجدون ما يسرُّكم!

أمّا صاحبنا، فأطلق سيَّارته للرِّيح، قافلًا إلى عمله، الذي كان يُفترض أن يذهب إليه أصلًا.  اتصل بمدير مكتبه:

- أنا قادم!

- كيف، والاعتذار الرسمي، للمشاركة في مهمَّة علميَّة؟!

- أخفقت المهمَّة... أعني أُلغيت الندوة.  أنا في الطريق.

وهكذا تدور ثقافتنا، ارتجالًا، وافتعالًا للقضايا التنظيريَّة الكُبرى، في حين أن الواقع دليل شاهد على الحال، وإجاباته حيَّة عن تلك الأسئلة التنظيريَّة.  وأوّل إجاباته: أن المثقّف العربي نفسه تنظيريٌّ «هلّاس»، هو أول المناقضين بسلوكيَّاته لما يقول!

-2-

 وأمَّا التنوير في الوطن العربي، فقد ظلّ، في معظمه، إن لم يكن في كليَّته، تنويرًا فرديًّا، متنكَّرًا له؛ ولم يتحوَّل إلى المؤسَّسة التنمويَّة الوطنيَّة، ليغدو نهضة وسلوكًا.  مِن ثَمَّ أخفقت النهضة في عالمنا العربي، ابتداءً، من حيث بقيتْ صرخاتُ التنوير تتبدَّد في البِيْد العربيَّة والوديان. على أن لكلِّ ثقافةٍ أسلوبها إلى التنوير والنهضة؛ فليس بالضرورة أن يكون التنوير العربي على غرار الثقافة الفرنسيَّة، مثلًا، ولا النهضة العربيّة على نمط الحياة الغربيَّة.  إن أسلوب اليابان، أو ماليزيا، في التنوير وفي النهوض، قد اختلف، على نحوٍ جذريٍّ، أحيانًا، عن الأساليب الأوربيَّة، وظلّ للدِّين- وإن كان وثنيًّا- سريانه في الحياة العامَّة، واستمرّ للموروث حضورُه الواضح في المجتمع.  ومع ذلك لم يُعِق هذا الخيار الثقافي تلك الأوطان عن نهوضها. بل لعلّ أهم معيقات التنوير والنهوض في العالم العربي يكمن في أنه بقي رهين التقليد للآخَر، للغرب تحديدًا، والاعتقاد أنه لا نهضة إلَّا على غرار التجربة الغربيَّة.  فلم يَشْتَقَّ العالمُ العربي حاضره من ماضيه، ولم يصطنع تجربته من معطياته الخاصَّة، بل حاول نخبويُّوه استنساخ تجربةٍ أخرى، لها تاريخُها، ولها فلسفاتُها، ولها بيئاتها، ورصيدها المعرفي المختلف.  وهذا عاملٌ آخر في الإخفاق النهضوي العربي.

   من خلال عاملَي (الفرديَّة) التنويريَّة في العالم العربي، و(الارتهان إلى محاكاة الآخَر)، تفرَّعت عوامل الوهن في حركة التنوير في الوطن العربي، المحليَّة منها والمستوردة.

وكلّ إخفاقٍ ونحن «هناك»!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: « حركة التنوير في الوطن العربي!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12364، الأربعاء 8 مايو 2013، ص32].