المحرّمات الثّلاث: الدّين، الجنس، والسّياسة
مادونا عسكر/ لبنان
ثلاثة مواضيع لا يجوز الاقتراب منها أو المسّ بها في مجتمعاتنا الّتي ما زالت ترزح تحت نير الفكر الضّيّق والجهل المقيت. وكلّما امتنعنا عن مناقشتها أو مُنعنا ،ازددنا جهلاً وانغلاقاً، وبالتّالي غرقنا في تيّارات الحمق وافتقرنا للعقول المستنيرة. ولا ريب أنّ هذا القمع الفكريّ والكبح للإدراك والوعي يؤدّي إلى عواقب وخيمة تودي بالإنسان إلى انحراف أخلاقيّ ودينيّ، كما وأنّه سوف يتثقّف سياسيّاً بشكل خاطئ، ممّا سيجعله يتّخذ منحى بعيدا كلّ البعد عن أهداف السّياسة المتعارف عليها كفنّ الممكن أو الّتي هي خدمة الإنسان والمجتمع.
الدّين والجنس والسّياسة، لهي ثلاث مسائل مهمّة جدّاً في حياة الإنسان ويجب إتاحة الفرصة له في البحث فيها وتحليلها والاقتناع بها، وليس اجترارها وحفظها عن ظهر قلب والتّمسّك بها وراثيّاً دون السّماح للعقل أن يتساءل ويتعرّف على كلّ ما يثير التّساؤل فيها والاستفهام عنها. ليس المطلوب الإفراط في التّعبير عن الهواجس الإنسانيّة، وإنّما المطلوب البحث في الفكر الدّيني والسّماح بطرح الأسئلة المفيدة الّتي تساهم باستنارة العقل ونموّ الوعي الإيمانيّ، كي لا يتحوّل الإيمان إلى مجرّد حفظ للنّصوص الكتابيّة دون فهمها واستيعاب مضمونها الّذي يهدف إلى خدمة الإنسان. كما أنّه ليس من الضّروريّ الإسراف في الحديث الجنسيّ بدون ضوابط أخلاقيّة، وإنّما وضع أطر تربويّة تعرّف الإنسان على رغباته الجنسيّة وتساعده على فهمها وتوجيهها بشكل سليم. ومن الملحّ أن يتربّى الإنسان على أصول حرّيّة الرّأي والتّعبير منذ نشأته، كحقّ مقدّس له. وبالتّالي سنبني إنساناً متّزناً ورصيناً ينخرط في المجتمع ليفعل فيه وليس ليفجّر الكبت المتعشّش في نفسه، سواء أكان دينيّاً، أم جنسيّاً، أم سياسيّاً.
قدسيّة الدّين:
لا ريب في أنّ للدّين أهمّيّة خاصّة في حياة كلّ إنسان باعتبار أنّه وسيلة تعبير عن الإيمان والطّريق المؤدّي إلى الله. وأهمّيّة الدّين تكمن في أنّه رسالة إنسانيّة نبيلة هدفها إرشاد الإنسان عقليّاً وخلقيّاً ونفسيّاً وروحيّاً. وليؤدّي الدّين مهمّته بنجاح لا بدّ أن يكون مرناً ومواكباً للفكر الإنساني، ولنموّه النّفسيّ، فالإنسان ليس آلة تتحرّك وفق منهج واحد لا يتبدّل، وإنّما الشّخصيّة الإنسانيّة تمرّ بمراحل عدّة يكوّن من خلالها خبرته المتفرّدة والمتميّزة. وتفترض هذه المراحل الكثير من التّساؤلات والشّكوك الّتي تحتاج إلى الإجابات الواضحة وغير المبهمة أو المخدِّرة.
إنّ النّصوص الكتابيّة كما هي عليه لم تتبدّل حرفيّاً مذ وجدت وإلى يومنا هذا، إلّا أنّ مضمونها بحاجة إلى قراءات معمّقة، ومنفتحة على العلم دون التّخلّي عن خصوصيّتها. وذلك يكون انطلاقاً من جذور النّصوص ومحاولة تطويعها مع الواقع الإنسانيّ لكي تبقى على هدفها السّامي والنّبيل ولكن مع احترام العقل الإنساني بما وصل إليه من إبداع فكريّ وعلميّ. فعلى سبيل المثال، لا يجوز بعدُ أن نقبل بأنّ الحيّة الّتي هي رمز للموت أو للشّرّ، تتكلّم وتغوي الإنسان، أو أنّ المرأة خلقت من ضلع الرّجل بالمعنى الحرفيّ للكلمة، إلى ما هنالك من رموز استخدمها الإنسان كي يتمكّن من فهم المطلق والسّعي إليه.
