بعيداً عن التخوين ..
عقاب يحيى
محطات :
عندما جرى توقيع ميثاق" التجمع الوطني الديمقراطي" في سورية أواخر عام 1979، وكنت من الموقعين الثلاث عليه، ثم صار خماسياً..كان خطوة مهمة جداً في مسار المعارضة، لجهة توحيد جهودها، والاتفاق على عملية الانتقال إلى الديمقراطية، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي .. فبنيت كثير الآمال عليه، ثم واجه أثقال الاعتقالات، ودموية النظام، وملاحقته فنامت القرارات، وتبعثرت الجهود .
ـ لم تكن النظرة للتغيير واحدة، فهناك من كان يؤمن بالعمل التراكمي، والوئيد، وكان المرحوم، الرمز، الدكتور جمال الأتاسي من دعاة ذلك، وكنا ضد هذا الخيار، ونعارضه، لأنه غير مجد مع نظام فئوي، دموي، أمني لن يسمح أبداً لأي تراكم بالحدوث، وقد مكنه " الانتصار" على مدينة حماة من إطباق جبروته على عنق البلد والمعارضة والناس.. فهاج وماج عنفاً، وسلبطة، وفجوراً......
ـ لم يخوّن أحدنا الدكتور جمال، أو يتهمه بالتواطؤ مع النظام، بل وجدنا فيما يطرح اجتهاداً بغض النظر عن الرأي فيه، وعن صوابيته، وواقعيته، وظل الرمز الوطني الكبير، والناطق الرسمي للتجمع .
ـ عندما صار التوريث حقيقة واقعة.. وجاء " خطاب القسم" الممسرح، والخلبي.. راهن البعض على نقاطه، وهناك من استبشر خيراً، وبنى الآمال.. وذهب خطوات في التفاؤل.. ولم نقتنع، وكان السؤال الكبير المطروح : علينا التفكير والإجابة على سرّ الإصرار على التوريث ومداليله التي أول ما تعني إحكام بناء مملكة الرعب والعائلة، والفئوية، واستحالة أن يكون الوريث مخالفاً للوارث ونظامه.. لكن لم يتعامل أحد مع أحد بلغة التخوين، أو أن هناك من يتواطأ مع النظام، رغم المعرفة بأن حالة الضعف والتهميش جعلت البعض يتعلق بأية قشّة، ولو كانت مهترئة، ووهمية .
****
قامت الثورة وسط تخوفات كبيرة من قيامها.. واليد على القلب في إمكانية استمرارها وتصاعدها. لم تكون بقرار من المعارضة، ولا من اية جهة فيها، وإن استقبلت منها كلها بالترحاب والتأييد متعدد الخلفيات والمدى..واختلفت قوى المعارضة في النظرة إليها وموقعها : انتفاضة ـ تمرد ـ ثورة، وفي غاياتها ومدياتها ومطالبها، وسلميتها، ثم استخدامها السلاح، وانقسمت قوى المعارضة في الموقف من الحل.. وقامت هيئة التنسيق.. وتقدّمت بمشاريع المراهنة على الحوار، والتفاوض، والحلول السياسية. خطّأها كثيرون، واتهمها كثيرون بشتى التهم والتصنيفات التي تصل التخوين والعمالة للنظام.. وننسي الكثير تاريخ العديد من رموزها، وسنوات السجن، والمطاردة والمرار.. خاصة بوجود بعض الرخويات فيها، وبعض من لم يقطع حبل السرة مع الطغمة..
انشقت هيئة التنسيق عدة مرات، وخرج من خرج.. وظل من ظل، لكن ومن يعرف عديد الرموز والمناضلين فيها يربأ بنفسه عن النزول إلى مستوى المهاترات، ناهيك عن الاتهام.. مهما كانت مسافة الخلاف في التقدير والموقف، والمراهنة والتحالفات..فهؤلاء جزء من تاريخ البلد والمعارضة، لهم أراؤهم ومواقفهم.. ويجب التعامل معهم على هذا الأساس وليس من خلفية تخوينية بذيئة، مع واجب عزل من قطع الحدود وتمادى في الطروحات والتحالفات، ومن يسيء عن قصد لجهد وبطولة الشعب السوري، وتضحياته الجسام .
****
الثورة انتقلت مُجبرة من السلمية إلى المقاومة المسلحة، فعرفت الكثير من التقدمات والتشابكات، في الوقت الذي أوغلت الطغمة في دماء السوريين قتلاً وإبادة ونحراً لأي مشروع سياسي، فبات شرط عدم وضع اليد مع القاتل، والطلب بتنحيته ورموز الطغمة الحد الأدنى لأية مفاوضات على انتقال السلطة، وتشكيل حكومة انتقالية، وإنهاء مرحلة الفساد والاستبداد مقدمة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، فحدث ما يقرب الإجماع على تلك الشروط التي كان يدعّمها موقف الطغمة وما تمارسه على الأرض، إلى درجة أن منجزات الثوار على الأرض قبل شهر ونيف فتحت المجال لإمكانية الإسقاط بالقوة، وبالتالي نسف جميع تلاوين الحلول السياسية، واستبشر البعض بحدوث ذلك في زمن منظور قريب .
