جدلية الوعظ الصوفي

وتسفيه العقل المسلم

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

إن الصراع الفكري بين الفرق الإسلامية وإنعكاسه السلبي على أمتنا العربية والإسلامية سيما أن جذوره عميقة تمتد لحوالي أربعة عشر قرنا. يتطلب وقفة جادة لتحديد مواطن الزلل وكيفية الخروج منها بعد ان سددنا ثمنها من دمائنا، ولكي نجنب الأجيال القادمة دفع المزيد. هذه المشكلة هي فعلا العقبة الكؤود التي تعرقل مسيرتنا النهضوية وتشل عقولنا عن التفكير بمستقبلنا ومستقبل ابنائنا التي لا محالة ستلعن كل من قام بتعتميم مصيرها وضيع ثرواتها وسَبَبَ تخلفها عن ركب الحضارة.

إن كنا نعاني من تداخل وتشابك  المصالح الدينية والسياسية ونحن على عتبة الألفية الثالثة، فإن الدول المتطورة عانتها قبلنا في القرون الوسطى، وتجاوزتها عندما فصلت بين السلطتين الدينية المتمثلة بالكنيسة، والسياسية المتمثلة بالسلطة الحاكمة. وهذا البعد الزمني الهائل يؤشر درجة التباين الخطيرة بيننا وبينهم. إنها مسألة قرون وليست عقود وسنين حتى يمكن تجاوزها بسهولة! فهم يمشون للأمام ونحن نتراجع للوراء، هم يصنعون ونحن نستهلك، هم يزرعون ونحن نأكل، هم مشغولون بالعلوم والمخترعات ونحن مشغولون بالمذاهب والفتاوى البليدة. هم ينتجون الأسلحة ونحن نقاتل بها بعضنا البعض. هم يصنعون القوة ويستعينون بها علينا، ونحن نرفع أيدينا للسماء ومسمرين اقدامنا كالمسامير في الخشب، مبتهلون العون من الله ونصره دون أن نُعين أنفسنا.

عندما أطلق ماركس مقولته الشهيرة" الدين أفيون الشعوب" لعن العالم الإسلامي ماركس وسفه فلسفته الدينية، وصدرت فتاوى وعاظ السلاطين لتكفير الشيوعيين وكانت تورية بمعنى إجازة لسفك دمائهم. رغم إن ماركس كان يتحدث عن الدين المسيحي من كظاهرة تأريخية وإجتماعية أكثر منها لاهوتية، وعلى ضوء الكتاب المقدس وليس القرآن الكريم.

فهو كفيلسوف على بينة من الفساد الذي كان يعشعش في سقوف الكنيسة المسيحية، ودجل القساوسة وإستغفالهم وتغييبهم لعقول الناس بقصد جني ثمار تخلفهم من طاعة وثروة. وفي كتابه(حول الدين) تضمن ثلاث رسائل فقط حول الدين الإسلامي عنت بدراسة مقتضبة عن تأريخ وجغرافية شبه الجزيرة العربية قبل وبعد البعثة المحمدية وليس مناقشة العقيدة الإسلامية. فماركس نفسه صاحب المقولة الشهيرة لحل مشاكل البشرية" الإسلام هو الحل". بمعنى إنهم يشهدون بأن الإسلام هو الحل لمشاكل الإنسانية ونحن نرأى فيه معضلة! ولا نقصد بذلك الإسلام بجوهره النقي ورسالته السمحاء، بل الإسلام السياسي وما أفرزه من مذاهب تناحرة، حيث تتوحد إرادة رجال الدين والسياسة لتمزيق الأمة وتسفيه العقل المسلم.

