جرائم الحروب

جرائم الحروب

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

تتسبب حروب التدخل العسكرية في أرجاء عديدة من العالم، بقتل الكثير من مواطني شعوب تلك البلدان، ولكن جنود تلك  الجيوش التي احترفوا  قتل المدنيين ومن الأطفال والنساء والشيوخ، ليسوا بمنجى من الآثار الوبيلة لهذه الحروب التي تنشر الموت والرعب .

وتشير دراسات عديدة إلى ما  يصيب الجنود العائدين من جبهات القتال في الحروب الحديثة من أمراض نفسية خطيرة وسلوك يهدد المجتمع، أمر لم يعد سراً، فعالم اليوم لا يحتفظ بالأسرار، ومن ألمانيا سمع العالم تصريحات الرئيس كرزاي، وهو صديق للغرب، يتحدث بلهجة هي أقرب للصراخ: أنكم تفسدون كل عمل في أفغانستان كأن مهمتكم هي فقط بث الرعب والقتل ..

وقد عبر القائد العالم لحلف الناتو عن  الموقف السياسي والعسكري في أفغانستان،  بنفس الاتجاه أن ليس هناك أكثر من شعاع من الأمل وسط تعقيدات حكومية واجتماعية عديدة. تعليقاً على تقارير كانت الأمم المتحدة قد نشرتها في (فبراير 2012) عن مصرع الألوف من المدنيين الأفغان في هجمات جوية وإطلاق نار عشوائي، فقد ارتفعت حصيلة الضحايا المدنيين في أفغانستان بسبب الأعمال العسكرية بنسبة 40 % خلال العام الذي سبقه، لتبلغ 2118 قتيلا وهي أعلى حصيلة منذ سقوط نظام طالبان.

وكان المهرجان الدولي للسينما في برلين (برلينالة) ، وكذلك فلم الرسول "The Massenger" وهو يتطرق إلى التأثيرات النفسية لحرب العراق على الجنود الأمريكان وأسرهم، هو من الأفلام التي تتناول التأثيرات الاجتماعية والنفسية لحرب العراق. حيث لم يعد بالإمكان إخفاء نتائج الحروب الحديثة البالغة الوحشية، إذ أنها لا تخلف القتلى والجرحى فحسب، بل ما هو أمضى وأدهى، فالقتلى، هم الفئة الأسهل لجهة معالجة أوضاعها، ومن ثم الجرحى، ثم معوقي الحرب (باختلاف درجة العوق)، ولكن الأدهى والأصعب هم حالة  المصابين نفسياً الذين يتعين على مجتمعات أوطانهم تحمل عقدهم النفسية وتأثيراتها على أسرهم ومجتمعاتهم.

وفي الواقع فإن هذا النوع من الإصابات بين أفراد الجيوش المشاركة بحروب التدخل والغزوات، بدأ بالظهور في أعقاب الحرب الفيثنامية بسبب استخدام الولايات المتحدة أسلحة فتاكة منها الكيماوية والبايولوجية، وأسلحة إبادة، والاستخدام المفرط للأسلحة ذات القدرة التدميرية الهائلة كالقنابل العنقودية، وعتاد اليورانيوم المنضب ذو الآثار الفضيعة، والقنابل الفراغية التي تحدث ارتجاجات في الدماغ والجملة العصبية، والنابالم وغيرها، بالإضافة إلى عدم استبعاد قصف المناطق الآهلة بالسكان، مما تخلف آثار تدميرية هائلة وقتل أعداد كبيرة من السكان، وفي الحروب العولمية المعاصرة فالإصابات هي أضعاف مضاعفة، كما في العراق وأفغانستان .

