الثورة وخياراتها ...

عقاب يحيى

بسيطة، موجزة خيارات الثورة التي انطلقت منها، ولأجلها : الحرية والكرامة .

الحرية هي الهواء الصحي الذي يجب أن يكون ملازماً للحياة، وبدونه يحصل الاختناق، والاختناق أنواع، والكرامة جوهر حقوق البشر للشعور بأنهم يتعاملون كأرقى المخلوقات. لهم مساحتهم، ومشاركتهم في وطنهم. عندما تغتال الحرية وتسحق الكرامة.. ما الذي يبقي في، وللإنسان؟.. لذلك انطلق الشباب في ثورتهم وبالذهن أن انتزاع هذه الحقوق يسير.. وأن نظاماً يتشدّق يوميا بشعارات الشعب، والإصلاح عليه أن يستجيب.. فكان الردّ : الموت والاعتقال الفظيع، والتدمير، وكان التفسير بأن الذي يجري : فتنة ومؤامرة يختصر الذهن المريض الحاكم، وخبثه في دفع الأمور نحو ما يخطط .

ـ الاغتيال أفقد الثورة معظم ناشطيها الأوائل، وإطاراتها المتقدمة، وكان ذلك فعلاً منهجاً لإغراقها في البلبلة والفوضى، ناهيك عن الاختراق وعمليات التشويه، والفبركة .. فلم تستطع الثورة إنتاج قياداتها من بين صفوفها .. وحدث فراغ كبير يبحث عمّن يملأه : تعدد التنسيقيات وأشكال الحراك الثوري، وصعود المعارضة التقليدية لاحتلال موقع الصدارة .

ـ المعارضة، ورغم ما قدمته من تضحيات جسام عبر مواجهتها الطويلة للنظام، ورغم ما راكمته من عمل، وما قامت به من دور.. إلا أنها، ولأسباب مركّبة، كانت عاجزة عن أن تكون تلك القيادة، أو أن يحدث الاندماج بين الكبار والشباب لجسر الهوة، وإحداث التفاعل، فحدث الاختلال، والتباين ..

ـ المعارضة لم تكن موحدة الرؤية حول جوهر ما يجري، وطرق التعامل مع النظام، فتراوحت المواقف بين مراهنة متبدّلة، وغير مستقرة على إمكانية التوصل لاتفاق مع النظام، وبين من لا يرى ذلك بتاتاً، وأن بنية النظام ومرتكزاته ونهجه لن تنتج غير الدمار والعنف، والفوقية والعجرفة، وعبر ذلك راهن البعض على تدخل خارجي حاسم تصوروا أنه قادم، وفي جيوبهم.. فعلا صهيل الصراخ والدعوات، ثم تبيّن للجميع أن أصحاب القرار لا يريدون اتخاذ قرار، وأن الصهيونية حاضرة بقوة، وترفض سقوط، أو إسقاط نظام لبى حاجات أمنها، وتوافق مع مشروعها الاستراتيجي، مباشرة أو من حيث النتيجة..

ـ نعم قيل الكثير في تلك العلاقة الغامضة التي ربطت نظام الطغمة بإسرائيل. هناك من يذهب إلى المدى البعيد، وهناك من ينطلق بوليسياً في التفسير ويروي حكايات التاريخ عن العمالة والارتباط، ويأتي لك بالقصص والشواهد.. لكن، وبعيداً عن الانطلاق من هذه الشبهات، وعبر مسارات نظام الطغمة يمكننا أن نمسك الحقائق الموضوعية التي تؤكد أن إسرائيل تنظر بعين الرضا لوجود نظام الطغمة، وترفض سقوطه، فقد جعل حدودنا مع فلسطين المحتلة آمنة على مدى العقود، ومنع إطلاق ولو رصاصة، أو عملية مسلحة، والأهم من ذلك أن ما يقوم به من موضعة طائفية، ومن علاقة عضوية مع إيران صاحبة المشروع التشيعي ـ القومي، ومجمل مقايضاتهخ في القضية الفلسطينية، والقضايا الوطنية والقومية، ودوره الإقليمي الملغوم يخدم أساس المشروع الصهيوني القائم على تفتيت المنطقة على أسس مذهبية وعرقية، عبر إحلال الصراعات العمودية وإضعاف الخط الوطني، والعمل السياسي.. لذلك تدعمه، ولذلك حالت وتحول دون سقوطه، ولذلك تتدخل كي يبقى القرار الأمريكي مائعاً، انتظاريا، ومثله مواقف بقية الدول التي للصهيونية تأثير كبير فيها .

