صراع بين مشروعين ( 1 )
صراع بين مشروعين ( 1 )
بدر محمد بدر
أعلم أن هذا المقال سوف يواجه بالكثير من زفرات الغضب وحملات الهجوم من جانب بعض المخالفين في الرأي، ولكنها الحرية التي تجعلني أتقبل رأي آخرين، رغم أنه يفتقد لأبسط القواعد الأخلاقية والمهنية، والنقد الموضوعي لا يغضب من يبحث عن الصواب، ومستعد لنشر ما يصلني من آراء جادة في هذه المساحة.
إن مصر في تقديري تمر الآن بمرحلة تحول كبرى، ومنعطف تاريخي هائل، له تداعيات ضخمة في الداخل، وفي المنطقة العربية والإسلامية، وربما أيضا في العالم كله.
وهذا التحول بدأت مؤشراته منذ عدة سنوات، ولكنه تحقق فعليا كنتيجة مباشرة لسقوط النظام السابق في ثورة 25 يناير 2011، هو تحول من الدولة العلمانية، التي بدأت منذ عهد محمد علي قبل أكثر من مائتي عام، وصبغت حياة المجتمع المصري بقليل من الحداثة والتطور، وكثير من التغريب والعلمنة وإضعاف العقيدة والهوية الإسلامية، سواء في مجالات التعليم أو الثقافة أو الفن أو القانون، وأصبح من يبحث عن النفوذ أو المال، لا يجد أمامه سبيلا إلا الالتحاق بركب السلطان!.
الدولة العلمانية، وأقصد بالعلمانية هنا: تعمد إقصاء الدين الإسلامي أو تهميشه، وبالتالي إبعاده عن دوائر التأثير المباشر في حياة الناس الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، وتقديم من يتبنون العلمانية باعتبارهم الأكثر تقدما وتطورا وتحررا، بينما الإسلاميون رجعيون جامدون متعصبون منغلقون.. إلخ هذه الأوصاف المعروفة، هذه الدولة العلمانية أضعفت دور الأزهر الشريف كمنارة للإسلام الوسطي، وعاقبت من يتخرج منه بالتشويه أو بالإهمال المعنوي والمادي.
عاشت وتطورت العلمانية منذ عهد محمد على وحتى ثورة يناير معتمدة على دعم الغرب وسطوة السلطة، ثم على غياب الحرية وإضعاف الدين وحداثة نظام الدولة، لكنها زادت من سطوتها مع كارثة الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، ثم ازداد طغيانها أكثر مع قدوم حكم العسكر عام 1952، وصدامهم الدامي مع الإخوان المسلمين، ثم إلغاء القضاء الشرعي، والاستيلاء على أوقاف المسلمين، وتطوير الأزهر الشريف في محاولة لتفريغه من رسالته في حماية العقيدة واللغة.
والعلمانية هي الإطار الفكري والسياسي الذي يشمل كل تيارات وأحزاب اليسار والماركسية والإشتراكية والقومية وما اقترب منها، وفي الاتجاه المقابل كل تيارات اليمين والرأسمالية والليبرالية وما في حكمها، ولا شك أن بعضها عانى من الظلم في الفترات السابقة، لكن معظمها استفاد بصورة أو بأخرى من استبداد النظام السياسي ضد الإسلاميين، وكان هناك نوع من الرضا عن سلوك هذا النظام الفاسد ضد التيارات الإسلامية بشكل عام، واضطهادها وحرمانها من حقوقها السياسية.
هذا الرضا والقبول العلماني، المستتر حينا والمشارك في أحيان كثيرة، بحرمان الإسلاميين من حقوقهم السياسية، واضطهادهم في أرزاقهم، ومنعهم من تولي الوظائف المرموقة، وإقصائهم عن أي مشاركة في العمل العام، ودعم الدولة في حصارهم، تحول الآن إلى موقف معلن شديد الوضوح من بعض التيارات، وهو الإصرار على منع الإسلاميين بكل الأساليب الممكنة، من التمتع بحقوق المواطنة أو الاستفادة بالديمقراطية الوليدة، وهو موقف كان لابد أن يظهر يوما ما للجميع.
منذ اليوم الأول لنجاح ثورة يناير تحدث بعض الكتاب اليساريين ممن كانوا رموزا في النظام الفاسد، عن الظلام الذي حل بمصر بعد ظهور الإسلاميين، ورفضوا الاحتكام للشعب في أي قرار أو موقف، ابتداء من التعديلات الدستورية قبل عامين، ومرورا بنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي منح فيها الشعب ثقته للإسلاميين، ورفض العلمانيون كذلك تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، ثم الاستفتاء على الدستور، ورأي الشعب فيه، وارتاحوا كثيرا لتأجيل بدء الانتخابات!