هذه النّصوص الكتابيّة تحمل تاريخ أجدادنا وآبائنا وخبرتهم الإنسانيّة مع الله وتفاعلهم معه كنور انسكب في قلوبهم، وكلٌّ تأثّر به وتفاعل معه بحسب قدراته العقليّة والنّفسيّة والرّوحيّة. لذا وجب الانطلاق من خبراتهم دون الوقوف عندها كحرف جامد غير قابل للتّطوير وإلّا وقعنا في فخ كبير ألا وهو سَجن الله غير المحدود في حدود الحرف والنّص المتحجّر، وكأنّنا نقول بأنّ الله غير قادر على فهم الإنسان بكل مراحله المتطوّرة وبالتّالي غير منفتح على عقله الحرّ الّذي وهبه إيّاه. لقد ردّد العظيم ابن رشد: "لا يمكن لله أن يهبنا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها".
ولمّا كان العقل نعمة إلهيّة، فلا بدّ أنّ الله يعلم بقدرات هذا العقل كما يدرك حجم الشّكوك والتّساؤلات الّتي يمكن أن تتبادر إليه. بالمقابل إنّ الأسئلة الّتي تنتج عن العقل الإنساني بما يخص الله والدّين، لا تضرّ الله بشيء بل تساعد على فهم الإيمان ونموّ الوعي الإيمانيّ. ولا يمكن أن يغضب الله من أسئلتنا وشكوكنا، أوّلاً لأنّه أكبر من أن يدخل في منافسة معنا أو أن يخاف من تساؤلاتنا، ثانياً لأنّ العقل الإنسانيّ المبدع هو الّذي يكثر من البحث ليصل إلى الحقيقة. هذا لا يعني أنّ بالعقل وحده نصل إلى الله، وإنّما هو مركز التّفكير والتّحليل، وإيمان لا ينبع من بحث معمّق واجتهاد هو إيمان هشّ لا يلبث أن يندثر مع أوّل نسمة شكّ وريب.
ليس الله من يمنعنا من النّقاش في الأمور الدّينيّة، وإنّما من يعتبرون أنفسهم موكلين بالدّفاع عن الله وشرح الكلمة الإلهيّة. فبمعظمهم يحرّمون المناقشات الدّينيّة ويفضّلون العقول التي تتلقى دون أن تتفاعل مع النّصّ الدينيّ والّتي تكتفي بالوعظ أو الدّرس الدّينيّ دون البحث في تفاصيل تاريخيّة أو عقائديّة. وذلك ليحكموا السّيطرة على عقول النّاس فيزرعوا في قلوبهم الخوف من الله كسياسة ترهيب تمنعهم من تفحّص ما يُردّد على مسامعهم. والأسوأ من كلّ هذا تلك الإجابات المبهمة أو تلك الّتي تخدّر عقل الإنسان وتدفعه لتحمّل ما لا قدرة له على احتماله. ليس عيباً ألّا نجد ردّاً على تساؤلات المؤمن، فهذا أفضل من إعطائه إجابات لا تحترم عقله، وأكاد أقول لا تحترم الله نفسه. هذه الإجابات المبهمة والمخدّرة دفعت بالبعض إمّا إلى الإلحاد، وإما إلى الإيمان المزيّف، أو إلى الإيمان المرتعب من إله مخيف لا يقبل النّقاش ولا يعطي أهمّيّة للعقل الإنساني. وقلّما نجد مؤمنين متّزنين وواعين لإيمانهم وعقيدتهم.
إذا كنّا نؤمن بأنّ الله حرّيّة فلا بدّ أنّه يتفاعل مع حرّيّة مثله، الإنسان. وبالتّالي فإنّ الفكر الإنسانيّ يفرز الكثير من التّساؤلات ويتفحّص ويحلّل كلّ ما يقابله من نصوص وعقائد وتعليم ليتمكّن من الاقتراب من الحقيقة.