ـ إسرائيل والغرب لا يهمهما اليوم سوى أسلحة الدمار الشامل : الأسلحة الكيماوية السورية.. لذلك لم يعودوا يخجلون من التصريح بواجب السيطرة عليها، أو تدميرها لتكسير أسنان بلدنا، وتهشيم قوتها..لذلك تريد إسرائيل خلط الأوراق باعتدائها على بلدنا، وكأنها تدخل على خط دعم الطغمة من بوابة قصف مواقع سورية لحرف الأنظار، وبلبلة الشارع، ومنح الطغمة أوراقاً جديدة" وطنية".. هي الجبانة الغاطسة في وحل التفريط بالسيادة الوطنية على مسافة اعتداءات إسرائيل المتكررة، التي لم تردّ يوماً على اعتداءاتها وصلفها، بينما" تستبسل" فتقصف بكل أسلحتها شعبنا ومدننا ..وتدخل من جديد على الحالة السورية من بوابة ضرب مركز أبحاث، بينما معظم أسلحة وطيران بلدنا تتمرّغ بدماء الشعب ..

*****

حين أجبرت الثورة السورية على امتشاق السلاح دفاعاً عن النفس والعرض .. وكممر وخيار إجباريين.. كان ذلك بعد التأكد من أن عصابة القتل الحاكمة تذبح جميع المحاولات، والمبادرات السياسية، وأن منتجها الوحيد : قتل الثورة، ولو بارتكاب حرب الإبادة، والمجازر الجماعية، وتدمير بنيان الدولة السورية كما يحدث تماماً.. فأغلقت أصوات المراهنين، والوسطيين، ودعاة الحل والمصالحة، وارتقى بعضهم في مواقفه إلى مصاف من يُحسب من المتشددين، حين حصل الإجماع في مؤتمر القاهرة للمعارضة، والذي وضع وثيقتين مهمتين، أولهما وثيقة العهد الوطني الذي يرسم ملامح سورية القادمة : الدولة المدنية الديمقراطية، التعددية، التداولية . دولة الحق والقانون والدستور والانتخابات النيابية، ودولة المواطنة المتساوية، ووثيقة المرحلة الانتقالية.

 في الوثيقتين لم ترفض المعارضة المبادرات السياسية التي كان عنوانها يوم ذاك " مبادرة كوفي عنان"، ولا إمكانية الاتفاق مع بقايا النظام على تشكيل حكومة انتقالية، وتكوين مجلس عسكري ـ أمني لضبط الأمن وتحقيق السلم الأهلي، وتوفير الغذاء للمواطنين، والبدء بعمليات الإعمار والتعويض للمتضررين، وترسيخ مبدأ التسامح والمصالحة بتشريع قانون لذلك يرفض منطق الإقصاء، والاجتثاث والثأر .

ـ أكثر من ذلك لم تنادي باجتثاث البعث والبعثيين، ولا موظفي الدولة وسلك الأمن والشرطة، بل نادت بحق البعثيين في إنشاء حزبهم، وعودة الموظفين إلى مواقعهم، بما فيهم أجهزة الشرطة والأمن، وأن يأخذ القانون طريقه مع الملوثة أيديهم بالقتل، وتطهير تلك الأجهزة من اللصوص والفاسدين وفقاً للمهام الجديدة للأمن والشرطة في دولة الحريات العامة والدستور والقانون .

ـ ليس صحيحاً أن المعارضة، بالمجمل والمفرد لا تملك رؤية سياسية أو برنامجاً عملياً لحالتي الانتقال السلمي للديمقراطية، أو إسقاط النظام، فمعظم الأحزاب، والمجلس الوطني، والإئتلاف طرحت رؤاها التي تتقاطع جميعها في الأساسيات وتتشابه وتتفق في الخط العام، ولدي الجميع تصورات تفصيلية عن المرحلة الانتقالية، ومستقبل البلاد تشمل جميع المجالات السياسية والدستورية والتشريعية والمجتمعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وهناك مؤسسات ومؤتمرات سورية أنجزت وثائق مهمة في العدالة الانتقالية، وفي تفصيل جوهر النظام الديمقراطي، والدولة المدنية الديمقراطية، وصولاً إلى مؤتمر وطني جامع لا يستثني أحداً، يختار لجنة دستورية لإعداد الدستور في زمن لا يتجاوز الستة أشهر وطرحه على الاستفتاء العام، وما يشبه الإقرار باعتماد دستور عام 1950 ليكون مرجعية المرحلة الانتقالية .