الدين الإسلامي الحنيف هو ليس دين الخزعبلات والدجل والنفاق الذي يتحدث عنه وعاظ السلاطين. والشخصيات الإسلامية التي حملت مشاعل نور الإيمان لتنير دهاليز الجاهلية وأقبة التخلف هي ليست نفس الشخصيات المهزوزة التي يتحدث عنها وعاظ السلاطين. وآل البيت رضوان الله عليهم الذين طهرهم ربٌ العزة من الرجس، هم ليسوا نفس الأئمة السحرة والمشعوذين والدجالين اصحاب المعجزات والأساطير الذين يتحدث عنهم وعاظ الصفوية. والدين الإسلامي الحنيف هو ليس دين المتصوفة والدراويش القابعين في التكايا والصومعات يرتزقون من النذور والهبات. فالإسلام أطهر من أن يتلوث بأيدي تجار الدين والطفيليات التي تتغذى على اموال العوام من الجهلة والسذج، والمترهل بهم مجتمعنا الإسلامي مع كل الأسف.

كنا قد تحدثنا عن وعاظ المنابر الحسينية ودورهم الهدام في تسفيه العقل الشيعي، وسنتحدث في هذا المقال عن دور المتصوفة والدراويش في تسفيه العقل السني. فهما تؤامان سياميان يستخدمان نفس الأسلوب ولهما نفس الهدف وهو تشويه الإسلام وتقديم نسخة مشوه عنه لغير المسلمين. وعندما ترجع للأصول التأريخية لفرق التصوف ستجد إن للفرس دورا كبيرا في نشأتهم ورعايتهم وتوجيههم لتنفيذ مخططاتهم الشعوبية. فالصفوية والصوفية هما وجهان لعملة فارسية واحدة. رغم أن الصفويه كمصطلح- وليسك فكرة - أرتبطت بالحكم الصفوي، وكفكرة نفذت في فجر الإسلام. فالصفوية والصوفية هما من أمضى أسلحة الشعوبية وأكثرها فتكا وضررا على الإسلام والمسلمين. يذكر المستشرق الانكليزي  أدورد براون في كتابه( التأريخ الأدبي لبلاد فارس) بأن" التشيع والتصوف هما السلاحان اللذان إستخدمهما الفرس في حربهم ضد العرب". وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، فشواهد التأريخ القديم والمعاصر تدعم هذا الرأي.

فاكين الذي نزعوا لباس الب

لا إعرف فيما إذا كان  التشابه بين المصطلحين(الصوفية والصفوية) هو محض صدفة؟ أم هناك ارتباط وثيق بين المصطلحين؟ سيما مع تشابه الوسائل والغايات. فالمتصوفة يزعمون بأن فكرة التصوف ترجع جذورها أيضا لآل البيت ويرتبط التصوف أصلا بالإمام علي بن الحسين زين العابدين وإبنه محمد بن علي(الباقر) وإبنه جعفر الصادق. ( للمزيد راجع كتب التعرف لمذاهب أهل التصوف/الكلاباذي ابو بكر). فعبد القادر الكيلاني( مؤسس الطريقة القادرية) يدعي بأنه أخذ طريقته عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب(رض). لذا لم يكن مستغرب ان تُنسب اليه نفس قدرات الامام علي نفسه كإحياء الموتى ومعرفة علم الغيب والقول للشيء( كُن فيكن). وإبرهيم الدسوقي(مؤسس الطريقة الدسوقية) يرجع نسبه الى البيت العلوي. ومؤسس الطريقة المولوية محمد بن محمد بن محمدبن حسين الهاشمي( المكنى بجلال الدين الرومي) يرجع نسبه الى بني هاشم. ومؤسس الطريقة الرفاعية الشيخ أحمد الرفاعي يرجع نسبه الى الامام موسى الكاظم وهكذا.

تتشابه الصفوية والصوفية في الكثير من المسائل المتعلقة بالعقيدة سنتناولها في دراسة قادمة. ولكن من الجدير بالملاحظة ان معظم مؤسسي التصوف هم من الفرس كمعروف الكرخي، شقيق البلخي، السهروردي، ابراهيم بن أدهم، أبو منصور الحلاج، أبو يزيد البسطامي، صفي الدين اسحق الاردبيلي، عبد القادر الكيلاني، جلال الدين الرومي. و يمكن الجزم بأنه لم يكن في القرنين الثالث والرابع متصوفا عربيا إلا ما ندر. لذلك ليس من الغرابة أن يكون التصوف أحد معاول التدمير لبنية الإسلام، فإن إستعصى فهم أسباب إنحلال أمتنا الإسلامية، فتش دائما عن الفرس، فإن لم يكونوا عنصرا رئيسا كانوا عنصرا ثانويا. لم يؤشر في تأريخ حكوماتهم منفعة للإسلام والمسلمين بل العكس.