حظر المناقشة في المواضيع الجنسيّة:
العلاقة الجنسيّة هي علاقة حميميّة ومقدّسة بين شخصين يعبّران من خلالها عن فعل حبّ. وتكمن أهمّيتها في أنّها تخلق وحدة متكاملة بين طرفين متحابّين وتشكّل لغة مختلفة عندما يفقد الكلام قدرته على التّعبير. كما أنّها العلاقة الأساس في سبب وجود الكائن البشريّ، وهي مقدّسة في كونها مشاركة مع الله في الخلق. والفرق شاسع بين العلاقة الجنسيّة كفعل حبّ وتعبير عنه، وبين العلاقة الجنسيّة النّابعة من رغبة بحتة لتنتهي بمجرّد إشباع هذه الرّغبة. فالأولى لا ترتقي إلى مستوى الفعل الإنسانيّ إلّا بين طرفين متحابّين، أمّا الثّانية فهي تبقى في إطار الغرائزيّة.
ولمّا كانت هذه العلاقة الإنسانيّة مهمّة وضروريّة في حياة الإنسان، فمن المفترض أن نوليها أهمّيّة معرفيّة وثقافيّة، ولا يجوز الاستهتار بها والخوض فيها بشكل عبثيّ وغير لائق بالمستوى الإنسانيّ. وكيف لنا ذلك إن لم يُسمح لنا بالكلام عنها أو بتداولها بشكل طبيعيّ؟ لا بل كيف سنرتقي بهذه العلاقة إن لم نتثقّف جنسيّاً فننزع عنها التّصرّف غير السّليم؟
يبدأ الإنسان باكتشاف جسده في سنّ مبكّر جدّاً، ويطرح التّساؤلات الجنسيّة أوّلاً بينه وبين ذاته ثمّ يحاول التّعبير عن هواجسه. وغالباً ما يواجَه بالقمع أو بأنّ الأخلاق الحميدة لا تسمح بهذه التّساؤلات. وتبقى هذه الأسئلة محفوظة في ذهنه إلى أن يدخل مرحلة المراهقة الّتي يتبدّل فيها جسده وينتفض من الدّاخل، وتتحرّك غرائزه الجنسيّة. وبمواجهة القمع وعدم التّفهّم يهرع للّجوء سرّاً إلى الأصدقاء وإلى الكتب الرّخيصة والمجلّات الإباحيّة والأفلام الّتي لا تعلّمه إلّا أمقت ما في الجنس. وهذه المرحلة الخطيرة من عمر الإنسان تتحلّى بطاقة كبيرة، فكريّة وجسديّة، وما لم توجّه بمنهج تربويّ سليم وبانفتاح حرّ، فلسوف نودي بهذا المراهق إلى الانحراف الأخلاقيّ، وسنراه في المستقبل راشداً غير متّزن جنسيّاً. وكما بدأ بالتّفاعل مع جسده في مراحل المراهقة الأولى سيكمل في سن الرّشد والنّضوج.
كما أنّه لا يجوز التّعامل مع الجسد بلغة القمع، فكلّ قمع وكبت يولّد الانفجار وتكون النتائج لاحقاً غير محمودة. ولا يخفى على أحد الهواجس الجنسيّة عند معظم شبابنا، فهم يبحثون عن الجنس على صفحات الانترنت وفي الأفلام الإباحيّة والكتب والمجلات الرّخيصة. ويخلق هذا البحث الخاطئ وهذا السّلوك الجنسي غير السّوي شخصيّة مضطربة لا تسمح للعقل أن يبدع ولا للرّوح أن تنمو.
لسنا في صدد الدّعوة إلى التّفلّت الجنسيّ، بل نحن بصدد تفعيل التّربية الجنسيّة ووضعها في أطر سليمة والإجازة بالحديث عنها وطرح التّساؤلات أيّاً كانت، طالما أنّها تخدم العقل والقلب وتثقّف الإنسان، كي لا يبقى الهاجس الجنسيّ شغل الإنسان الشّاغل. فالحوار والنّقاش في موضوع الجنس لا يسبب أيّ انحراف أخلاقيّ، وإنّما العكس هو الصّحيح، فالقمع والكبت هما اللّذان يُدخلان الإنسان في منعطف الانحراف الأخلاقيّ.
القمع السّياسي:
القمع السّياسي هو أقسى ما يمكن أن يواجه الإنسان في حياته، ويظهر في منعه من التّعبير بحرّيّة عن تطلّعاته وآرائه السّياسيّة. ولا شكّ أنّ هذا النّوع من القمع لا يظهر إلّا في المجتمعات المتخلّفة والّتي تدّعي الديمقراطية واحترام حرّيّة الرّأي والتّعبير. وتفتقر هذه المجتمعات باختلاف طبقاتها إلى أصول الحوار والمناقشة وإلى الانفتاح على الآخر واحترام اختلافه. لذا يسهل إشعال الصّراعات فيها سواء أكانت صراعات طائفيّة ومذهبيّة أم صراعات حزبيّة.