ومن الضروري التنويه أن الولايات المتحدة الأمريكية لم توقع على الاتفاقيات الخاصة بمحكمة الجنايات الدولية، كما أنها ترفض إخضاع عناصر قواتها المسلحة للمساءلة بما يقترفونه في البلدان التي تتدخل فيها بأستخدام القوة المسلحة، ومعظمها يخالف نصوص القانون الدولي التي لا تجيز استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية، وتكتفي بإجراءات وأحكام شكلية للغاية بحق من يرتكب جرائم الحرب أمام جهات قضائية أمريكية، ومن تلك حادثة إبادة قرية ماي لاي (1968) في الفيثنام في أواسط السبعينات، حيث أدين فيها ضابط أمريكي(ويليام كايلي)، ما لبث أن غادر السجن قبل انقضاء حكمه(كان قد حكم  بخمسة سنوات) بموجب عفو خاص، وكذلك المجندة الأمريكية ليندى انغلاند المتهمة بجرائم حرب في العراق أبن الاحتلال الأمريكي غير القانوني للعراق  2003.

وكان البرلمان الألماني الاتحادي قد أقر (مطلع شهر فبراير/ 2009)على مشروع يدعو لرعاية أولئك الجنود العائدون من مناطق القتال، من إصابات نفسية تستحق العلاج كالصدمة والأكتئاب، والأنطوائية، والإدمان (كحول أو مخدرات) وربما حتى الإصابة بسعار القتل(Amok)، كما يحدث لجنود الولايات المتحدة، ناهيك عن احتمال الوهن أو التدمير الذي يلحق بالعلاقات الأسرية، وصعوبة استعادة التأقلم مع المجتمع. 

والأرقام الألمانية تبدو مثيرة للقلق، وهي بالطبع أقل بكثير من الأرقام الأمريكية، إذ تشير بيانات وزارة الدفاع الألمانية، أن 55 جنديا عادوا من أفغانستان إلى بلادهم ألمانيا عام 2006 وهم يعانون من مشكلات نفسية تعرف باسم "اضطراب الضغط النفسي ما بعد الصدمة"، وبلغ عددهم عام 2007 أكثر من 130 جنديا، وارتفع العام الماضي إلى 226 جنديا، ومن المؤكد أن إرسال المزيد من الجنود، واشتداد المعارك، سيضاعف هذه الأرقام.

وتذكر معطيات بناء على تصريحات وزير الدفاع الألماني، أن نسبة المصابين بأمراض نفسية يبلغ 2% من إجمالي الجنود العاملين في الخارج، وهي أقل من النسبة في الجيوش الأخرى التي تبلغ بين 4 ـ 5%، أما جنود الولايات المتحدة الأمريكية فتبلع نسبة الإصابات 30% وهو يعبر عن قسوة المعارك والأحداث التي عايشوها.

والضربات العشوائية لقوات أساف (الأطلسي وحلفاؤه)حملت  الرئيس الأفغاني على مهاجمة داعميه الغربيين، ومتهما الولايات المتحدة بالتدخل في شؤون بلاده. وإن الأفغان لا يريدون أن يشاهدوا قادتهم "دمى" في أيدي قوى أجنبية، بل إنه ذهب إلى حد التحذير من أن تمرد طالبان قد يتحول إلى حركة مقاومة مشروعة إذا استمر الأجانب في التدخل في الشؤون الأفغانية، وانه قد يضطر إلى الانضمام بنفسه إلى التمرد إذا لم يدعمه البرلمان في سعيه للسيطرة على هيئة مراقبة العملية الانتخابية.

وقد تفاقم شأن جرائم الحرب، وإن أصابها العطب بتسييس القضايا المطروحة. فالدول العظمى، تمارس تفوقها السياسي حتى على صعيد القضاء الجنائي الدولي، فتحيل من تشاء وتغفر لمن تشاء، وإن تسربت أنباء عن جرائم في أفغانستان والعراق، فهي لا تمثل في الواقع إلا النزر اليسير منها، ولابد من التنوية بادئ ذي بدء، أن الولايات المتحدة قد أعفت جنودها من الجرائم التي يرتكبونها خلال حروب التدخل، وهي بحد ذاتها حروب مخالفة للقانون الدولي وشريعة الأمم المتحدة، كما تمنع إثارة أية موضوعات ضد ما تقوم به إسرائيل في الأراضي المحتلة بعد 1967، والأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1948.

