الكنيسة والدستور !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تمنيت وغيري من المسلمين والنصارى أن ينتهي عهد الكنيسة بالسياسة ولعب دور سياسي لا يتفق مع طبيعتها ومهمتها الروحية في رعاية شئون النصارى دينيا وخلقيا ، وقد كتبت أكثر من مرة أطالب البابا الجديد أن يكف عن التدخل في الشئون السياسية كما كان يفعل سلفه المتمرد الذي قاد الطائفة أربعين عاما إلى بحر الظلمات مستغلا ضعف الدولة واستبداد حكامها الطغاة الذين سقطوا في ثورة يناير!

البابا الجديد صرح قبل فترة قصيرة برفض المادة 220 من مسودة الدستور ، وعدها مُؤسّسة لدولة دينية – كما يسميها – ورأى في ذلك إخلالا بمبدأ المواطنة والوحدة الوطنية وغير ذلك من دلالات من وجهة نظره ، وهو موقف غريب لا يعبر عن تسامح أو محبة أو قبول للآخر !

وقد أتبع البابا موقفه بسحب ممثلي الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأخرى من الجمعية التأسيسية للدستور تحت دعوى أن الدستور لا يلبي مطالب النصارى ولا يؤسس لدولة مدنية ، وفي الوقت ذاته كانت هناك مقابلات للبابا مع بعض رموز الفلول والتيار العلماني المتطرف ، خرجوا على إثرها ليعلنوا انسحابهم المريب من الجمعية التأسيسية ، وظن القوم أن الانسحابات المتعددة بعد أن أوشكت الجمعية التأسيسية على الانتهاء من الدستور يمكن أن توقف إتمامه ويتأزم الموقف ، ويصبح التفاوض مع الرئيس طريقا للابتزاز وفرض المطالب غير المنطقية التي تجعل الطائفة فوق الدستور والقانون ، وتحولها إلى دولة داخل الدولة بل فوق الدولة !

خاب ظن القوم حين تم تصعيد الأعضاء الاحتياطيين ، وتم التصويت على مواد الدستور مادة مادة في مشهد بطولي نادر أسفر عن مسودة دستور غير مسبوق في تاريخ مصر من حيث اهتمامه بحرية أبناء الوطن وحقوقهم بما فيهم النصارى ، وقد تضمن الدستور لأول مرة مادة خاصة بهم مع اليهود للتحاكم إلى شرائعهم .

الكنيسة لا تريد للمسلمين أن يتحاكموا إلى شريعتهم ، وتعد ذلك انقلابا على الدولة المدنية ،وإقامة للدولة الدينية ، وهذا كلام فيه تدليس وتلبيس ، والدنيا كلها تعلم أن الإسلام هو أول من قدم للعالم الدولة المدنية بمفهومها الحقيقي ، وفي الوقت الذي كانت فيه الكنيسة في أوربة تحكم باسم الله والحق الآلهي ؛ وتمنح الغفران وتفرض الحرمان ، كانت الدولة الإسلامية تتيح حرية غير مسبوقة لأصحاب المعتقدات المختلفة بحوار حضاري لم تعرفه البشرية من قبل ، انطلاقا من المسئولية الشخصية التي يتحملها صاحبها وحده ودون وساطة بين الخالق والمخلوق " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه .." ( سورة الإسراء : 13) .