في هذه المجتمعات التي تُحكم الطّبقة الحاكمة سيطرتها على شعوبها، تحظر عليهم النّقاش السّياسي، أو حتّى الاعتراض على سياسة الدّولة الحاكمة، وذلك من خلال سياسة التّرهيب الّتي تفرضها عليهم، إمّا بالأجهزة الاستخباراتيّة الّتي ترصد كلّ حركة وكلّ تصرّف، فما أن يتفوّه أي شخص بكلمة اعتراضيّة أو رأي مخالف، حتّى يلاقي مصيره في سجن أو معتقل أو يحرم من حقوقه كمواطن. وإمّا تلهيه بسياسة التّجويع فيعتبر أنّ الأهمّ والأولى في الحياة اليوميّة هو البحث عن القوت وتأمين متطلّبات الحياة، فينغمس في صعوباتها ومشاكلها وينسى أو يتناسى حقّه في الاعتراض على من اختارهم ليمثّلوه وليخدموه.
ولكن لا بدّ أنّ في هذه المجتمعات طبقة مثقّفة وراقية فكريّاً، وتأبى الخضوع لطمع ساستها وشجعهم وخداعهم. كما أنّها ترفض الاستسلام لسياسة التّرهيب وتعي برؤيتها الخاصّة أنْ تتحمّل مسؤوليّة كبيرة تجاه المجتمع، فتناضل وتجتهد في سبيل حمايتها من مراوغة هؤلاء ومكرهم، وتتربّص لمكائدهم مهما كلّفها الأمر، حتّى ولو اضّطرت لتقديم أرواحها من أجل قول الحقيقة.
ونرى اليوم جليّاً نتيجة القمع السّياسي الّذي قابلته مجتمعاتنا لسنين مديدة، فانتفضت الشّعوب لتفجّر كلّ الأسى المختزن من حكامها. ولكن للأسف هذه الشّعوب وبحكم الحصار الفكري الّذي عانت منه طويلاً، ليست مؤهّلة لممارسة حرّيّة الرّأي والتّعبير، فقد وقعت في فخ الأحادية الفكرية؛ ففي الوقت التي تطالب فيه بحرّيّتها لا تقبل حرّيّة الآخر بدليل الصّراعات الطّائفيّة والمذهبيّة الّتي نشهدها. كما أنّها لا تقبل بالرأي المخالف لها وتعتبر صاحبه عميلاً. فإمّا ينتهج الجميع الرّأي الواحد، وإمّا يُخَوَّن. حتّى إنّها لا تقبل الرّأي المحايد وتعتبره أيضاً خائناً للقضيّة.
ثلاث محرّمات مرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً: فالدّين وبحظره على الفكر الإنسانيّ من مناقشة الأمور الدّينيّة، يزيده جحوداً وتحجّراً. وعدم إباحة السّجال في المواضيع الجنسيّة، يحصر الفكر الإنسانيّ بهاجس واحد ألا وهو الجنس، وقمع حرّيّة الإنسان وعدم السّماح له في المشاركة بآرائه يحدّد العقل الإنساني ويزيده قهراً وذلّاً. من هنا تشترك هذه المحرّمات في تعطيل العقل الإنسانيّ عن مهمّته الأساسيّة التي هي التحليل والبحث وتتّجه بالإنسان إلى السّلوكيّات الغرائزية فتكون بأغلبها ناتجة عن ردّات فعل وليس عن عقلانيّة.
والخطورة الكبرى تكمن في ارتباط الدّين بالسّياسة فيكون الأقوى لأنّه يطوّق الإنسان بقيود الخوف، وأيّ اعتراض عليه يلقي به في جحيم الكفر والنّبذ. فمن يعدّون أنفسهم أوصياء باسم الله على النّاس يستخدمون الطّريقة الأمثل والأضمن للسّيطرة عليهم.
المحرّمات الثّلاث خدعة كبيرة يهابها النّاس لأنّهم تربّوا على الخوف، والخوف يولّد الجهل، ويخلق أجيالاً عاجزة وغير خلّاقة. وهي خدعة لأنّ كلّ شيء يخضع للتّحليل الفكري والعقلي والدّراسة المعمّقة، بهدف الوصول إلى الحقيقة. ومهما اعتُقل الفكر الإنساني في سجون الجهل فلا بدّ له أن يبدع ويبتكر، ويثور على من يدّعون الحفاظ على الأخلاق، والقدسيّة الإلهيّة، والأمن والأمان.