المرجعية الإسلامية وأزمة الدساتير

د. أحمد محمد كنعان

د. أحمد محمد كنعان

إن المتتبع لتاريخ الرسالات السماوية المختلفة يجد أن هذه الرسالات قد مرت بمراحل من التغير والتعديل والتطور الذي ساير توسع المجتمع البشري ، وتطور العلاقات الاجتماعية فيه ، جيلاً بعد جيل ، وليس بعيداً عن التصور أن التشريع السماوي في مطلع التاريخ البشري كان تشريعاً بسيطاً ينحصر ببعض الأحكام التي تلبي حاجة ذلك المجتمع الصغير والمحدود في أنشطته وعلاقاته الاجتماعية ، ومع نمو المجتمع البشري وتعقد علاقاته بدأ التشريع السماوي ينمو ويتوسع شيئاً فشيئاً ليقدم في كل مرحلة ما يناسبها من تشريعات تلبي حاجات الزمان والمكان والأحوال ، وقد ظل التشريع السماوي ينمو ويتطور على هذه الشاكلة إلى أن اختتمت الرسالات السماوية برسالة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام التي تمثلت بكتاب كريم يحتوي قمة التشريعات ، وأحكمها ، وأكثرها شمولية ، لكي يلبي حاجات البشرية ، ليس في زمن نزولها فحسب ، وإنما على مدار التاريخ الآتي وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وقد صور القرآن الكريم هذا الأفق الإنساني الرحب الذي ختمت به الرسالات السماوية بقوله تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) سورة المائدة 3 ، وبهذا كانت رسالة الإسلام رسالة عامة للعالمين جميعاً ، على خلاف الرسالات السماوية السابقة التي كانت تنزل إلى قوم النبي دون غيرهم من الأمم .

ولأن هذه الرسالة كانت خاتمة الرسالات السماوية فقد اتصفت بصفات فريدة عما سبقها من رسالات ، ولعل أبرز تلك الصفات أنها رسالة واقعية ، تراعي فطرة الإنسان ، فلا تحمِّله أكثر مما يطيق ، وترفع عنه الحرج والمشقة ، وتبيح له الترخص في الظروف الصعبة التي تتجاوز طاقته ، كما قال تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) ( فاتَّقوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم ) أضف إلى هذا أن رسالة الإسلام تركت للناس حرية الاعتقاد ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وبهذه الروح الواقعية استطاع الإسلام أن يستوعب مختلف أطياف المجتمع الوليد في المدينة المنورة ، واستطاع أن ينتشر في أرجاء المعمورة في زمن قياسي ، لما وجد فيه الناس من واقعية في التشريع ، ورحابة في الاجتهاد تتيح للعقل البشري أن يتحرك بالتشريع بكثير من الحرية ليصل إلى حلول واقعية للمشكلات التي تعترض حياته ، وبهذه السمات شكل الإسلام منعطفاً فاصلاً في التاريخ البشري ، فقد أسلم الإنسان مقاليد الخلافة في الأرض ، التي تعني أول ما تعني الاعتراف للإنسان بحق الاجتهاد لحياته ، في إطار المقاصد الكلية التي حددها الشارع الحكيم .

وانطلاقاً من هذه الطبيعة للرسالة الخاتمة وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يؤسس أول دولة في المدينة المنورة على أسس جديدة لم يسبق أن عرفها التاريخ البشري من قبل ، إذ وجدناه يحرر لهذه الدولة دستوراً تعاقدياً عرف باسم "صحيفة المدينة" ينص صراحة على مفهوم "المواطنة" التي تعتبر كل من يقيم على أرض الدولة ـ من مسلمين وغير مسلمين ـ مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ، ويعترف لكل طائفة منهم بالحق في اختيار أسلوب حياتهم ، ولم يحمِل أحداً منهم على الإيمان بالدين الجديد بل ترك لهم حرية الاعتقاد ، ونصَّ صراحة على أنه لن يتدخل في شؤونهم إلا في حال الخلاف الذي يهدد أمن الدولة كما جاء في خاتمة الصحيفة ( وَإنَّهُ ما كانَ بينَ أهلِ هذهِ الصَّحيفةِ مِنْ حَدَثٍ أو اشْتِجارٍ يُخافُ فسادُهُ فإنَّ مَرَدَّهُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وإلى مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ ) وهذا يعني أنه جعل المرجعية الإسلامية منحصرة بالخلافات إن وقعت ، وكأنه أراد أن تكون هذه المرجعية بمثابة "طوق النجاة" الذي يستخدم عند الضرورة ، لا أن يحتكم الناس إليها في كل صغيرة وكبيرة ، وكأن الأصل أن يتشاورأهل الرأي في الدولة في أمور حياتهم ليعرض كل منهم الرأي الذي يراه ، فإذا اتفقوا على أمر أمضوه ، وإذا اختلفوا رجعوا حينئذ إلى هذه "المرجعية" لتكون حكماً بينهم يحول دون الشقاق والنزاع ويهدد امن المجتمع .

وأعتقد أن هذه "القراءة" للرسالة الخاتمة ولدستور المدينة يمكن أن تشكل حلاً عملياً للخلاف الحاد الذي يجري اليوم بين الإسلاميين الذين ينادون أن تكون ( مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ) المادة 2 الدستور المصري 2012 ، وبين الداعين إلى "الدولة المدنية" الذين يرفضون أن تنص الدساتير على أية مرجعية دينية ، وإذا ما سلمنا بهذه القراءة وبأنها الحل لهذا الخلاف فحينئذ يبقى علينا أن نجتهد في تكييف هذه القراءة تكييفاً فقهياً وقانونياً للنص عليها في دساتيرنا الجديدة ، وهذا ما سوف نحاوله في مقالتنا التالية بإذن الله تعالى .