ـ إن إغلاق ملف " المبادرات"، أو الحلول السياسية لم يكن بمبادرة من قوى المعارضة وهيئاتها القائمة. على العكس، فما زالت جميعها تعلن في وثائقها، وعلى الطالع والنازل ترحيبها بأية مبادرة سياسية تحقن دماء السوريين، وتجنب بلادنا ويلات أخطر تلوح في الأفق، وبعضها يرتسم على الأرض بوشم مقصود من الطغمة الحاكمة التي تدفع البلاد نحو منزلقين خطيرين : الحرب المذهبية، واستقدام التدخل الخارجي.. على قاعدة تدمير الدولة السورية، وخلق الخنادق العميقة من الحقد بين فئات الشعب عبر ممارسات فتاكة ممنهجة، وشروط المعارضة المتفق عليها تبدو هي الحد الأدنى المعقول : تنحية رأس النظام ورموزه، وتحويل المتورطين بالقتل إلى المحاكم العادية. بل هناك من يستعد إلى حصر الرموز تلك بعدد قليل، محدود من كبار القتلة المجرمين في مؤسسة النظام، ومثيله بالمقصود بالمتورطين بالقتل، وتكريس قانون للتسامح والمصالحة الوطنية والسلم الأهلي يدعوجميع فئات الشعب للعمل في بناء الدولة المدنية الديمقراطية .

ـ على جانب آخر، وتعقيبا على ما أثارته تصريحات الأخ الشيخ معاذ الخطيب/ رئيس الإئتلاف/ من ضجيج وتفاعلات، وتأكّد الجميع من خلفيته الوطنية، ودوافعه النزيهة لتحريك وضع بات معروف السمات، فإن معظم الملاحظات التي قيلت تناولت الشكل والمضمون بروحية أخوية، ومسؤولية عالية، مع التأكيد على حق وواجب الإئتلاف في التعاطي الإيجابي مع المبادرات السياسية الجدية التي تطرح على قاعدة تلك الشروط المحددة التي يتمسك بها رئيس الإئتلاف قبل أي عضو آخر، والتي تمثل ركناً رئيساً في وثيقة تأسيسه .

ـ بقي القول أن كل ثورة في الدنيا تمرّ بمنعرجات وأوضاع مختلفة، ولا يمكن أن تبقلا في مسار مستقيم، أو افتراضي، فكيف بالثورة السورية العظيمة : اليتيمة، الاستثناء في دورها، ومواجهتها لطغمة إجرامية فئوية، قاتلة حاقدة، والاستثناء في تداعيات وتأثير انتصارها الذي سيتجاوز بلدنا إلى دول الجوار والمنطقة، وربما ما هو أكثر.. لذلك تتراكب على عدائها، ومحاولات تحجيمها، وخنقها، أو تشويهها، أو حرفها مجموعة أطراف تصبّ في النتيجة في خندق الطغمة، وتتجاوز الحلفاء العضويين لها : إيران وحزب الله وروسيا.. إلى عديد الدول الغربية، ومنها من يدعي أنه صديق للشعب السوري.. وإسرائيل بالطبع صاحبة البصمة الواضحة في التأثير على القرار الدولي، وفي دخولها المباشر على الوضع من بوابة القصف المدان لبلدنا، والاعتداء السافر على سيادته .

ـ منعرجات الثورة وإن كانت محمّلة بكثير سلبيات منتجها، وسيرورتها، إلا أنها طبيعية.. ومفهومة، وعابرة، وستتجاوزها الثورة لأنها تعبير عن إرادة شعب يجترح المعجزات. شعب مصمم على حقه في الحرية والحياة والكرامة مهما كانت التضحيات، وبما يقتضي الاعتماد المنظم على الذات، واستنهاض الوطنية السورية، خاصة أبناء الوطن المقيمين في الخارج لتقديم عونهم، وقيام المؤسسات والهيئات المعنية، خاصة الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بالدور المأمول في عموم المجالات، بما فيها السياسية وغيرها .