وما نقصده هو الإشارة إلى سعار القتل (Amok)الذي يصيب الجنود وبأيديهم أسلحة فتاكة ورخصة بالقتل المجاني، والنتيجة هي: خسائر بشرية كبيرة جداً، معظمها من النساء والأطفال والمدنيين، لأن المقاتلين يعرفون كيف يحمون أنفسهم، وبذلك يتسلى الجنود بقتل الناس الأبرياء غالباً، ولكن جنود الجيوش المحترفة قد امتهنوا  القتل ولم يعودوا جنود .. بل شيئ آخر تماماً، ومعظمهم يعودون إلى أوطانهم محطمين كبشر في مرتبة لا إنسانية، مدمنين على القتل، أو على المخدرات، أو الكحول، يجدون عائلاتهم مبعثرة، وهي أمراض اجتماعية قرأنا عنها الكثير مما يحصل في أميركا بعد حرب فيثنام والحروب الحديثة، بسبب استخدام أسلحة بشعة وفتاكة للغاية، وفي الغالب محرمة دولياً، نستطيع أن نعرف ماذا يصيب الجنود العائدين من جبهات القتال في الحروب الحديثة، فالأمر ليس سراً، وعالم اليوم لا يحتفظ بالأسرار، عن الجرائم في أفغانستان، وأضعافها في العراق.

وقد طالعنا تقارير كثيرة لمنظمات حقوق الإنسان والصليب الأحمر، وبالذات حول أفغانستان والعراق. وهناك رغم التعتيم، الكثير مما يمكن الإشارة إليه من المآسي التي تخلقها حروب التدخل في العراق وغير العراق وكأن مهمتهم هي بث الرعب والقتل وتدمير البلدان. المستهدفة .

وكنت قد أطلعت بدقة في مطلع الثمانينات على بحث ممتاز لنيل درجة الدكتوراه في القانون أعدها زميل (الدكتور حكمت موسى) في جامعة بغداد عن موانع المسؤولية الجنائية، تطرق فيها إلى تلك الجرائم التي تتخذ من جملة (أمرني رؤسائي) كواحدة من موانع المسؤولية الجنائية، فأشار إلى أن الفقه القانوني أتجه بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورنبيرغ التي أعقبتها لزعماء النظام النازي ومرتكبي الجرائم الجنائية، أنها لم تعد تقبل بنظرية أمرني رؤسائي بأرتكاب أفعال مخالفة للقانون، فمرتكب الجريمة لن يفلت من العقاب تحت طائلة تنفيذ الأوامر، بل أن الفقه الجنائي الدولي يعتمد اليوم فكرة محاسبة المتهمين بأرتكاب جرائم إبادة أو استخدام أسلحة قتل شاملة أو تحمل هذا الطابع كأسلحة ذات تدمير واسع النطاق كالصواريخ البالستية، أو اتخاذ تدابير عقاب جماعية.

ولم يفت فقهاء القانون فكرة أن جرائم الحرب، أو الجنائية الدولية ذات طابع طويل المدى، ذلك أن المتهمين قد يصعب جلبهم أمام القضاء كغيرها من الحالات، لذلك فقد نصت القواعد القانونية أن جرائم الحرب تعد من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، أي بمرور عشرة أو عشرين سنة، وقد حصل أن مثل أمام المحاكم متهمين مر على ارتكاب جرائمهم أكثر من أربعين عاماً، في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وقد حوكم زعماء من دولة كمبوديا تحت إشراف دولي، منهم وزير الخارجية ووزيرة الشؤون الاجتماعية بتهم جرائم قتل من جراء الإرهاق أو الجوع أو المرض، أو التعذيب أو الإعدام، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على حدوث الوقائع.

