المرجعية الإسلامية وأزمة الدساتير (3)
د. أحمد محمد كنعان
الدستور بتعريف موجز هو مجموعة من القواعد القانونية الأساسية التي تنظم تسيير شؤون الدولة ، وهو يحدد وظائف الحكومة ، ومهماتها ، والصلاحيات التي تحتاجها من أجل أداء هذه المهمات ، ويطلق علماء السياسة على الدولة التي تخضع فيها الهيئات الحاكمة للدستور وصف "الدولة الدستورية" وقد استقر هذا الوصف في الفكر السياسي بعد استقرار فكرة الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية والقضائية والتنفيذية .
ويعدُّ الحكام في الدولة الدستورية مفوضين عن الشعب الذي هو صاحب السلطة الحقيقي ، وهؤلاء الحكام يتصرفون وفق قواعد مقيدة يحددها الدستور مسبقاً لكل منهم ، علماً بأن معظم الدساتير تعطي الحكام هامشاً ضيقاً من حرية التصرف في ظروف استثنائية يحددها الدستور نفسه ، وإذا ما رغب الحاكم بتوسيع هذا الهامش يتوجب عليه الرجوع إلى السلطة التشريعية لأخذ موافقتها أولاً ، وتشترط معظم الدساتير أن لا تتجاوز هذه الصلاحيات حداً معيناً وإلا فقد النظام دستوريته ، وهذا ما هو حاصل اليوم في العديد من دول العالم المتخلف التي تفاخر ـ نظرياً ـ بأنها دول دستورية ، وعندها دساتير مكتوبة بخط أنيق وحبر أزرق شفاف ومغلفة بالحرير وخيوط الذهب ، لكنها في واقع الحال لا تعير هذه الدساتير أي اعتبار ، ولا تقيم لها أي وزن !
ويخبرنا التاريخ أن فكرة الدساتير المدونة هي فكرة حديثة العهد نسبياً إذا ما قورن تاريخها بتاريخ الحكومات والدول الموغل في القدم ، ويتفق المؤرخون على أن أول دستور مكتوب ومعروف في التاريخ السياسي هو الدستور الذي عرف باسم "الصحيفة" التي أبرمها النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في العام الأول للهجرة ( حوالي 622م ) عندما هاجر إلى المدينة المنورة بناء على طلب من أهلها الذين دخل معظمهم في الإسلام ، وقد كان هذا الدستور أول عمل سياسي للنبي صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة ، وقد تضمن دستور المدينة هذا جملة من القواعد الأساسية التي تنظم العلاقة بين المسلمين وبقية أهل المدينة من المشركين واليهود والقبائل التي كانت تسكن المدينة حينذاك ، وكذلك بعض القبائل التي اختارت أن تكون في حماية الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة .
أما أقدم الدساتير الأخرى فلم ير النور إلا بعد دستور المدينة المنورة بأكثر من ألف عام ، وأولها دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي ووفق عليه بالأكثرية في مجلس النواب يوم (21/6/1787) ووضع قيد التنفيذ العملي يوم ( 4/3/1789 ) ويعد هذا الدستور من أوضح وأدق الدساتير التي عرفها تاريخ السياسة في العصر الحديث ، فقد ساهم هذا الدستور بقيام حكومة تتوازن فيها السلطات الثلاث ، كما أقام التوازن بين الحكومة الاتحادية من جهة وحكومات الولايات المختلفة التي تشكل في مجموعها الولايات المتحدة من جهة أخرى ، وهو دستور يتمتع بمرونة كافية تجعله قادراً بكفاءة على مسايرة التطورات السياسية والاجتماعية ، فقد نصَّ صراحة وبالتفصيل على إمكانية التعديل والإضافة ، ونصَّ على كيفية إجراء التعديلات والإضافات ، كما نصَّ في الوقت نقسه على بعض القيود التي تحميه من التغييرات المتسرعة التي قد تسيء إلى القيم والقواعد المتينة التي تأسس عليها .
وعلى الرغم من أن معظم دول العالم قد أخذت بمبدأ الدساتير ، وأصبح لكل منها دستور تحتكم إليه ، فماتزال هناك دول عديدة ليس لديها دستور مدون حتى اليوم ( بريطانيا ، نيوزلندا .. ) لكنها مع هذا تتصف بأنها دول ديمقراطية نيابية قد تواضعت على عدد من المفاهيم والقيم والقواعد التي تعمل في حياتها عمل الدستور .. وهناك بالمقابل دول أخرى ليس لديها دستور مكتوب ( عُمان ، السعودية .. ) لكنها لم ترتق حتى اليوم لأن تكون دولاً ديمقراطية بالمعنى الدقيق للكلمة !
وجدير بالذكر أن الدساتير العربية عرفت في العصر الحديث لأول مرة في مصر التي صدر فيها أول دستور في عام 1882 بأمر من "الباب العالي العثماني" ، تلاه في مصر نفسها دستور عام 1923 بعد إعلان الاستقلال عن بريطانيا ، أما بقية البلدان العربية فلم تعرف الدساتير إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية في عام 1924 ، وأولها الدستور الذي صدر في العراق عام 1925 أي في العام الذي أعقب سقوط الخلافة مباشرة ، ثم لبنان 1926 ، فسوريا 1930 ، فلبنان 1043 ، فليبيا 1951 ، فالسودان 1958، فتونس 1959 .
وقد شهدت الدساتير العربية ـ ومازالت تشهد ـ تعديلات كثيرة متلاحقة منذ إعلانها وحتى يومنا الحاضر ، ومانزال نشهد صدور "نسخ جديدة" للدساتير في بلداننا العربية مع كل انقلاب أو تغيير سياسي ، ومازالت معظم هذه الدساتير العربية حتى اليوم بين أخذ وشد ، كما هي الحال مثلاً مع الدستور المصري الجديد الذي صدر أواخر العام 2012 في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك وأتت إلى السلطة بحزب "الحرية والعدالة" الذي يتزعمه "الإخوان المسلمون" ، وقد تكررت هذه الظاهرة في الماضي مراراً وتكراراً مع كل تغيير سياسي أو انقلاب عسكري !
ونعتقد أن هذه الظاهرة غير الصحية التي تتمثل بالتغيير المتلاحق للدساتير العربية لن تختفي من حياتنا السياسية إلا حين نؤمن حقيقة ـ وليس نظرياً ـ بأهمية الدستور في الاستقرار السياسي والاجتماعي ، وأن نتوقف عن أن نجعل الدستور "مطية" لتطلعاتنا السياسية ، مما يجعل الواصلين إلى السلطة حريصين على إخراج "نسخة جديدة" للدستور مفصَّله على هواهم ، أو وفق أجندتهم السياسية ، أو حسب الإيديولوجيا التي يؤمنون بها ، بينما الأصل أن في الدستور الثبات وعدم التعديل إلا في الظروف الاستثنائية ، وفي أضيق الحدود كما ذكرنا آنفاً ، لكي يظل الدستور معبراً عن تطلعات الأمة بمختلف أطيافها ، لا أن يكون الدستور مجرد "طبلة" كلما جاء حاكم جديد عزف عليها اللحن الذي يطربه !