في المقابل نجد الكنيسة الأرثوذكسية في مصر تضع الإنجيل فوق الدستور والقانون ، وقد رفض شنودة حكم محكمة نهائيا يلزمه بالزواج الثاني لأنه في تفسيره الشخصي للإنجيل يرى أن الإنجيل فوق حكم المحكمة وقد أصر على موقفه حتى أصدرت محكمة عليا قرارا بوقف تنفيذ الحكم .لقد أصرّ البابا السابق – ومثله البابا الحالي – على تطبيق الإنجيل بمفهومه الشخصي ولا يريد للمسلمين أن يطبقوا شريعتهم وفقا لمنهج أهل السنة والجماعة .الكنيسة تقيم دولة دينية داخل الدولة الإسلامية المدنية وتعامل النصارى معاملة العبد الذي لا يملك من أمره شيئا وتحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية وهو الزواج إذا طلق زوجته ، وتدفعه إلى مخالفة دينه ليشبع غريزته البشرية مع أن هناك ما يسمى لائحة 38 التي وضعها مجموعة من رجال الدين الكبار يمكن أن تحل مشكلات ثلاثمائة ألف أسرة نصرانية معذبة . ثم تمارس الكنيسة سلطة الدولة المتعصبة التي تحشد رعاياها من أجل امرأة أسلمت أو زوجة كاهن تركت زوجها ، أو فتاة نصرانية تزوجت من فتي من غير دينها أو طائفتها . أعجبني ما قاله كاتب نصراني حين ضرب مثلا بالكلب الذي إذا تركته وليفته يستطيع أن يجد أخرى . أما القبطي فهو الكائن الوحيد فى الكون الذي إذا تركته زوجته أو أساء اختيارها لأنه لم يتمعن جيدا فى دراسة علم النفس وعلم الاجتماع قبل الاختيار يظن الآباء أن الله يجب أن يعاقبه لبقية حياته ، ويجب أن يعاقبه رجال الكاتدرائية أيضا .

اليوم نجد متمردي الطائفة من عهد شنودة يقومون بالدور الإجرامي ذاته ضد الإسلام والمسلمين ، وهاهو أحدهم يدعي أنه مستشار للكنيسة الأرثوذكسية يقوم بالتحريض ضد الشريعة الإسلامية  ويطالب بتدخل دولي في مصر ، ويفاخر بأن الحشود التي كانت في التحرير في مظاهرة الثلاثاء كانت حشود شعب الكنيسة ، ويردد المذكور رفضه للمادة 220 في مسودة الدستور المفسرة للمادة الثانية  ، ويزعم أن مسودة الدستور لا تقوم فقط بإقصاء الأقباط ، ولكنها تضرب جميع مقومات الدولة المتمثلة في التعددية الثقافية والدينية والمذهبية والسياسية، وتنتهك حرية المرأة وتقلل من شأنها.

لقد كشفت مصادر بالمقر البابوي عن صدور تعليمات من البابا بالتنبيه على الكهنة لدفع الأقباط للعزوف عن المشاركة فى الاستفتاء على دستور مصر المقرر عقده يوم 15 ديسمبر الجاري . وشدد مئات الكهنة والقساوسة خلال قداس الصباح ،على ضرورة مقاطعة الاستفتاء للطعن فى شرعيته فى وقت لاحق بزعم أنه لا يمثل المصريين مع أن الدستور تضمن كل المواد التي اقترحها ممثلو الكنائس حتى بعد خروجهم من الجمعية التأسيسية للدستور.  وإضافة إلى ما سبق طالب الكهنة الأقباط بالاشتراك فى العصيان المدني الذي دعت إليه قوى ليبرالية ويسارية وعدم الذهاب إلى أعمالهم لتعطيل عجلة الإنتاج – ما استطاعوا – وقضاء اليوم بالكامل بميدان التحرير للتظاهر، مؤكدين أن خطوة العصيان المدني هي السبيل الأمثل لإسقاط الرئيس المنتخب، كما دعوا الأقباط للمشاركة فى أول مسيرة تنطلق إلى قصر الاتحادية مرددين "الرب راعيكم ويؤيدكم فى مطالبكم" ولا تخشوا من حشود الإسلاميين، فالعالم كله يراقب ما يحدث ولن يتوانى عن إنقاذكم.

لماذا تريد الكنيسة أن يتنازل المسلمون عن شريعتهم وهم الأغلبية الساحقة ، مع أنها تمارس حقها كاملا في ممارسة شريعتها ، وهي تعلم جيدا أن الأغلبية المسيحية في الغرب تحرم على المسلمين الأذان من خلال مآذن ، وتمنع المسلمات حق ارتداء الحجاب فضلا عن النقاب ، وتسجن من يضبط متلبسا بالزواج من زوجة ثانية وفقا للشريعة الإسلامية .؟ لماذا تكيل الكنيسة بكيلين ، وتهدد برفض الدستور ومقاومته وإسقاط الرئيس ؟

هل يستطيع أحد أن يفسر لمنا لماذا تفعل الكنيسة هذا في بلد كله مسلم بالعقيدة والحضارة ؟