وَهْمُ الدولة الإسلامية
محمد جلال القصاص
انتفخ رأسي من أستاذ الفكر السياسي وهو يتلو علينا في كل محاضرة ـ تقريباً ـ أن العلمانية تمتلك تصوراً، وأدواتٍ، وتطبيقًا عمليًّا للدولة؛ وتعرف ماذا تريد وكيف يمكنها تطبيقه. يقول: والإسلاميون لا يملكون تصورًا ولا مشروعًا يمكن تطبيقه، فقط يتحدثون عن "الشورى"، و"الخلافة"، وتجربة كانت في زمن بعيد مختلف!!
ولم يتدبر!!
النظرية تأتي أولًا، ثم يعقبها تطبيق لا يوافقها بشكل تام. بمعنى أن ثمة من ينتج معرفةً ما، تكون مثالية، ويقال عنه (مؤسس)، وغالباً ما يضع هذه الأفكار في كتاب، ويأتي من ينفذ تعاليم هذا المؤسس في حياة الناس، يحول الأفكار إلى واقع (دولة)، ويسمى مؤسس الدولة.
كل الدول التي قامت هكذا: الاشتراكية، كان لها مفكر ومؤسس (ماركس وإنجلز... ثم لينين وماو سوتنج)، والصهيونية ( هرتزل، وبن جوريون)، والليبرالية (جون لوك، والثورة الفرنسية). ونحن عندنا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وعندنا نموذج تطبيقي عملي معصوم، ونماذج أخرى دون ذلك.
والمقصود أن النظرية السياسية يتم بناؤها أولاً.. بشكل نظري محض، خيالات وأفكار المنظرين التي تقفز على الموجود وترفضه، وتعيش معركة في عالم الأفكار، ثم يتضح شكل الدولة بالتطبيق العملي. وبين نشوء الفكرة ونشوء الدولة مرحلة اشتباك ثقافي (فكري)، ثم يعقبها اشتباك حضاري (عملي يتعلق بالعادات اليومية) بين القادمين الذين يحملون الأفكار الجديدة في سلوكهم، والمغادرين ممن صبغوا بالأفكار القديمة واستمسكوا بما وجدوا عليه آباءهم.
إن من نظَّر لليبرالية (جون لوك) لم يقدم لها تطبيقًا عمليًّا، ومن نظَّر للديمقراطية (جان جاك رسو) لم يقدم لها تطبيقًا عمليًّا، أو لم يقدم تطبيقًا عمليًّا كالذي ظهرت عليه الدولة في حياة الناس. و"دولة الكيان الصهيوني" تختلف تمامًا عن أهداف الصهيونية الستة المعلنة في كتابات "الآباء".
فعندنا ثلاثة: فكرة مؤسسة في كتاب، جيل تأسيس يتمثل الأفكار التي في الكتاب في أوضح نموذج عملي لها، تطبيق عملي في شكل دولة. وبين ظهور النظرية وظهور الدولة يكون الاشتباك الثقافي الداخلي بين أبناء البيئة الواحدة والخارجي مع المخالفين لهم من خارج بيئتهم أو من خارج إطارهم الفكري كلية، والاشتباك الحضاري الداخلي والخارجي. وتظل الاشتباكات مستمرة حتى يسود الجديد، ثم يناوشه وافد آخر فيتآكل، وتقف الأيام على بابه تطالبه بالرحيل، ويرحل، وكلنا سنرحل إلى بصير.
مما لا يُسمع: مطالبة الإسلاميين بتفاصيل عن الدولة التي يريدونها، أو الشجب عليهم بأن ليس لديهم تصورٌ عن الدولة. فقبل التمكين لا يوجد غير نظرية سياسية، وتكون الممارسة الواقعية فيما قبل التمكين تتعلق بواقع المستضعفين والمجاهدة من أجل إنشاء دولة، وبعد كسر شوكة المخالفين تُبنى الدولة عملياً في إطار النظرية.. فلا تطالبونا بتصورٍ كاملٍ عن الدولة فإن ذلك يأتي بالممارسة العلمية المحكومة بالأطر العامة التي في مصدر التشريع عندنا (كتاب ربنا وسنة نبيناـ صلى الله عليه وسلم ـ بفهم سلفنا الصالح)، وهذا هو حال كل الدول التي قامت مما تفاخرون به أنتم.