ـ لكن عدة عوامل دخلت على الخط بقوة : أوضاع الثورة الداخلية لجهة مستوى الدعم ـ تعدد التشكيلات المسلحة وتنازع بعضها ـ الإخفاق في توحيد العمل المسلح الجامع ـ وجود اتجاهات متشددة طفت على السطح بطروحات مخيفة ـ بروز تصرفات وممارسات مشينة تُنسب للثورة وللجيش الحر ونوع من الفوضى والفلتان ..إلخ، إلى جانب مستوى الدعم الإيراني والروسي الذي قدّم للطغمة، وبالأساس : موقف المجتمع الدولي عموماً، والإدارة الأمريكية خصوصاً المائع، والبعيد عن اتخاذ موقف واضح، وحاسم، والبصمة الصهيونية الواضحة التي تدفع باتجاه تدمير البلد والدولة، وتصعيد النزاعات المذهبية حد الحرب الطائفية، والمطالبة العلنية بوضع اليد على السلاح الكيماوي وتفتيت الوطن، ثم الدخول على الخط بقوة عبر الاعتداء السافر على السيادة الوطنية وقصف بعض المنشآت..
ـ هذه الوضعية ـ الحصيلة.. أدّت إلى تراجع الإسقاط بالقوة، وحدوث فراغ واقعي.. يشجع التفكير بالبحث عن وسائل أخرى ولو كانت تكتيكية، وتمريرية.. فاعتلت الحلول السياسية سطح الأحداث، خصوصاً وأنها لم تفارق الكبار في الوضع الدولي، خصوصاً وأن الروائح كثيرة عن طبخات كبيرة سرية وعلنية يجري تداولها، وتسريب بعضها، والقاضية برفض ذلك المجتمع لفكرة التدخل الحاسم بالشأن السوري، والعمل على فرض حل تفاوضي ـ سياسي كمخرج وحيد.. بينما تذهب كثير المؤشرات إلى واقعة أن تكون الولايات المتحدة قد أرخت العنان لروسيا كي تتولى الملف السوري، بهدف التفويض أو التوريط، أو أن تكون قد عقدت معها صفقة كبيرة تكون بلدنا سورية بعض كعكتها ...
ـ في مثل هذه الوضعيات المتحركة.. فإن اية قيادة سياسية مسؤولة عن ثورة ومصير شعب ووطن عليها التفكير بما يمكن عمله، لتحريك الساكن، ولخبطة المشاريع التي ستفرض، أو الدخول على خطها لتعديلها . أي عدم المراوحة في أعمدة الثوابت، لكن دون تخطيها في النهاية، بما يستلزمه ذلك من استخدام الوسائل والتكتيكات المناسبة، والتي يجري التفاهم عليها، وإخراجها بالصيغ الأفضل .
ـ القيادة الواعية، المؤمنة بالثورة، الواثقة من نفسها، ومن تمثيلها للشعب، المتفاهمة التي تعمل بروح الفريق لا تخشى خوض الأمواج، ولا اقتحام الصعب، وتقديم ما تراه الأفضل لتحقيق الهدف..لكن شرط أن يكون ذلك خارج ردود الفعل السلبية، والعمل الفردي، الانفرادي، وانطلاقاً من الحرص على تحقيق الهدف، وانتصار الثورة، وحماية البلد من مخاطر مريعة شاخصة .
ـ إن الوطنية السورية العصية على الاحتواء، والتدجين قادرة على صيانة وحدة البلاد، والدفع باتجاه الانتصار وفق المحددات التي أجمعت عليها الثورة، وقوى المعارضة، دون تهيّب، أو بلبلة، أو الغرق في الشعبوية واستجلاب التأييد العاطفي اللحظي.
ـ بالعودة إلى نشوء الإئتلاف الذي نهض وسط تقولات كثيرة عن اتهامه المنشأي كغطاء لتمرير حلول تفاوضية مع النظام، وردة فعله العاطفية على ذلك.. فقد أكد في روحه، وجوهره، ومواقفه أنه غير قابل للهضم والتكييف، وأن ثوابت الوطنية السورية خطّ أحمر لا يمكن الاقتراب منه، والتلاعب به، وبالوقت الذي قسر نفسه بالنأي عن ممارسة السياسة، والنص في وثيقته التأسيسية على أنه : لا تفاوض ولا حوار مع النظام الفئوي المجرم.. يجد نفسه معنياً : تأسيساً وسياقاً بالعمل السياسي، وبوجوب وجود رؤية سياسية، ومبادرة سياسية، والتعامل مع المفردات الدولية والمجتمع الدولي سياسياًً.. لكن بطريقة ممأسسة، ومن خلال جماعية القرار، والمشاركة.. وبعيداً عن التخوين والاتهام اللذان لا يليقان بأعضائه والمنتسبين إليه..والمتعاطفين معه..