عندما تحضر لحلقات الذكر والدروشة وتسمع الأوراد والأذكار التي يذكرونها، نستذكر أدعية مفاتيح الجنان وضياء الصالحين، وعندما تتعالى أصوات الدفوف نستذكر صوت الطبول والمزامير التي يستخدمها الصفويون لإحياء مأساة كربلاء. وعندما يغرز الدراويش الدرباشات والسيوف في أجسادهم نستذكر القامات والسيوف والسلاسل الحديدية التي يستخدمها الصفويون في مراسم عاشوراء. وعندما تنظر الى طبيعة الحضور في المناسبات الصوفية والصفوية ستجد إن غالبيتهم من العوام والفقراء والمتخلفين تعليميا وثقافيا.

ممارسات ليست لها علاقة بالإسلام عن قريب أو بعيد، فلم نعرف عن الرسول الأعظم وكبار الصحابة وآل البيت من مشى منهم على الماء او طار في الهواء او أكل الجمر او حول العصا الى رجل يقضي له حوائجه أو يفترش المسامير وينام عليها كما يدعي أقطاب التصوف. ومثلما كانت مراسيم عاشوراء مستوحاة من المسيحية القديمة على يد الشاه اسماعيل الصفوي. فإن ممارسات الدراويش مستوحاة من ديانات شرقية قديمة كالهندوسية والمجوسية والسيخ والبوذية. لذا تجد في الهند وتايلند ودول شرقية أخرى من يمارس هذه الأفعال الجنونية وهم غير مسلمين! إنها إذن فنون أو شيء آخر،سَمِها ما شئت ولكنها بالتأكيد لم ولن تكون عبادة، ولاعلاقة لها بالإسلام. بل هي مصادرة لحقوق الله وتمليكها للبشر.

في معركة أحد جُرح الرسول(ص) وشَج عبد الله بن شهاب جبهته وأصابه إبن قمئة الليثي بأنفه ونزف دماءا كثيرة تمكنت إبنته فاطمة بصعوبة من وقفها. وعندما هاجر من مكة إلى المدينة قطع المسافات البعيدة مشيا على الأقدام وليس طائرا أو طويا للأرض كما يسبغ الدراويش على أقطابهم. وفي ترحاله يأخذ ما يلزمه من الماء والطعام كعدة للسفر، ولا يمتنع عن الأكل والشرب شهورا كما يدعي الدراويش مخالفين بذلك سنن الله ونواميس الطبيعة البشرية.

لو إفترضنا جدلا بأن للدراويش القدرة على الطيران والمشي على الماء والمكوث أشهر بلا زاد ولا ماء، ويغرزون السيوف والدرباشات بأجسادهم دون دماء أو وجع، واعتبرناها كرامات مثلما يزعمون! فما الذي قدموه بقدراتهم تلك من خدمات للبشرية؟ وما نفع المسلمين من هذه المكرمات؟ ولماذا لا يوجهون سيوفهم الى نحور أعداء الإسلام بدلا من نحورهم؟ وإن كانوا يطيرون في السماء ويمشون على الماء! لماذا لم يسخروا هذه القدرات الخارقة لمنفعة الجيوش الإسلامية من خلال رفدها بمعلومات عن قوات وتحركات الأعداء على أقل تقدير؟ يحدثنا التأريخ عن مواقفهم المخزية خلال الحروب الصليبية حيث تهانوا مع الأعداء. والحروب الفارسية ضد الامبراطورية العثمانية التي كانت سببا رئيسا في إضعاف شوكة الخلافة ووقف نشر الإسلام في أوربا.