كما مثل مؤخراً مثل أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي رئيس جمهورية ليبيريا تشارلز تايلور بتهمة جرائم أرتكبها في بلاده في التسعينات وأدين وحكم عليه بالسجن لمدة 50 عاماً، ومثل الرئيس الصربي ميلان ميلوزوفيبش أمام محكمة الجنايات الدولية، إلا أنه توفي في محبسه قبيل إصدار الحكم عليه، ومحاكمة الزعيم الصربي رادوفان كراديش المتهم بارتكاب جرائم عام 1995 بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على ارتكابه للانتهاكات القانونية.

ويمكن أن توجه تهمة جرائم الحرب لأي فرد سواء كان مسؤول كبير كرئيس دولة، أو قائد سياسي أو عسكري، أو لغزاة ممن قاموا بأعمال ترويع، أو تجويع، واضطهاد ديني أو عرقي أو جنسي، أو الإرغام على العمل (أعمال سخرة) سواء ضد شعوبهم أو شعوب أخرى، بما في ذلك تجنيد القاصرين في القوات المسلحة أو شبه المسلحة، بالقيام بنفسه أو بإصدار الأوامر  لتنفيذ هذه الاختراقات، التي تخالف قواعد الحرب، ومنع امتداد آثارها إلى المدنيين وتقديم العون والحماية لهم. وحتى شروط التعامل مع العسكريين من الجرحى والأسرى والقتلى وغيرها مما تنص عليه اتفاقية جنيف 1949، ومن تلك:

1. القتل العمد.

2.  التعريض للتعذيب الجسدي والنفسي.

3. إجراء التجارب البيولوجية.

4. الاستيلاء أو تخريب أموال وممتلكات الغير.

5. الاعتقال غير القانوني.

6. أخذ الرهائن.

7. العقوبات الجماعية أو الثأرية.

8. الاستخدام الخاطئ للرموز الدولية، واستخدام الثياب العسكرية لدولة أخرى.

9. تهجير السكان وتغير أماكن إقامتهم بالقوة.

10. شن هجمات عشوائية بأسلحة ذات تأثيرات واسعة.

11. ممارسة سياسة التميز العنصري والعرقي والعزل.

12. استخدام الأسرى كأدوات ضغط سياسية.

13. الإساءة إلى الرموز الدينية أو الوطنية والثقافية والآثار التاريخية.

14. استخدام الأسلحة المحرمة دولياً.

15.استخدام أسلحة تحدث أضراراً وآلاماً لا ضرورة لها.

14. إلحاق الأضرار بمباني ومجمعات مدنية.

ومن البديهي أن يحتاط فقهاء القانون لتنوع أساليب الانتهاكات ضد الإنسانية، فنلاحظ أن النصوص وشروحها تشير إلى حالات أو ما يماثلها، فعلى سبيل المثال فإن إطلاق صواريخ بعيدة المدى، بالستية، حاملة لرؤوس تقليدية أو كتلوية، أو نووية لا يمكن أن تكون دقيقة الإصابة، لذلك فإن معدل الخطأ قد يبلغ مئات الأمتار، وكذلك استخدام الغازات السامة، أو النابالم السريعة والواسعة الانتشار، والتي تقدر درجة انتشارها لتصيب أشخاص مدنيين لا سيما إذا استهدفت مراكز تجمعات سكانية، أو بإلقاء براميل تحتوي على مواد متفجرة وحارقة غير موجهة، على أهداف مدنية تحدث الكثير من التدمير والإصابات، فهي من المؤكد من جرائم ضد الإنسانية وتدخل في عداد جرائم الحرب.

إن جرائم الحرب تمتاز بوصفها جرائم غير قابلة للتقادم، ستجلب المتهمون والقائمون بها أمام المحاكم الدولية أو المحلية، ولا يمكن إسقاطها بوصها ليست حقوق فردية، ففي هذه الحالة المكوث أمام المحكمة هي مسألة وقت ليس إلا.