الرسول الكريم(ص) عمل في الرعي والتجارة، وأبو بكر الصديق(رض)عمل في تجارة الأقمشة وفي اليوم التالي لخلافته حمل أقمشته على كتفيه ليتاجر بها. والفاروق(رض) عمل في التجارة أيضا. والامام علي(رض) عمل في الزراعة والزبير بن العوام(رض) في الخياطة، وكذلك بقية الصحابة الأجلاء. فهم لم يتميزوا عن بقية الناس بسبب مكانتهم الدينية الرفيعة. وكانوا يخالطون الناس ويعلمونهم ويشرحون لهم مسائل العقيدة، ولم يعتكفوا في صومعات وتكايا يرددون الأذكار والأوراد ليلا ونهارا. ولم يعتاشوا على الهبات والنذور والهدايا كالدراويش. فلا خير في إنسان سليم معافى يعيش على تعب وعرق الآخرين دون أن يشاركهم جهدهم. في حين عمل الدراويش لايزيد عن حلقات ذكر ودروشة وترويج خرافات ومغالاة وشطط. أفعال بلا نفع ولا يوجد لها موقع على خارطة الإسلام الصحيحة، بل على خارطة الشرك والدجل، بهدف تمويه الناس وحجب الحقيقة عنهم وتَغييب عقولهم وشَلٌ إرادتهم. ومن المؤسف إن أتباعم يثقون بهم ثقة عمياء ويسبغون عليهم عصمة بلهاء كأنهم صالحين وأولياء لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا خلفهم.

ان عملية تمليك الناس أعنتهم وإخراجهم من صدفة الأعراف والتقاليد والطقوس الخاطئة، وسحبهم الى حلقة النور، وشطب كلمة(مولانا، سيدنا وشيخنا) من عقليتهم، تتطلب رجال من طراز خاص لهم إلمام ودراية بالدين والتأريخ وعلم الإجتماع. رجال عندهم إرادة واعية متحفزة وقادرة على التحرك داخل شرنقة المجتمع وتنقيته من الأفكار والمعتقدات الخاطئة، التي يظنوها ثوابت في العقيدة مُسلٌم بها وغير قابلة للدحض والتمحيص أو المراجعة على أقل تقدير. إضافة إلى القدرة على إستقطاب القوى الإجتماعية المحركة والمؤثرة في البنية الإجتماعية وضمها تحت جناح المشروع النهضوي البناء.

ويفترض أن تكون تلك القوى متحفزة ويقظة للتيارات المتخلفة المعادية لتحركها النهضوي بأشكالها المقصودة والعفوية وغير المحسوبة. فرجال الدين الأدعياء سرعان ما يتحولون الى شياطين ومردة عندما تتعرض مصالحهم الشخصية وإمتيازاتهم الى الخطر. والعراق المحتل أبرز دليل على ذلك.

وكلما تمكنت النخب الإجتماعية الرائدة من إجهاض مخططات قوى الظلام في مهدها بوعي كلما أمنت لنفسها ولغيرها سلامة المسير والوصول الى هدفها. فالحكمة تحذرنا كل الحذر من أن قوى الظلام  ستتشبث بكل قوتها بعفريت العقلية الشعبية وليس من السهل إجباره على المغادرة وإرجاعه على الرجوع لقمقمه. إنها مهمة صعبة حقا، ولكنها ليست مستحيلة. وهي مهمة إنسانية ودينية ووطنية، تستجيب لتعاليم السماء وقوانين الأرض.

إن النخب الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحوث والدراسات وعلماء الدين الأفاضل ممن لم تصافح أيديهم ثعالب السياسة الماكرة، وكل مواطن يعتز بدينه ووطنه وشرفه يتحمل جزءا ولو يسيرا من مسؤولية التوعية والتثقيف الجمعي، ويترتب عليه واجب الدفع بإتجاه بناء عقلية انسانية واعية متفهمة، تتوافق مع حركة التطورالحتمية، وتتفاعل إنسانيا مع روح العصر.

والله من وراء القصد.